الأحد ٣ آذار (مارس) ٢٠١٣
بقلم هيثم نافل والي

الهروب إلى الجحيم

تجاوزت غادة سن الثامنة عشرة قبل أيام... فأصبحت في عرفها وعرف القانون إنسانة ناضجة ومسؤوله عن قراراتها وأعمالها... فصرخت بعنف وتذمر وتأنيب، كالمجنونة بأمها وأبيها وعيناها تلمعان:

اتركوني أرجوكم... اعتقوني يرحمكم الله!! ثم بزفرة مخنوقة، وبآهة مسموعة وجسدها كان كله يهتز، كلهب المشعل:

أنا لا أريد منكم شيئاً، سوى مغادرتكم!! ما هذه الحياة التي أحياها في وسطكم؟ وتابعت باكية، ضاحكة، متنهدة، مستهزئة: والله، نار جهنم أبرد وأمتع وألذ وأرحم منها!!

أمها وأبوها ينظران لها بحيرة وألم وقلباهما يتضرعان حرقة من منظر ابنتهم الوحيدة التي ولدت في الغربة، فأصبحت لهما السبب والأمل في تعلقهما في الحياة، بل من أجلها كانا يفعلان كل شيء... وها هي اليوم تصرخ أمامهم دون وجل، هازئة، متذمرة، شاكية، وكأن الشيطان لبسها، ففاقته شراً وجحودا... وتطلب منهم أن يوافقوها على جنونها، بأن تغادرهم لتحيى حياتها كما تريد وكما تشتهي!! وهما يقفان قبالتها صامتين، مهمومين بعد أن ركبتهما المفاجأة، فجلجل قلباهما اللينان، الوديعان، الحنونان والمحبة بإخلاص ووفاء منقطع النظير لابنتهم غادة( التي لم تعد غادة كما يعهدونها ) تلك التي كانت تصرخ بهم نادبة في وجوههم دون خجل، وتطلب مغادرتهم، وهم لا يريدون أن يفقهوا، وربما من الأفضل، أن لا يعلموا؟!

ولدت غادة في ظروف صعبة، استثنائية، بالغة التعقيد...

فقد اضطر أهلها من مغادرة العراق قهراً، فلم يجنوا منه سوى الضيم والقهر والتراجع، وشهادات جامعية لا تنفع ولا تضر، حالها حال بقية الأشياء المعلقة على الجدران للزينة أو للذكرى!! في وطنهم الجديد... ألمانيا التي يشهد لها التاريخ قبل الناس، بقوتها وتقدمها ونظامها وإصرار وعناد شعبها.

بعد ولادتها مباشرةً، أصيبت الأم بمرض، خسرت جراءه رحمها وهي تردد دون انقطاع وبصدق: كريم أنت يا رب. رحمها الذي حملت فيه غادة تسعة شهور وهي تعيش مع أمها لحظة بلحظة، تتغذى معها، تشاركها شربها، فرحها، ألمها، تعبها، راحتها وكل حياتها، دون أن تشعر!! وهذه هي طبيعة الإنسان، يعيش قبل أن يولد، وعندما يولد، يشعر بالحرمان ويجحد وهو جاهل لا يعلم من أمره شيئاً!!

كانت ابنتهم فائقة الحسن والجمال، كأميرة بابلية، جعلتها تتندر فيه وتتباهى بنفسها كثيراً وحيثما تكون... شعرها الذهبي الطويل، تقاسيم وخطوط وجهها الحادة، الدقيقة، الوسيمة التي رسمت ونسجت بعناية إلهية رائعة نادرة؛ عودها الرشيق، أنفها الدقيق، عينيها العسليتان اللتان لهما بريق يتكلم سحراً، شفتاها الطريتان الشهيتان، نهداها النافران، كثمرتين سندي ناضجتين... ناهيك عن العناية والرعاية والحب الذي خصها بها والداها... لِما لا...؟ وهي وحيدتهم وكل ما خرجوا به من الحياة.

وها هي اليوم تصرخ بهم بتشنج جاف وتذمر حقيقي، نابع من أعماقها وهي ترفض العيش معهم وتنوي الرحيل... بحثاً عن حياة أخرى جديدة، ترى فيها نفسها حسب ما كانت تقول وتدعي، وما أشار لها فكرها التقي ونضجها النقي ووعيها الفقهي!!

بكت أمها قبالتها بتضرع، علا نحيبها، وارتفعت أصوات توسلاتها ورجائها، بأن تعدل ابنتها على ما قررته وما نوت فعله؛ في حين وقف أبوها منحنياً، معقوفاً، كعصا، ساهماً، مصدوماً... فلم يأتِ بقول أو حركة، فظل جامداً، كالصنم وهو يتابع تشنجات زوجته وتضرعاتها ودموعها، ويسترق النظر إلى ابنته ويرنو بطرف خفي ساكن، تلك التي لم يسمع فيها نبضا ولم يجد فيها سوى جسد ميت... فيا لقسوة الأبناء، ويا لرعونتهم وغبائهم المفرط أحياناً!!

لم ينفع معها دموع ولا توسل... لقد حزمت أمرها وانتهى الأمر!! فحاول الأب أن يأخذ زوجته باللين والعطف والرجاء، بأن تتركها وشأنها، لعلها تدرك بأنها كانت من الخاطئين، فترجع لتكون من الصالحين. لكن الأم وقلبها الحنون لا يفهم لغة الرجال في هذه الأحوال، فناحت به هائجة، متمردة، ساخطة، باكية وهي تقرع صدرها بقبضة يدها بقوة دون شعور:

ما هذا الذي تقوله؟! لا يمكن لي أن أترك ابنتي الوحيدة ترحل هكذا؟ ثم رفعت درجة صوتها، بعد أن فقدت كل مقاومتها وقوتها، وأجهشت في نحيب يقطع أوصال قلب كل من يراها، أو يسمعها إلا ابنتها الوحيدة، ونوهت بإرادة متراخية:

ماذا فعلنا كي نعاقب هكذا؟ نحن لم نقصر بشيء إطلاقاً!! بل كنا نجوع لتأكل هي، نعطش، لكي نوفر لها حق الشراب!! نسهر، نتألم، نتلوى... لكي تنام قريرة العين، هادئة، وديعة ومطمئنة!! أين خطؤنا؟ ما ذنبنا؟ ثم صرخت بكل ما تملك من قوة: هل منكم من يجيب؟! ها...؟

لا جواب، وكأنها تخاطب نفسها، كالمجنونة!! ومن قال بأن عقلها أو قلبها مازالا في تلك اللحظات الأليمة، القاسية على قيد الحياة؟!

في هذه الأثناء تقدمت غادة بغباء نحو أمها وهمست قائلة:

هذا ليس ذنبي!! وتابعت ببرود قاتل، أعني... أنا لست بعربية أو عراقية؛ ولدت هنا في ألمانيا، وهذا كل ما أعرفه، إنه بلدي، وناسه ناسي، وطباعهم طباعي، ولغتهم لغتي، وأعرافهم عرفي وميولهم تشبه ميولي... أنا أختلف عنكم كثيراً، ولا يمكن لي أن أكون يوماً مثلكم!! ثم علا صوتها فجأة وهز المكان، وفي عينيها يتقد الغضب ناراً:

أنا لست مثلكم!! ولا السبب في مجيئكم إلى هنا!! لماذا لا تريدون أن تفهموا هذا؟! ثم تحركت وهي تبتسم بعبث وغموض وتزمت مريب، وبخطى واثقة نحو غرفتها الجميلة، المؤثثة تأثيثاً فنياً رائعاً، وبذوق عالي الإحساس بالأشياء... ذهبت لتلم حاجاتها لترحل، وكأن ما يحدث مجرد مسرحية لا تحب أن تكمل مشاهدة فصولها!! بعد أن تحجرت عواطفها وقسا قلبها وربما مات وهم لا يدرون، وجلَّ اهتمامهم كان منصباً بعنايتها ورعايتها وبطلباتها التي لا تنتهي وفيها ملتهون، وما حولهم كان يدور وهم غير مدركين، وللنتائج غير متصورين أو مفقهين...

خرجت غادة من غرفتها والطلاء يعلو وجهها، وحقيبتها في يديها، تسحبها بمهل وغنج، ربما لتغيظهم أو تثيرهم!! وتلوح بجواز سفرها عالياً، وكأنها بسذاجة تقول: ها أنا أتحرر منكم أخيراً!!

فزعت أمها لمنظرها، فلم تعد الصبر أو التحمل، فركضت قافزة نحو الباب، فأوصدته بإحكام ووقفت حائلاً بينها وبين خروجها بعناد ووحشية( لم يكن هذا طبع في أمها من قبل، وكأن الذي سيخرج من الدار، روحها وليست ابنتها) في حين بقي زوجها متسمراً، غائصاً في مكانة، وكأنه فارق الحياة!! عندها صرخت غادة الجميلة، الحسناء، المدللة بأمها باستهتار لا مثيل له:

ماذا يا أمي؟ هل تريدين تعويض لقاء تحرري؟ ثم أردفت بنشاز ووقاحة:

سأبعث لكم بكل ما دفعتم من مال لأجلي... فقط عندما أستقر وأعمل!! ونوهت متابعة باستخفاف غريب: كنت أعتقد بأن كل الآباء والأمهات يفعلون ما فعلتم من أجل أولادهم وبناتهم دون أن ينتظروا مقابل(قالت لهم ذلك وهي تضحك بسفاهة، كالساحرة، ففاقت الشيطان في بشاعته)

استمعت لها أمها وهي في شبه غيبوبة، وما زالت واقفة سداً تريد منعها من الخروج، ثم تحرك لسانها فجأة، وصاحت، وهي ترنو لها من وراء دموعها:

لقد خاب أملنا فيك يا ابنتي، كنت أفتخر على بأننا ربيناك على خلق، وها أنتِ تردين حقنا، صفعة... ثم أردفت وعيناها أحمرتا وتوهجتا كالمشعل: وأي صفعة؟! قاسية كالموت، أليمة كالحروق، ودامية كالجروح الملتهبة، المتورمة!! وسألتها مستأنفة، وصوتها يرن في الدار عاصفاً:

ماذا يا غادة؟ ماذا يا وحيدة أمك وأبيك؟ تريدين أن ترجعي إلينا مالنا الذي دفعناه حقاً لتربيتك؟! إذن عليك أولاً، أن ترجعي الزمن إلى الوراء، أن تعوضينا عن ثمانية عشر عاماً فائتة!! عن أيام شبابنا وكفاحنا وعسرنا وعن كل آلامنا وحسراتنا وبكائنا وسهرنا وكل حياتنا التي وهبناها لك دون أن نطلب أو ننتظر منك شيئاً... فقد، كنا نريد رضاك ونحتفل بابتسامة من شفاك... ثم رج المكان بصوتها مجلجلاً:

هيا يا ابنتي... ماذا تنتظرين؟ أعيدي لنا ما دفعنا كاملاً إذن وارحلي حيثما تشائين!!

وبدلاً من تشفق عليها، حركت يدها بهوس أرعن نحو كتف أمها ودفعتها جانباً وجعلتها تترنح وتتنحى من أمامها قسراً، وخرجت وهي تبتسم بغموض واسترخاء عجيب، مريض وغادرتهما حيث تريد...

بعد عامين من خروجها... حيث التشرد والذل والمهانة والفاقة والحرمان الحقيقي... عادت غادة نادمة، باكية، قذرة ومتحسرة... في ليلة شديدة الظلام، قاسية وقارصة البرودة...

جلست أمام باب شقة أهلها بعد أن ذاقت ألوان المذلة والمهانة؛ منهكة، جائعة، تعبة، وسخة وخائرة القوى، تتنهد وتئن، تطرق الباب دون رد أو جواب... لا يفتح لها، وكأن الأمل قد مات وأوصد بابه من دونها!! فبكت بذل وهياج وهي تزفر بتشنج، وتستعيد ذكرياتها بندم مجروح دام، يوم تركت هذا المنزل وهي تغلق الباب الذي تجلس الليلة أمامه والذي لا يريد أن يفتح لها، وكأنه لا تهون عليه نفسه ليسامحها لفعلتها، عندما أغلقته بقوة ووقاحة وغرور وتكبر أعمى، يوم خرجت وهي ترسم ابتسامه مريضة، غامضة على شفتيها، وكأنها تتشفى بأهلها!! فظل الباب موصداً، مغلقاً بوجهها...

وبعد أن تذكرت أحداث ذلك اليوم الرهيب، وبعد أن غمرتها وغسلتها دموعها... نهضت وهي عارية القدمين، تمسك بالباب وهبت واقفة بغير قوة... بدأت تطرقه وتدقه وهي تضحك بصوت لين فارقه الدلال منذ زمان... بإصرار وعناد وداخلها متشبث بيقين، على أمل أن أمها وأباها سيفتحان لها حتى ولو بعد حين... ترى ماذا جنت من هروبها إلى الجحيم؟!

في هذه اللحظة رفعت غادة يديها القذرتين أمام فمها، وبصقت فيهما، كتعبير عن حنقها وغدرها وخيانتها وجحودها وقسوتها لأهلها، ثم سألت نفسها بعد أن بدأت تنتحب بذل مجدداً أمام الباب الموصد:

ولكن أين هم الآن؟ ولماذا يجعلونني أجلس، أنتظر هنا كالشحاذة أمام منزلهم؟! ثم صرخت وهي تهذي وتجهش في بكاء عنيف وتدق رأسها بقبضة يدها وتردد:

كم كنت متغطرسة، متكبرة، غبية ومعتوهه؟ كم...؟ ثم واصلت من خلال دموعها وهي تشهق:

أتقعد الأرض الآن، كجرذ أجرب، نادمة، ساعية على أمل الباب يفتحون، وهمهمت تنتحب وتنوح بفعل لا إرادي وغفت... وظهرها مستند على الباب الموصد الذي لا يتأثر بما يسمع أو يرى.

فزّت بعد لحظات، مقروصة من البرد، والجوع ينهش معدتها الخاوية، فرفعت بإصرار يدها المرتعشة وطرقت الباب بقوة متراخية مرات، وهي تغمغم:

أبي... أمي... أرجوكم، افتحوا لي... أنا غادة، ابنتكم الوحيدة الحسناء... هل نسيتموها هكذا بسرعة؟ ثم ضحكت بهبل وهي تهمس لنفسها قائلة:

لأتذكر مرة أخرى ما حصل في ذلك اليوم المشؤوم، لحين أن يفتحوا لي، فأنا متأكدة من حبهم، بل سيسامحونني ما أن يروني أو يسمعوا صوتي...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى