الجمعة ١ شباط (فبراير) ٢٠١٣
رُؤى ثقافيّة «39»
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

في الإعراب وعربيَّتنا الأولى!

منذ مُدَّة داخل حول مقالاتي عن الفصحى والعامِّيَّة أخٌ فاضل من القرّاء، في رسالةٍ إليَّ، يقول فيها: إن «اللغة الأدبيَّة في أيِّ عصرٍ من العصور هي اللغة الرفيعة، وإن العرب لم تكن لغتهم في حياتهم العامَّة ومجالس سَمَرهم كلغة الشِّعر والخُطَب. ومن ذلك مسامراتهم، وقد دَوَّن الرواة مسامراتهم، وهي مِن قبيل الأدب الشعبي». وأقول: إن في هذا جانبًا من الصّواب، غير أن لغة تلك المسامرات كانت فصيحة إجمالًا، ولم تكن عامِّيَّة كعاميَّتنا اليوم، ولم ينقل الرواة قطّ عامِّيَّةً للعرب، بما تعنيه هذه الكلمة من معنى، لا في جاهليَّتهم ولا في القرون الأُولى من الإسلام. وإنما كانت ثمة اختلافات لهجيَّة، مستوعبة في العربيَّة الفصحى، جاء بها الشِّعر العربي، وورد بعضها في القرآن الكريم، وأقرَّها الرسول في ما سُمِّي بالحروف السبعة، وتلوَّنت بها قراءات القُــرَّاء.

غير أنه لا تناقض هاهنا بين الموقف من المدِّ العامِّيّ العارم، والقول إن عامِّيتنا اليوم، ولا سيما في شِبه الجزيرة العربيَّة، ما تزال فصيحة الجذور والأرومة، تحتاج فقط إلى نفض الغبار عن وجوهها. وليست الهُوَّة بين العامِّيَّة والفصحى بتلك الفُوَّهة الهائلة، كما يخيِّلها بعض الناس، ويروِّج لها بعض «الإرهابيِّين!» اللغويِّين، وكأنهما قد باتتا لغتين مختلفين. حتى إننا لنلحظ، جرّاء هذا الوهم، تكلُّف من يريد التعبير بالفصحى، وكأنما هو يُترجم من لغة إلى لغة، فيضِلّ الطريق بين اللغتين. ولنأخذ نموذجًا شاهدًا على هذا. ليكن لأديب كبير، كـ(نجيب محفوظ) في لغته الروائيَّة. فمحفوظ يعمد كثيرًا في رواياته إلى ترجمة الاستعمالات العاميَّة إلى الفصحى. كأن يقول مثلًا: «لن أغيب إلَّا مسير الطريق»(1)، بدل: «مسافة السِّكَّة». أو تراه يتأرجح بين المستويين، فيُراعي تفصيح العامِّي تارةً، ويترجمه تارة. كأن يقول: «السكوت غاية ما نرجو عندك من خير»(2)، أي باللهجة المصريَّة: «نَقّطنا بسكاتك!» فيما قد يستعمل هذا التعبير اللهجي في موضع آخر من الصفحة نفسها. وأنت واجد في بعض معجمات العربيَّة إشارتها إلى ما يُشبه ذلك التعبير العامِّي، كبعض الأَمْثَالِ، من قبيل قولهم: «هو نُقْطَةٌ في المُصْحَف»، إِذا اسْتَحْسَنُوه. وقولهم: «نَقَّطَ بِهِ الزَّمَانُ»، أو «نَقَطَ بِهِ الزَّمَانُ»، أَيْ جادَ بِهِ وسَمَحَ. و«نَقَّطَهُ بِكَلامٍ تَنْقِيطًا»، أي: آذاهُ وشَتَمَهُ أو عرَّض به.(3) هذا بالإضافة إلى فكرة «نقوط العروس»، حسب الثقافة المجتمعيَّة المصريَّة. وبذا فإن التعبير بـ«ـالتنقيط بالسكوت» تعبير استعاريّ، كأن السكوت قد صار كنقوط العروس، ممَّن لا ينطق بخير. هذا مثال، من كثير. فلماذا التنصُّل عن هذا كلِّه للإتيان بعبارة طويلة سمجة، خُلْوٍ من حُمولة ذلك التعبير الشعبي، لنقول: «السكوت غاية ما نرجو عندك من خير»؟! وبذا كانت تبدو لغة محفوظ أحيانًا هجينةً، غريبةً، باردةً، لا هي بالفصحى ولا هي بالعامِّيَّة؛ لما كان يقوم به بينهما من عمليَّةٍ أشبه بالترجمة. ولو أنه فصَّح العامِّيَّة نفسها، واكتفى بتنقيتها ممَّا لا بُدَّ من تنقيتها منه، لأبقى على جمال العامِّيَّة، ورصيدها الاجتماعي، والبلاغي، الذي فيه من الفنّ التعبيري ما لا يقلّ عن الفصحى جمالًا وعبقريَّة تصويريّة، بل ربما كان بعضه عربيًّا فصيحًا أصيلًا.

هذا شاهد على اتِّباع أساليب خاطئة- من وجهة تقديرنا- ناجمة عن تصوُّر الفجوة بين العامِّيَّة والفصحى؛ فتعزل الأُولى، كأنها لغة أجنبيَّة، لا سبيل سِوى بترجمتها إلى لغة الكتابة. يحدث هذا مع أن محفوظًا كان من جيل الأدباء في مِصْر الذين ظلُّوا يستعملون الفصحى في كتابتهم وفي حديثهم العامّ، غالبًا، في ميدان الأدب والإعلام، على الأقل. بخلاف جيلٍ لاحق، صار لا يكاد ينطق الفصحى، بل يستعمل لغة الشارع، في المحاضرات العِلْميَّة، والخُطب الدِّينيَّة، والدروس الجامعيَّة، بدءًا من شيخ الأزهر إلى آخر الأدباء أو الشعراء أو الروائيِّين الجدد. وهذا منحدر ثقافيّ لغويّ في مِصْر، كما في البلدان العربيَّة الأخرى. منحدر يُرينا كيف أن ما سُمِّي عهد النهضة، في النصف الأوَّل من القرن العشرين، وجيل الإحياء الثقافي والحضاري، قد أفضيا إلى نقيضيهما، في نهايات القرن وبدايات القرن الحادي والعشرين، بدءًا من عهد النكسة، وانتهاء بجيل الوكسة المعاصر. والحُكم هنا على المُجمل السائد، لا على التفصيلات. وهذا ينسحب على قضايا كثيرة، ومظاهر حضاريَّة متعدِّدة، تشكِّل اللغة لُبابها، بما أن اللغة مادة الفكر وقِوام التحضُّر.

وعودًا إلى تجسير الهُوَّة بين العامِّيَّة والفصحى، فلقد استعمل بعض الشعراء كلمات في أشعارهم ممَّا كان سائدًا في الحياة اليوميَّة، (كأبي نواس، قديمًا، أو كنزار قبّاني في العصر الحديث، وغيرهم). لكنهم لم ينجحوا في ذلك إلَّا حينما طوَّعوها، ولم يأتوا بها كما هي مستعملة في البيت والشارع. ذلك أننا لا نقول بأن العامِّيَّة كلَّها ليست بعربيَّة، بل إن عروبتها لأظهر أحيانًا من عروبة اللغة الإعلاميَّة الدارجة. وأوضح ما يتجلَّى هذا في عاميَّة الجزيرة العربيّة، التي تَدهش حين تقرأ الشِّعر الجاهلي فتجد أكثر مفرداته ما زال على ألسنة الناس، باديةً وريفًا. وشواهد ذلك لا حصر لها، نكتفي منها بواحد. فالعربيّ اليوم قد لا يعرف مثلًا معنى مفردة كـ«الفقع»، حين يسمعها من أهل البادية، ويظنها عامِّيَّة مستحدثة. فيما نجد الشاعر الجاهلي (طرفة بن العبد، تُوفي 562م) يقول، في هجاء أحدهم:

فَأَصبَحتَ (فَقعًا) نابِتًا بِقَرارَةٍ ** تَصَوَّحُ عَنهُ، وَالذَليلُ ذَليلُ!

وقِس على هذه عشرات المفردات البيئيَّة والتخاطبيَّة اليوميَّة، التي بقيتْ في لسان العرب من العوامّ، وأهملها المتعلِّمون. غير أن ما يعيب هذه اللهجات عدم التزامها قواعد العربيَّة الفصحى، نحوًا وصرفًا. ومن أبرز ما ينحطُّ بها في ذلك ترك الإعراب. والإعراب ميزة لغويَّة، تَمنح مستعملَ اللغة مرونةً عالية جدًّا، وخيارات تركيبيَّة متنوعة، لا يتمتع بها مستعمل اللهجة. وهذا نقيض ما هو قارٌّ في الأذهان حول الإعراب. لماذا؟ لأن كلَّ كلمةٍ معرَبةٍ تحمل وَسْمًا خاصًّا، يجعل في الوسع أن يُحِلَّها الناظمُ في أي موقعٍ من التركيب؛ فما دامت تحمل علامةَ الإعراب، فإن ذلك سيجعل موقعها الإعرابي ووظيفتها التعبيريَّة، عن فاعلٍ أو مفعولٍ أو غيرهما، واضحًا تمامًا للسامع والقارئ. وهذه المزيَّة تمنح الناظمَ طواعيَّة في النَّظْم، لا يعرفها مستعمل اللهجة، الذي تضيق خياراته التركيبيَّة في هذا الجانب؛ لأن الفاعل، مثلًا، لا بُدَّ أن يَرِدَ مقدَّمًا على المفعول، لنعرف أنه هو الفاعل، إلَّا أنْ تَرِدَ في الجملة قرينة أخرى تدلُّ عليه. ويتجلَّى هذا الامتياز للغة المعربة في النَّظْمِ الأدبي، ولاسيما في الشِّعر. هذا مع ما تحمله تلك المرونة في التلاعب التركيبيّ من خصائص بلاغيَّة معروفة، تنجم عن تقنيات التقديم والتأخير في عناصر الجملة. ولهذا كانت اللغات المعربة أعظم تفوُّقًا، في الشِّعر خاصَّة، من اللغات غير المعربة. وهذا ما تبدَّى قديمًا في اللغة اليونانيَّة ثم في العربيَّة. إلَّا أن مزيَّة الإعراب تلك قد تنقلب عائقًا لغويًّا حين تتحوَّل إلى شكليَّات جامدة، فلا ترتبط بحِسٍّ تعبيريٍّ متداولٍ بين المنشئ والمستقبِل. أي حين تَفْسُد البيئةُ اللغويَّةُ التي كان الإعراب يؤدِّي وظيفته التعبيريَّة خلالها.

إن ما حدث في العربيَّة من تحلُّلٍ هو تركةٌ عن عصور من الأميَّة وانحدار اللغة، تبعًا لانحدار الأُمَّة، حضاريًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا، ولتداخل اللغات واللهجات عربيَّة وأعجميَّة؛ فورثنا هذه الشبكة المعقّدة من الأدواء اللغويَّة، كما ورثنا شبكات العادات والتقاليد والجاهليَّات والخرافيَّات وخزعبلات المعتقدات.. إلى آخر هذا الموروث الاجتماعي والقيمي الثقيل. وهذه المرحلة اللغويَّة التي ورثناها تُعَدّ المرحلة الثانية من مراحل تحلُّل العربيَّة، وهي: مرحلة تحلُّل (العربيَّة القرآنيَّة). أمّا التحلُّل الأول، فيبدو أنه قد وَقَع للعربيَّة العتيقة الأولى، التي- وإنْ لم تكن تُسمَّى عربيَّة نسبة إلى العرب- فقد كانت عربيَّة في حقيقتها، كما تدلّ الشواهد الباقية، رغم تقادم الأزمان. نعني تلك اللغة الساميَّة الأُمّ، التي تحلَّلت إلى لهجات، فكانت منها: الأكديَّة، والبابليَّة، والكنعانيَّة، والعبريَّة، والآراميَّة، (بفروعها السريانيَّة، والنَّبَطيَّة، والتدمريَّة، وغيرها)، ثم الفنيقيَّة، إلى آخر هذه العائلة اللغويَّة الواحدة، التي هي في الأصل لهجات انحدرت عن لغةٍ واحدةٍ، تقطَّعتْ بها السُّبُل، وتبلبلتْ بها الألسنة. والحديث ذو شجون.

(1) (1986)، أولاد حارتنا، (بيروت: دار الآداب)، ص64.

(2) م.ن، 78.

(3) انظر في هذا مثلًا: الزبيدي، تاج العروس، (نقط)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى