الأحد ٣ آذار (مارس) ٢٠١٣
بقلم عثمان آيت مهدي

تعلمت كيف أقول «لا» وأستقيل

كانت عودتي للتعليم مثار جدل واسع بين من يعرفني ومن سمع الخبر، بين مصدق وكاذب. قيل عني الكثير ومازال يقال إلى يومنا هذا. أيعقل من تحصل على انتداب مفتوح إلى مركز، أو مديرية، أو أيّ مكان آخر، أن يفكر ثانية في العودة إلى جحيم التعليم؟ هذه سذاجة وسوء تفكير. سيندم عليها أشدّ الندم. إنّه تهور ساعة الغضب. لكن أيعقل أن يفعلها هذا الأستاذ المعروف برزانته ورجاحة عقله؟ أكاد لا أصدق، قد يكون في الأمر شيء يجهله الجميع..
  سألني صالح: أصحيح ما تلوكه هذه الألسن عن تصرفك الأحمق؟
  قلت: إنه صحيح، وأين مكمن الغرابة؟
  قال: العودة للتعليم؟ الكلّ ينفر ويفرّ من هذا القطاع المتهالك، إنّك ستتعامل مع مجانين لا يعرفون قدر الأستاذ؟
  قلت: أعلم ذلك، سأكافح، وأصرخ، وأنذر، وأفعل كلّ شيء من أجل إثبات وجودي، وبعد ذلك أفرض الاحترام والتقدير رغم أنوف التلاميذ وأوليائهم والإدارة جميعهم.

سكت صالح، إنّه يعرف مواقفي عند الشدّة، ويعرف أنني أنحدر من منطقة شعارها: "أموت ولا أهان" ولا تنفع مناقشة موضوع نتائجه معروفة مسبقا.

كان انتدابي إلى هذا المركز الوطني باقتراح أحد الزملاء، الذي وصفه لي بأنه منارة علم، تسعى إلى توفير المراجع العلمية للأساتذة والعاملين في قطاع التربية، يجتهد في ترجمة بعض الكتب التربوية، وإعداد بعض الملفات ذات الطابع التربوي، وإصدار مجلة متخصصة في هذا المجال. قبلت الفكرة دون تفكير. وهل يحقّ لي التفكير بعد هذه السنوات الطوال التي قضيتها على حلم لم يتحقق؟ كم تمنيت، وما زالت هذه الأمنية مندسة في أعماقي رغم تراكم الأماني عليها، تمنيت أن أصبح مفكرا بارزا، أوعالما فاضلا يجوب أصقاع العالم، متنقلا من جامعة إلى أخرى، يحاضر في هذا البلد، ويحضر ندوة أو مؤتمرا علميا في بلد آخر. إنه كالنحلة تتنقل من زهرة لأخرى تعبق بشذى الورود ورحيق الأزهار.

قلت، قد يكون هذا المركز فاتحة عهد جديد لي ومستقبل سعيد؟ سأجتهد، سأبدع، سأعوض أيّاما فاتت من عمري، لم أكتب صفحة، وقد قرأت المئات، بل الآلاف من الكتب. أدخل القسم، أقدم درسي، وأخرج. كأنني في معمل لإنتاج التلاميذ، ذهاب، عمل، إياب. لا تواصل، لا علاقات، لا تبادل للأفكار. إنّه روتين، فراغ رهيب..

استقبلني مدير المركز بشيء من الحفاوة، سألني عن مساري المهني، نشاطاتي الأدبية والفكرية، مقدرتي على الكتابة والترجمة، وكانت إجاباتي صريحة وواضحة. بعد ذلك، خرجنا معا من مكتبه، ورافقني إلى مكتبي. بعد فترة قصيرة بدأ الموظفون يتوافدون عليّ الواحد تلو الآخر، فأبادلهم بعض أطراف الحديث، عن البحث التربوي، عن الترجمة، عن مشاكل المركز بصفة عامة..

كانت الشهور الأولى بهذا المركز، ثقيلة ومملة، لم أتعود العمل بثماني ساعات يوميا، ولا الطاقم التربوي كفءا يمتلك قدرات على البحث والترجمة والتأليف. بدأت من حين لآخر تبلغ مسامعي معلومات عن هذا الكم الهائل من الموظفين بالمركز، الذين أنزلوا بالمظلات من مسئولين كبار، منحوهم مكاتب لمزاولة الكلمات المتقاطعة، والكلمات السهمية، ومتابعة الفيديوهات بالأنترنات، أو الخروج بإذن أو دونه لقضاء حوائجهم، وما أكثرها، خارج المركز.
اكتشفت أخيرا اللعبة، بعد أن اتصلت بالمدير وأخبرته عن حالة المركز المريضة. ردّ عليّ قائلا: هكذا بني المركز من البداية، ليس في استطاعتي ولا في استطاعتك تغيير الوضع؟ ستتأقلم مع الظروف بعد حين. إنها الإدارة، وللإدارة فنونها؟ فهمت الرسالة، لقد كانت واضحة، سأصبح بعد وقت من هؤلاء، أحوّل مكتبي إلى غرفة نوم، وأنتظر تقاعدي.

شعرت بالهزيمة، وأنا الرافض لها، انتابني اليأس والقنوط، أتقاضى أجرا لأنام في مكتبي، هذا لن يكون، ولن يحدث أبدا. أصارع الثيران في الحلبة، أروض الأسود والنمور أثناء العرض بالسيرك وأتقاضى أجرا مقابل جهدي أفضل من النوم داخل مكتب يفترض أن يكون مصدر إشعاع للعلم والمعرفة للأساتذة والطلبة والناس كافة.
  قال صالح، وهو يتابع هذه الحكاية: ولذلك قدّمت استقالتك، وفضلت العودة إلى التعليم.
  قلت: لقد تعلمت كيف أقول "لا" وأقدم استقالتي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى