الخميس ٢٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٢
بقلم عادل عامر

مركز صنع القرار في الدولة المصرية

كان إصدار الإعلان الدستوري بحاجة إلي فقه الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي بعد ثورة25 يناير، وليس فقه الدستور فقط. وكان الرئيس بإمكانه إصدار ما يشاء من قرارات أو إعلانات إذا سبقها تحقيقه إنجازا اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا ملموسا، وهو ما كان يمكن أن يمثل جسرا للعبور الآمن لبرنامج الإخوان، أما البدء باستصدار قوانين وإعلانات دستورية من دون أن يسبقها ذلك فإنه أمر لا يمكن تمريره. وحصاد كل ذلك هو تضييع أهم فرصة في تاريخ جماعة الإخوان المسلمين والإسلام السياسي بشكل عام, في البلد التي تمثل موطن وأم الجماعة في العالم. هناك عامل القيود الدستورية على صناعة القرار، و لكنه أمر يحتاج مقال مُنفرد، لهذا لم أضمّنه هنا وهناك بعض الإرتباطات السياسية تجاه اسرائيل و إيران و سياسات الدول العربية، ولكن لم أضمنها أيضاً لضيق المجال، و قد نعرضها في جزء ثالث من المجموعة..

إن مطلب الفريق الرئاسي فى مصر لم يكن غاية في حد ذاته، وإنما وسيلة لإيجاد «مطبخ» استراتيجي مؤسسي، يزود الرئيس بكل الأسباب والمقدمات الصحيحة، التى تهيئ له اختيار وإصدار قرار سياسي، وفق أسس علمية تحقيقاً للمصالح العليا للوطن المرجوة من إصداره.
الفريق الرئاسي المصري كان مأمولاً أن يضم عدداً محدوداً من الأفراد في قمته، موصول بقاعدة أوسع من المراكز والجماعات البحثية، تشتمل على خبراء ومسؤولين سابقين وأكاديميين، يمتلكون الكفاءة والخبرة والمهنية بصرف النظر عن الانتماءات السياسية والحزبية، لكن فكرة الفريق الرئاسي تحولت من الجد إلى الهزل، فتبدل الهدف من إنشاء «مطبخ» مؤسسي علمي إلى «ديكور» لحكم الفرد أو الجماعة المنغلقة، وبدلاً عن الكفاءة معياراً للاختيار، اعتمدت المصالح السياسية معياراً، فضم الفريق كثرة من المؤيدين تسديداً لفواتير انتخابية، وأقلية من اتجاهات أخرى للإيحاء بـ«قومية وشمول» الفريق لكل ألوان الطيف السياسي، هذا من حيث التشكيل.

أما من حيث المضمون، فالفريق الرئاسي بدءاً من نائب الرئيس مروراً بالمساعدين وانتهاءً بالمستشارين، جاء منزوع الصلاحيات وبلا اختصاصات واضحة أو محددة، وإنما يختصون بما يكلفهم به أو يستشيرهم فيه الرئيس، إنهم يعملون بـ«القطعة» أو «اليومية» ووفقاً للمزاج الرئاسي.

فمثلاً قرارات الرئيس بزيادة «بدل الجامعة»، وضخ700 مليون جنيه للنقابات الطبية، وزيادة أسعار توريد الأرز والقطن، كيف أصدرها الرئيس؟ ومن شارك في صنعها من الفريق ومن خارجه؟ ولأي دراسات استندت؟؟!

وأيضا: وفق أي حسابات وبناءً على أي استشارات أصدر الرئيس قرارعودة البرلمان؟
ومثال أخير.. طرح الرئيس المبادرة الرباعية بشأن سوريا: فهل أعدت دراسات عن المقابل الذي يمكن تقديمه لإيران لتحييدها؟ وما انعكاس ذلك على الداخل المصري؟ وما موقف السلفيين والتيار الإسلامي تجاه الأمر؟؟!

مصر لن تتقدم أبداً: إذ ظلت تصنع قرارها السياسي بناءً على «حكمة» و«توجيهات» سيادة فخامة الرئيس، أو توافقات «دائرة مغلقة»، ولكنها ستنهض بصناعة قرارها بشكل مؤسسي علمي قائم على الكفاءة والمهنية.

باختصار: ترى أن صناعة القرار في مصر تعتمد على صانع القرار وحده (أعلى سلطة في الدولة) و مجموعة العوامل التي تؤثر في صناعة القرار تُعتبر هامشية ماعدا المؤثرات الخارجية

اتفق علماء السياسة على أن الدولة هي الإطار الذي يتوج البنيان الاجتماعي منذ الفلسفة اليونانية مرورا بالفكر الإسلامي ووصولا للفكر الحديث، حيث استقر القول بأن اكتمال الإنسان الأخلاقي لا يتم إلا في ظل الدولة، ومن هنا استمدت طبيعتها التي تنفرد بها وسيادتها على جميع أشكال التجمعات الأخرى. فالدولة في أحد تعريفاتها المستقاة من نظريات العقد الاجتماعي والمستلهَمة من تاريخ الفكر السياسي الإسلامي نظام معياري للقيم العامة في المجتمع. وهو ما يعلو على الدولة ككيان مؤسسي وبنية قانونية وإدارية، والدولة كسلطة حاكمة.

لم يكن غريبا أن تسعى الدولة القومية إذن لأن تكون فاعلا أخلاقيا كي تكون لها الهيمنة على المرجعية السياسية وتنزعها من المؤسسات الدينية من ناحية والاجتماعية من ناحية أخرى، وتؤسس بذلك سيادتها في مواجهة جميع الأطراف في الداخل والخارج، محتكرة المجال الرمزي والثقافي بقدر ما احتكرت أدوات القوة. والحقيقة أن قدرة الدولة تعني بالأساس القدرة على تنفيذ الأهداف الرسمية والتعبير عن مصالح القوى الاجتماعية، عوضا عن التصور الخاص باستمداد الدولة قوتها من التغلب على المعارضة القوية. ومن ثم فإن العلاقة بين الدولة والمجتمع هى نتاج التفاعل بين الفاعل القومي والفاعل الاجتماعي رغم أن العلاقة بينهما غير متكافئة.

ومن ثم فإن الدولة الضعيفة تكون غير قادرة على تنفيذ السياسات العامة وتفتقد الاستقلالية في مواجهة النخب الاجتماعية المهيمنة. كما أن الدولة الضعيفة تفتقد وجود إدارة قائدة تمتلك السلطة الكاملة على عملية صنع القرار، كما أن أجهزتها ليس لديها المعلومات الكاملة ولا تتسم بالمهنية. ومن ثم فإن قوة الدولة ترتبط بوجود إدارة متناغمة وقوية لديها تماسك في رؤيتها لعملية صنع السياسات، ولديها مهارة توظيف المنهج التفاوضى والتشاركي عند اتخاذ القرار. كما أن هذه الإدارة القوية تمتلك المعلومات الكافية بداخلها.

وقد كتب عالم الاقتصاد جونار ميردال مفهوم "الدولة الرخوة" في تحليله لنماذج التنمية في آسيا، واصفا الدولة الرخوة بأن من صفاتها أنها تصدر القوانين ولا تطبقها، لأنه في الدولة الرخوة لا تجد من يحترم القانون فيعم الفساد فتفقد الدولة مكانتها.

وقد طبق الباحث سامر سليمان تلك الرؤية على الدولة المصرية في أطروحته للدكتوراه التي صدرت في كتاب تحت عنوان (النظام القوي والدولة الضعيفة) واصلا إلى استنتاجات مفادها أن "الدولة القوية" تأتي من تحالفها الاجتماعي الحاكم الذي يسمح بالتغيرات الاقتصادية ويحقق أهدافا مجتمعية. ويرى أن مصر منذ قيام ثورة يوليو ظلت نموذجا للصراع الطبقي والاجتماعي، فقد أممت الثورة الصراع الاجتماعي لصالحها عبر معادلة "الدولة الريعية-الرعوية"، حيث مثلت مصر بمواردها الكثيرة فرصة للاستبداد السياسي، لتقوم الدولة بتوزيع تلك الموارد بمنطق العطايا وربطها بالولاء السياسي للنظام الاشتراكي ثم تشوه هذا النظام في ظل الانفتاح وصولا إلى عهد مبارك، حيث تمحورت موارد مصر في قناة السويس والبترول والمساعدات الأجنبية.

وفي عهد مبارك توسع دور الدولة الأمني، لكن تقلصت الإيرادات التي وصلت إلى أضعف مدى في منتصف الثمانينيات، فتمت مراجعة تعريف دور الدولة، فإذا ما تدفقت الموارد اتسع دورها، وإذا نضبت الأموال تقلص مجال عملها. ويرى أن مجال الإنفاق هو الإنفاق للسيطرة السياسية، فمثلا الإعلام والثقافة والشؤون الدينية هي مجالات الإنفاق التي مثلت التغطية السياسية لحكمه. وفي سبيل الحصول على شرعية جماهيرية تكفل التغطية السياسية حرصت الدولة على دعم السلع، وبالتوازي تم الخضوع لمقررات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في تغيير هيكل الاقتصاد بتصفية القطاع العام. التخلص من نموذج «القائد المسيطر» على صناعة القرار هو أحد طرق التحول الديمقراطي المتوافق عليها. فذاك النموذج يعكس تردي وضعية المؤسسات والأجهزة التنفيذية. واستمرار إتباعه اليوم يعطي مؤشرات على طبيعة شخصية القائد المنتخب للمرة الأولى في تاريخ مصر. وأما محاولة التنبؤ باحتمال أن يتبع الرئيس مرسي نموذجاً مضاداً لنموذج «القائد المسيطر» في رسم وصناعة السياسة فهو أمر يتوقف على القناعات الشخصية للرئيس من جهة (مدى إيمانه بأهمية مأسسة صناعة القرار)، واعتماد مبدأ مشورة أهل الخبرة لا أهل الثقة، ورؤيته لمفهوم الاستقرار كأساس للتنمية، ورغبته في العمل داخل أطر تنظيمية ومؤسسية، وإفساح المجال لاتساع حرية الحركة أمام الأجهزة التنفيذية صانعة القرار في السياسة الداخلية كوزارتي المالية والاقتصاد، وفي مجال السياسة الخارجية كوزارة الخارجية. كما يتوقف على حجم استجابته لضغوط قوى المعارضة الداخلية، وحجم هذه الضغوط بحد ذاتها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى