الاثنين ٧ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٣
رُؤى ثقافيّة «35»
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

ألياف الماء!

في مقاربةٍ نقديَّةٍ سالفةٍ، بعنوان «بين الشِّعر والشِّعريّة»، نُشرتْ في (ملحق «الأربعاء»، جريدة «المدينة» السعوديَّة، الأربعاء 5/ 10/ 2011)(1)، أشرتُ إلى أن نثائر الكاتبة المغربيّة (نجاة الزباير)(2) تَتَّسِم بلغتها الشِّعريّة الانزياحيّة المدهشة، وكأسها الصوفيّ المترع بالإشارات:

«كان الفَجرُ يجرّ نبرةَ صمتهِ/ حين حملتْه تقاسيمُ النَّبض نُورًا/ يمحو ويبني أسماءً/ تدلَّى من ضوضاء الليلِ/ رمزًا/ وغاب في ماء الكشف.»(3) «كانت لُغة ابن الفارض تصطادني/ دونتُ.../ انفتحتْ في النبضِ ابتهالاتٌ/ دفنتُ أسمائي في حبرِ السؤالِ/ وفيه انتهينا.»(4)
في تقنية من التوالج في النصوص بين ملامح السردي والشِّعري. وهي تتميَّز كذلك بلغةٍ رفيعةٍ، كما في مجموعاتها «أقبض قدم الريح»، و«قصائد في ألياف الماء»، و«لجسده رائحة الموتى». وكنتُ وعدتُ بإطلالةٍ أخرى على نسيجها الجميل. مشيرًا إلى أن تجربة الكاتبات عمومًا تبدو أكثر ثراءً وشِعريّةً في النثيرة والنَّثْرِيْلَة. ولعلّ المرأة كانت دائمًا- عبر التاريخ- لصيقةً بأجواء الحكي والنثر أكثر منها بأجواء الشِّعر، بمعناه الأجناسي المحدَّد؛ حتى لتوشك النثيرة والنَّثْرِيْلَة تكونان تجربتين أنثويَّتين بامتياز، بالمعنى الأسلوبي والفنِّي، لا بالمعنى البيولوجي لجنس الكاتبـ[ــة] بالضرورة. على أن تقييم النصوص ينبغي أن يكون وَفْق خصائصها، وألوانها، لا وَفْق أسماء كاتبيها، وانتماءاتهم، وشهرتهم، وأجناسهم، أو بمعايير: «مع» و«ضِدّ»، وعلى مهاوي حزبيّات الهوَى العربي، هنا أو هناك! وما وظيفة النقد، إذن، إنْ هو غَنَّى مع الشعراء ورَقَص، أو مشى مع الناثرين مشيَ الحمام الزاجل وخَطَب مرضاتهم، ناسيًا في غضون ذلك مهمَّته العِلْميّة؟! ولذا جاءت محاولاتي الاجتهاديّة للتفريق بين ما يمكن أن يسمَّى نثيرة، وما اقترحتُ تسميته (نَثْرِيْلَة)- أي: (نصّ النثر-تفعيلة) حيث يزدوج النثر بالتفعيلة في النصّ(5)- وما هو لا هذا ولا ذاك، بل هو نثرٌ أدبيّ، لا أقلّ ولا أكثر. ذلك أن قضيَّة القضايا المعرفيَّة ناجمة عن عدم تحديد المصطلحات. وهذه مسألة فلسفيّة معروفة، أشير إليها منذ أفلاطون. غير أنه يأتينا اليوم من يريد- لأمرٍ في ذهنه أو نفسه- أن يعيث في هذا المجال. وهو يحسب أنه يُحسن صُنعًا، أو ربما كان يكذب، أو يجهل. و«الشِّعريّة» عالَمٌ رَحْبٌ جدًّا من الجماليّات التعبيريّة، فيما «الشِّعر» جنسٌ أدبيٌّ واحدٌ خاصّ. فليس كلّ نصٍّ جميلٍ قصيدة، وإنْ تشابَه على بعضنا الشِّعر، (كما تشابَه البقر على بني إسرائيل)! وفي النثر آفاق جماليّة للبوح، أكثر من الشِّعر بآماد، لكنها ثقافتنا الشِّعريّة، وضآلة الوعي اللغوي والفنِّي، اللتان تخيِّلان إلينا أن ما لامس حوافَّ الدهشة من التعبير هو: «شِعرٌ»، بالضرورة! ونحن حينئذٍ، أي حين تقفز إلينا هذه الصِّفةُ العامّيّة: «شِعر»، إنما نَعني في الحقيقة: «جميل»/ «شاعريّ»/ «مؤثِّر». غير أنه قد أصبح يُستسهل النعت، ويُمتهن التصنيف، حتى مِن غير المؤهَّل للنعت أو التصنيف، لا لغةً ولا نقدًا. وفي مقابل هذا، يجب القول: أَنْ ليست كلّ مَوْسَقَة أسلوبيّة شِعرًا كذلك، كما يحلو التصوُّر لدى بعض الناظمين وأشياعهم. من «القصيدة النبويّة»، لنجاة، تقرأ:

«2- غَلَّقتْ أبوابَ غوايتها/ تمدَّدتْ فوق لحاف الأَلَقْ/ تتنشَّق أنفاسًا مبلَّلة بالأرَقْ/ وبين يديها رقصاتُ هَجْسي/ كيف أُعانقُ صحوَها/ ونبضي في كبريائها احترقْ.
3- دُرتُ حَولها سَبْعًا/ كانت صُفرةُ الصمتِ/ تتصاعد دُخانًا/ جذبتني إِلَيَّ/ سَقَطتْ نفسي فوق لظاها...».(6)

هكذا تتكاثف النصوص في لغة انزياحيَّة جميلة، مكتنزة بروائح التراث، والتصوُّف، وشجون الوطن. ويُلحظ هاهنا الاحتفاء بالتقفية: (الأَلَقْ، بالأرَقْ/ احترقْ...). وتلك من خصائص ما أسميته بالنَّثْرِيْلَة، غير أننا لا نجد حضور المكوِّن الآخر للنَّثْرِيْلَة، وهو الإيقاع التفعيلي، إلّا على نحو عابر. كما في قولها، مثلًا، من نصٍّ بعنوان «قصيدة كسرتها أوزان الهوى»:
«كان الضوء في كفِّي/ قصيدةً طريدةً/ وحين يطويني الوطنُ خفيةً/ بين غمام الكلام/ أتصبَّب شظايا لا تُحسن الانحناء.»(7)

حيث تُلمح لوثةٌ من النَّثْرِيْلَة، غير أن النصَّ يظلّ نثيرةً، خاليةً من الإيقاع التفعيلي، إجمالًا. إلّا أن نجاة تبدو في بعض نصوصها منزلقةً فعلًا، وبوضوح، إلى الإيقاع النَّثْرِيْلِيّ، كما في نصِّها بعنوان «غنج متبرجة»:

«اتكأ/تُ على/ لغوها/ أَتأمْـ/مَـل خَمْـ/ـرتها المنسابة من وثنيّة الهوى... قالتِ اقـ/ـتربي... صرختْ/ وكأنْـ/ــنِيَ أهْـ/ـذي: ألم/ تكتفي/ بزلا/زلهِ/ تتهدْ/دلُ بيْـ/ـنَ أنفاس الهَجْرِ؟... وقالت/ سافري/ في شِفا/هِ النها/رِ فتِلْـ/ـكَ بقا/ مديـ/ـنةٍ لا تنام!»(8)

إن النَّثْرِيْلَة- كما عرَّفتُ بها في دراساتي السابقة حول بعض النصوص الشاعريّة المعاصرة- شكلٌ كتابيٌّ جديد، يتمثّل في نصوصٍ إيقاعيّةٍ، لكنها غير منضبطةٍ على التفعيلة، كما أنها تحتفي بالتقفية. ومن ثَمَّ فهي لون جديد، يقع بَيْن بَيْن، أي بَيْن النثيرة وقصيدة التفعيلة. وظاهرة شِعر النَّثْرِيْلَة تبدو لدى الشعراء العرب الذين ظلُّوا على قُرب من الشِّعر العربي، فتربَّوا على بنياته، وتروَّوا بإيقعاته. وهم إلى ذلك غير سائرين على درب من اتَّخذوا النثيرة انبتاتًا وعقيدة، حتى إن بعض أولئك- المتبتِّلين في تعصُّبهم- ليستنكف من أن يظهر الإيقاعُ في شِعره، حتى إذا لَحَظَه، أو قُل: لوحظ له، أصرّ على الانحراف بأسلوبه يمنةً ويسرةً، والالتواء بتعبيره، حتى يتبرأ من سُبَّة الإيقاع والتفعيلة، ليس إلّا!

كما أن غزارة اللغة، التي تتَّصف بها تجربة الزباير، تبدو وليدة علاقتها بالتراث، وبالنصوص الشِّعريَّة لرموز الشِّعر. فليست من الآخذين بمبدأ الانقطاع الحداثي المزعوم. ولذلك تجدها تستدعي شعراءَ، كمحمود درويش، المتنبي، نزار قبّاني، إلى جانب آخرين من الشعراء والناثرين، كإدغار ألان بو، تي إس إليوت، و فيودور دوستويفسكي. تسدعيهم استدعاء استلهام، غالبًا، لا استدعاء توظيف.

والحوار سِمَةٌ ظاهرة في نثائر نجاة. ممّا يُكسب نصَّها طابعه السرديّ المثير. وغالبًا ما يدخل الوطن في خطابها معادِلًا حواريًّا، بين الذات الكاتبة وحلمها الوطني، أو القومي. ذلك أن «هَمَّ العَرب»، كما تُشير في أحد النصوص(9)، يوشك أن يكون موضوعةً رئيسةً (theme) لمعظم نصوصها، إنْ لم يكن كلّها، بحيث تبدو وكأنها تكتب نصًّا بكائيًّا واحدًا، ممتدًّا على أطلال الأُمَّة: «عُدتُ لصاحبي/ أروي له داءَها/ وجدتُه قُربَ قَبرها/ يقرأ عليها سورةَ ياسين/ لم يكن في الجنازة سوى نهارٍ يَئِنُّ/ وشَعبٍ يلعنُ/ ووطنٍ يلعقُ التراب!...»(10) حتى إن عنوان مجموعتها «لجسده رائحة الموتى» إنما يشير إلى جسد الوطن. ومن جهة مقابلة كان ذاك الهاجس الحواري بين (الذات الكاتبة) و(حلم الوطن) وراء تردُّد مصطلح «قصيدة» كثيرًا، في عناوين النصوص وتضاعيفها: (القصيدة النبويّة، قصيدةٌ متسوّلة، شراشف من قصيدة عارية، جذبة فوق كتف القصيد، قصيدةٌ ماكرة، قصيدة كسرتها أوزان الهوى، قصيدة بعثرتها أصابع الظن، قصيدةٌ عمياء، قصيدةٌ شريدة، قصيدةٌ مشاكسة، قصيدةٌ ضائعة).
نجاة الزباير: ناثرةٌ شِعريَّةٌ مميَّزة، ماتعة، جديرة بالاحتفاء والقراءة:

«زحفتْ في دُجنةِ اللقاءِ/ رِجلاها قَصَبٌ/ خَطوُها بَرْقٌ/ فمُها محارةُ ضوءٍ/ عيناها ينابيع حَدْسٍ/ صلاتُها خُبزُ نهارٍ مُبعثَرٍ بالأنينِ/ وفي حقيبتها ظمأ.»(11)
«حَبَتْ في زَبَدِ الحُروفِ طَيِّعةَ الظِّلالِ/ رَنَوْتُ إليها تَسرقُ نفسي/ تُبَعـثِـرُ تَسميتي/ - «هَيْتَ لكْ»/ قال قصيدُ أسرارِها...».(12)

(1) رابط المقال: http://www.al-madina.com/node/330793?arbeaa

(2) جاء من سيرتها الذاتية، الواردة في مجموعتها «قصائد في ألياف الماء»، أن ديوانها «النخب الأخير» فاز بإحدى الجوائز العالميّة لدار نعمان للثقافة بلبنان، 2006. وكانت مِن بين العقول العربيَّة التي كرّمتها (الجمعيّة الدوليّة للمترجمين واللغويين العرب)، 2007. تُرجمت بعض قصائدها إلى الإسبانيّة، 2007. لها عدد من الكُتُب المنشورة. صدر لها مؤخَّرًا: «فاتن الليل»، 2012. لم أطَّلِع عليه.

(3) (2007)، أقبض قدم الريح، (مراكش: دار وليلي)، 63.

(4) م.ن، 74.

(5) انظر: بحثنا «النَّثْرِيْلَة: قراءة في البنية الإيقاعيّة لنماذج من (النثر-تفعيلة)»، مجلّة عجمان للدراسات والبحوث، عجمان- دولة الإمارات، 2008، م7، ع2، ص ص 42- 59.

(6) (2009)، قصائد في ألياف الماء، (مراكش: دار وليلي)، 8- 9.

(7) (2007)، أقبض قدم الريح، (مراكش: دار وليلي)، 59.

(8) قصائد في ألياف الماء، 39- 41.

(9) (2010)، لجسده رائحة الموتى، (مراكش: المطبعة والوراقة الوطنيّة)، ص19.

(10) أقبض قدم الريح، 29.

(11) م.ن، 34.

(12) قصائد في ألياف الماء، 65.ـ[الكاتب: أ.د/عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «في الحداثة واللغة»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، العدد 12208، الاثنين 3 ديسمبر 2012م، ص23]،


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى