السبت ٢٦ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٣
بقلم حوا بطواش

أنا أحسّ

(صور من القرية)

"زياد؟"

"نعم؟"

"هل سألت نفسك يوما كيف نقول بلغتنا الشركسية: أنا أحسّ ؟؟"

وجّه إليّ زوجي نظرة استغراب فيها شيء من الغيظ، كأنه يقول دون أن يلفظ: ما هذا السؤال السخيف؟ ثم سرعان ما عاد بنظره الى التلفاز.

كنا جالسين في غرفة الجلوس، وقد هدأ البيت أخيرا من صخب البنات بعد أن لجأوا الى النوم. رد زياد بشيء من الفتور: "لا."

سألته: "أليس غريبا حقا أننا لا نعرف هذه الكلمة ولا نستخدمها في حياتنا؟"
دارت عيناه وهو يرد: "لا."

"أنت لست جادا، كالعادة. لماذا لا تفكر معي قليلا؟"

"بماذا أفكر؟"

"في الأيام الماضية فكرت طويلا، ونبشت في ذهني كثيرا ولم أجد كلمة أعرفها بلغتنا مقابلة لكلمة: أحسّ، إحساس. كيف كبرنا ونحن لا نعرف كيف نقول: أنا أحسّ؟! ولا نسأل بعضنا: ماذا تحسّ؟ كيف تربينا، وما زلنا نربي أولادنا، دون أن نستخدم هذه الكلمة ولا نعلّمهم كيف يعبّرون عن أحاسيسهم؟ أليس ذلك مزعجا حقا؟"

فكّر قليلا بكلامي، ثم وجدته يقول بلهجة باردة: "لا."

"طبعا، يا رجل. وما يهمك؟ لست بحاجة الى هذه الكلمة على الإطلاق."

"الشركس طوال حياتهم كانوا شجعانا وأقوى من استخدام مثل هذه الكلمات."

"أتظن أن ذلك هو السبب؟"

"لا أدري ما هو السبب. أنا عامل بسيط في مصنع، كما تعلمين، وبالكاد أقرأ الجرائد أو أسمع الأخبار. فإن أردت التوغل في هذا الموضوع عليك أن تسألي أحدا غيري."

"معك حق. أنت أصلا لا تكترث بالأمر."

قررت أن أسأل هذا السؤال مدير مدرسة قريتنا التي أدرّس فيها، والمعروف باهتمامه بتاريخنا ولغتنا وثقافتنا الشركسية. سألته: "كيف نقول بلغتنا الشركسية: أنا أحسّ؟"

فوجدته يقطب وجهه أمام سؤالي الذي لم يخطر على باله قط، هكذا بدا لي، وفكر طويلا. أخيرا رد: "سأبحث عنها في كتبي وأعود إليك بالإجابة الدقيقة غدا."

وفي اليوم التالي، جاء إليّ من الصباح الباكر بالإجابة الدقيقة، الشافية، وقال لي كلمات لم أسمع بها من قبل!

سألته: "أليس غريبا حقا أننا لا نعرف ولا نستخدم هذه الكلمات في حياتنا اليومية؟"

فاتّخذ وجهه هيئة الجدية البالغة وأخذ يشرح لي: "هذا الأمر هو نتيجة صراعنا كأقلية بين مكونات هويتنا والبيئة المحيطة بنا. هناك صراع دائر بين لغة الأقلية ولغة البيئة المحيطة بها في مسألة تقبّل مصطلحات البيئة، وللأسف، غالبا، الأقلية هي المغلوبة، هي التي تُخنع، تذوب وتفقد مكونات هويتها. عدم استخدامنا كلمات معينة، مثلنا ومثل الأقليات الشركسية الأخرى في البلدان الأخرى، هو نتيجة ذلك الصراع. لاحظي أن الكلمات الأولى التي تتنازل عنها الأقلية هي الكلمات المجردة التي تعبّر عن الأحاسيس والتجارب، أي الكلمات غير العملية وغير الملموسة. هذه نتيجة لتأثّرنا كأقلية بالبيئة المحيطة بنا، كما أننا نحن الشركس لدينا سمة الكبت أو ضبط النفس ("حينابة"*،"وجِتة"**) التي تُربينا على عدم استخدام هذه المصطلحات التي تعبّر عن الأحاسيس والتجارب."

"أليست هذه خسارة حقا أن نتنازل عن هذه الكلمات المهمة في حياتنا؟"

"صحيح."

"اذا كانت لغتنا الأم ناقصة، أي أننا نعرفها بشكل ناقص بسبب كوننا أقلية، فلماذا نصر على الحفاظ عليها؟ ما أهمية ذلك؟"

"إذا فقدنا لغتنا سنفقد كل شيء. سنفقد هويتنا."

"وهل اللغة هي التي تحدد الهوية؟ هناك العديد من الأقليات في العالم التي فقدت لغتها الأم ولكنها في ذات الوقت تحافظ على هويتها وخصوصيتها كجماعة عرقية مختلفة. فهل اللغة هي المكون الأساسي الذي يحدد الهوية العرقية؟"

"هي مكون أساسي بالطبع."

"ولكن، أتظن أنه سيكون بمقدورنا الحفاظ عليها حتى بعد أربعين أو خمسين عاما من الآن؟ أصلا لغتنا الشركسية المتداولة بيننا الآن ضعيفة، مخلوطة باللغات الأخرى، ناقصة وليست كافية للتعبير عن كل أفكارنا ومشاعرنا ورغباتنا."

"حالنا أفضل من حال العديد من الجاليات الشركسية الأخرى في الدول الأخرى."

"صحيح. ذلك أن دولة اسرائيل تشجعنا، ونحن نرحب بذلك طبعا، على الإحتفاظ بلغتنا وعاداتنا وتقاليدنا تمييزا لنا عن العرب والمسلمين في هذه البلاد. أصلا نحن منذ البداية هكذا أردنا."

"طبعا، ذلك حتى نحمي أنفسنا من الاندماج والانصهار والاندثار."

"وما الحل اذن؟"

"الحل أن نكون معا، أي نعود الى وطننا، القفقاس."

"أنت تعلم أن ذلك لن يحدث. نحن الآن نعيش في واقع جديد فرض علينا قسرا ويجب أن نتأقلم في بيئتنا الجديدة، ويزعجني أنني لا أستطيع التعبير عن أحاسيسي بلغتي الأم وعشت طوال هذه السنوات دون أن أقول في حياتي بلغتي الأم: أنا أحسّ، ولا أستطيع أن أعلّم بناتي كيف يقولن: أنا أحسّ، ولا أستطيع أن أسألهن: ماذا تحسّين؟ وكيف تحسّين؟ ولماذا تحسّين؟ ومصطلحات أخرى مثلها لا أعرفها ولا أستخدمها في حياتي لأنني، ببساطة، لا أعرفها."

هزّ برأسه موافقا... ولم يجب بشيء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى