الثلاثاء ٩ نيسان (أبريل) ٢٠١٣
قراءة نقدية

لبعض قصائد الشاعر فاروق مواسي

رلى جمل

1- بأي ذنب قتلوكما (إلى جوليانو ابن صديقي صليبا، وإلى فتيريو أوراغوني صديقي الذي لا أعرفه)

أولا في دلالة الإهداء:

القصيدة تحمل تناصًا مع القرآن الكريم: بأي ذنب قتلت" (سورة التكوير 8)- وهو السؤال الموجة إلى الموءودة التي قتلت ظلمًا وعدوانًا وجهلاً، وشاعرنا هنا يخاطب اثنين (قتلوكما) ويعني في الخطاب جوليانو، وفيتريو.

هما اثنان يحملان دلالة مهمة في سجل النضال الفلسطيني- الأول جوليانو ابن صليبا خميس، وجوليانو هو ناشط يهودي فلسطيني، ولد في 29 مايو 1958ميلادية، وهو ابن المناضلة الراحلة آرنا مير، الناشطة اليهودية التي ناضلت من أجل حقوق الفلسطينيين، وابن الراحل صليبا خميس- المناضل والصحفي والكاتب الفلسطيني، أحد قادة الحزب الشيوعي الإسرائيلي.

قتل جوليانو على أيدي مسلحين مقنعين في أمام مسرح الحرية الذي كان قد أسسه في مخيم جنين للاجئين. وقد دان الجريمة عدد كبير من أنصار الحرية من جميع الشعوب، وكذلك رئيس الوزراء سلام فياض الذي دان القتل قائلا "لا يمكننا أن نقف صامتين في مواجهة هذه الجريمة البشعة، لإن ذلك يشكل انتهاكًا خطيرًا يتجاوز كل المبادئ والقيم الإنسانية ويتعارض مع عادات وأخلاق التعايش بين الشعوب".

أما الثاني في هذه القصيدة فهو "إلى فتيريو أوراغوني- صديقي الذي لا أعرفه" وهو الصحفي الإيطالي الذي قتل في غزة على أيدي متطرفين بينما كان يتضامن مع غزة ضد الحصار المفروض. عمل مع حركة التضامن العالمية الداعمة للفلسطينين في قطاع غزة ابتداء من عام 2008 وحتى إعدامه في 15 أبريل 2011ميلادية. وقد قام بنشر كتاب تكلم فيه عن تجربته في غزة أثناء أحداث حرب غزة بين حماس وإسرائيل. تم اغتياله على أيدي مجهولين في غزة. وتلقت جريمة اغتياله إدانة واسعة على مستوى العالم، كما أدان هذه الجريمة عدد كبير من الفصائل الفلسطينية. ونلاحظ في الإهداء التعبير (صديقي) – الذي لا أعرفه، وبالطبع فإن هذا التعبير بحد ذاته مفتاح للدلالة على الأخوة التي تجمع الإنسان مع الإنسان في الموقف والأصالة.

قراءة نقدية في القصيدة:

تكشف القصيدة وهي تحمل تناصًا قرآنيًا عن وعي متقدم لحقيقة الدين الذي ينبغي أن يبنى على قيم المحبة والسلام، وتدين القصيدة على نحو واضح ذاك الفهم الخاطئ لبعض المتزمتين في الدين حين يستهدفون البراءة، فيمارسون أسوأ الجرائم بوهم الدفاع عن الدين، وما هو بالدين.

تمارس القصيدة دورًا تنويريًا في فضح مخاطر الاتجاه السلفي (الإرهابي منه) ضد الإنسانية، لكن الشاعر على يقين أنَّ هذا العمل الإجرامي استهدف أشرف الناس وأشد الناس مناصرة للنضال الفلسطيني وحقوق الإنسان في فلسطين- وهما الناشط والممثل اليهودي الفلسطيني جوليانو صليبا والناشط الإيطالي فيتوريو أريغوني المتضامن مع أبناء غزة ضد الحصار المفروض على غزة، وقد تم إعدامه من قبل القوى الإرهابية، فكانت الفعلة الشنعاء قد أساءت لكل القيم الإنسانية باغتيالها لهذين الرمزين الإنسانيين العظيمين. فالقصيدة تتضامن عمليًا مع حقيقة الإسلام الحنيف التي لن يطفئ أنوارها قبح هؤلاء الإرهابيين الذين يدَّعون انتماءهم للإسلام، والإسلام منهم بريء وكم بالحري من هذه الممارسات التي تعكس مدى قبح مرتكبيها.

يبدأ الشاعر تضامنه بهذا الألق الذي نراه هنا:

لن يطفئ أخلاقَ الدينِ الحقِ
غلمانُ ظلامْ
لن تطفئَ زمرة أوغادٍ أصداءَ النورْ
هل تطفئُ نورَ اللهِ
أفواهُ الحقدِ الموتور؟؟!!
أعلم ما قيل:
إن الدينَ نصيحة،
والدينَ معاملةٌ، وسلام:
للنفس، وللقلب، سلام!
لكن وا أسفا!!
وابتلت عيناي من الحزن،
ومن الغيظِ المقهور.....

يكشف الشاعر عن انتماء أصيل لقيم السلام الرشيدة التي لن يطفئها هذا الفعل الإرهابي الجبان والمضلل، كما

يكشف الشاعر عن مقدار الحزن الذي أصابه وهو يوازي حزن يعقوب على ابنه يوسف حين فَرَّطَ به إخوته، وابتلت عَينَا يعقوب من الحزن في صورة فريدة تعكس القدرة على استخدام الرمز الديني على نحو رائع وجميل في سياق موقف إبداعي تضامن مع هؤلاء الرائعَـين في تضامنهما مع نضالات الشعوب من أجل الحرية والكرامة والعدالة.
ويمضي الشاعر في محاكمة الوعي السلفي الذي يقتل الناس، ويدعي أنه ينال الجنة بهذا العمل الجبان، وقد يستحق عليه أن يتزوج من الحور العين، وهذا وعي مضلل يكشف ضحالة أصحابه:

إذ يأتي ذاك المجهولُ الموتورْ
مع لحيته بالأجر المأجور
يسفكُ دمْ
دم ! دم !
مأجورٌ بالجنةِ- بالحور العين،
يا عيني!!!
عيناءٌ تلو العيناء!
حوراءٌ تلو الحوراء!
لتسَير الحوراءُ بصدرٍ مغرٍ نافر
وبلونِ صفاءٍ وبهاءٍ
ورواءٍ ناضرْ
يُفتنُ حتى يشعرَ "صاحبُنا؟!"
بعروقٍ تتمطّى،
في شبقٍ ماطرْ....

وتستمر القصيدة في تدفقها الإنساني الذي يجعل كل شيء يدين هذه العمليات الإرهابية، وتنتصر القصيدة للقيم الإنسانية الـتي ناضل من أجلها جوليانو وفتيريو أريغوني.
وها نحن في القصيدة نلاحظ تضامن الإنسانية مع هذين البطلين، وحتى الطبيعة تتضامن معهما، النساء والأطفال والزهر والشجر كل شيء هنا يتضامن مع هؤلاء الأبطال والطفلة تسأل: هل حقًا هم أعداء؟

والزهرة تسأل منكرة أن يكون مثل هذين عدوًا:

هل حقًا هم أعداءْ؟
يسألهم من يسأل: هل حقًا هم أعداء؟؟!!
هم في غمرة سعيٍ أو ضربٍ لجنانْ
يطلع جوليانو
يطلع فيتريو
وأرى أرتالاً تطلع
تكفرُ بالبهتـــان!
تؤمن بالإنسان!

ثم ما يلبث الشاعر أن يفطن إلى وقع المأساتين، فلا يحتمل الأمر، ولا يعرف هل هو بحاجة إلى أن يغفو أو إلى أن يصحو، تتمزق الحالات، ويسمع نشيج الآيات التي فهمت خطأ وأسيء إليها، فيقول:

أحتاج لغفوة
أو صحوة
فيها أسمع ألحان جنازة
فيها أصغي لبكاء الآيات

إزاء ذلك أخذ ينادي البطلين والدمع يصاحبه في ندائه، وتتردد الواو في نهاية كل اسم كأنها ترتيلة بكاء، كأنها صرخة، كأنها ولولة:

وأنادي والدمعات:
جوليانوووووو!
فيتريووووووووو!]

ورغم الفعلة المنكرة، والقتل البشع ينتصر الإنسان في قصيدة مواسي، وتنتصر القيم الإنسانية النبيلة في هذه الأبيات البالغة الروعة والبهاء والجمال والدهشة.

2- نحبها حنين

هي قصيدة تتجه إلى حنين الأنوثة والرمز المرتبط بالأرض والإنسان. هي قصيدة عامرة بالأشواق لهذا المعنى الكبير

نحبها حنينْ
لأنها مفعمةٌ بالشوقِ والحنينْ
عشيقها هو الوطن
بكل ما يزخَرُ من وجدٍ ومن شجنْ

عندما يصبح رمز حنين مرتبطًا بباإنسان الفلسطيني يصبح الوطن هو المعشوق الأكبر بالنسبة لتلك الذات العامرة بالجمال والروعة، بكل ما يزخر به الوطن من معنى عامر بالوجد والشجن.

نحن أمام قصيدة تفيض عنفوانًا بتمجيد تلك البطولات التي تعيشها حنين، وتتنفس روائعها منذ الأزل:

عرَفتها جسارةً تبينْ
فيها صباباتٌ وترتيلٌ على مجدِ
فيها سحاباتٌ وأنداءٌ على الوردِ
تشق دربًا للقوارير التي غدتْ
تصوغ معنى الكبرياءْ
بحكمة الصفاء والوفاءْ
ونغمةِ الثباتِ والبقاءْ

هي روعة هذا الشعب الفلسطيني الذي يدافع من أجل البقاء، ويصوغ معنى الكبرياء والوفاء، ويشق دربًـا للقوارير التي غدت تصوغ معنى الكبرياء فترتبط القصيدة من حيث رمزيتها بالمرأة الفلسطينية المناضلة التي تشق دروب المجد بكل جسارة وروعة وبهاء.
تتجه القصيدة إلى تمجيد الفعل المدني السلمي، والمقاومة للظلم في الاتجاه الذي يونع مآثر عظيمة. يستخدم الشاعر هنا رمز القلم للدلالة على دور المعرفة في معركة النضال من أجل البقاء والوجود بالنسبة للشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية، والقلم له علاقة بموقف كانت حنين قد امتشقته في وجه عضو كنيست وغد كان قد سألها عن سلاحها الذي تخفيه:

الله! ما هذا الهدوء!
تمتشقين نحوَ سُقمِهم قلمْ
بداهةً من نفح ياسمينْ
فينثني المأفونُ لانحسارْ
ويمتطي أحقادَهم
أوغادُهم
ويبلعون القهر في متاهة الغباءْ.
اللهْ!
أنى لك الهدوء!؟

هي قصيدة في تمجيد الفعل المدني والهدوء الفعال الرائع والسديد الذي يجعل أعداء الحياة ينحسرون ويموتون بأحقادهم:

سألت عنك يا حنين،
وأنت في سفينة الحريةِ التي سرتْ
في حقها المبينْ
لغزة التي يحاصرون فيها الشيخ والجنينْ
وأنت ترقبين
خُفاشهم يهاجم
وأنت ترقبين
شراسة وحشية ترينْ
على قلوبهم تُراكمُ
وكان ضوءٌ- رغمَ ذلك
في انتظارِكْ
يرفرفُ
طهارة إذ يوصفُ
بصحوِه وزهوِه
وباخضرار الفكر في أندائِه
فتعزفين لحنَنا وشجوَنا ودمعَنا
وهم بصوتهم طنيـــنٌ في طنينْ.

القصيدة تفيض بروعة الفعل المناصر للشعب الفلسطيني من خلال أشكال الدعم للشعب الفلسطيني، وكسر الحصار الإسرائيلي على غزة، ودور العالم من خلال سفينة الحرية التي مارس ضدها الإسرائيليون كل صلف ممكن، معبرين عن وحشية ليس لها مثيل في التصدي لكل فعل حضاري نبيل يكون من شأنه فضح وتعرية العدوان الإسرائيلي على غزة، وعلى الشعب الفلسطيني وحرمانه من متطلبات الحياة الضرورية بما فيها الطعام والدواء.
يعكس الشاعر مواسي التشبث بالفعل الحضاري المدني المتمثل في تضافر جهود القوى المحبة للسلام في فضح وتعرية الصلف والعدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، ويقدم حنين نموذجًا للمرأة المتصدية ضمن نضالات هذا الشعب العظيم، في المواقف الرائعة حد الدهشة في تعريتها لصلف الاحتلال الفلسطيني وقسوته في التعامل مع التعاطف الإنساني الواسع والداعم لعدالة القضية الفلسطينية:

أراهم عزيزتي حنين
يُزوبعونَ في عطورِنا
ويبعثون الجدبَ في الربوعْ
ويطلقون الموتَ في ترتيلةٍ صماءَ في ليلةِ جوعْ
يُصوّحون
ويُهلكونْ
يضاحكونه المَنونْ
وأنت تسمُقــينْ
كأنك الحمامة التي بروحنا
تحلقين فوق جرحِنا
وتحملين
رسالةَ الشوقِ والإيمانِ في أبوابنا
حمامةَ على سفينة الأمل
رسالة الليمون والزيتون
وتعزفين
في جوقةِ المنشدين
أغنية تداعبُ الأفنانَ والأحزانْ
بجرأة جريئةٍ الإيمانْ
لتقطف الليمون والزيتون.

قراءة في قصيدة لون أسود

"لون أسود" قصيدة للشاعر فاروق مواسي، ويفاجئنا اللون بسواده بدءًا، إذ تبرز في هذا اللون قدرة هائلة في السيطرة على فضاء المعنى وفي القدرة على الفعل، وذلك حين "ينذر يتربص بالنور يهمي بسخامٍ وبثور"

اللون الأسود ليس مجرد لون، ولكنه كائن حي فيه دلالة الفعل تلو الفعل في حركة متوترة.
نحن أمام أنسنة اللون الأسود أمام صورة فنية بالغة القسوة، في تصوير طغيان هذا اللون الذي ينذر يتربص بالنور . فالأفعال المضارعة- ينذر يتربص...إلخ دلالة الحدوث والتجدد والاستدامة، إذ في اللون الأسود سلطانه الذي يصيب النباتات وأشجار الزيتون والخوخ والبرتقال بطبقة سوداء. هي هذا الفعل الذي يهمي، فيصنع الوحشة، ويرسم لوحة البثور التي تشوه كل شيء جميل.

للون الأسود طغيانه الذي يجعل النور يمارس دوره على نحو خجول حين يمني اللون الأسود أن يصقل كالماس خداعًا وتمويهًا:

لكن النور يظل يمنّــــي هذا اللون الأسود
الأسودَ كالأسْـــود
أن يُصـــقلَ كالمــــاس

نحن أمام جدل العلاقة بين المتناقضات. نحن أمام مخاتلة الضوء النور لهذا اللون الأسود حين يظل يمنيه بأن يصقل كالماس. نحن أمام الحوار الناشئ عن هذه الوضعية الغريبة حين تبدأ الذات المبدعة باحتلال موقعها الرئيسي في كشف الغطاء عن مخاتلة النور لهذا اللون الأسود، وذلك حين يبدأ الشاعر بوضع جواب الاستحالة باسم الفعل "هيهات!"- بمعنى بعُدَ أن يصبح اللون الأسود مصقولا كالماس، فأنى له ذلك؟!

للنور قوة الصوت الذي يعد اللون الأسود أن يصقل كالماس، وللذات الشاعرة قوة الجواب حين تواجه هذا الخطاب المخادع للنور ببيان استحالة أن يكون الأسود مصقولا كالماس.
تبدأ تلك الذات جوابها باسم الفعل هيهات بمعنى بَعُدَ [وأقول له هيهات !!

فاللون الأسود مغرور
ذاك لأن اللون الأسود مأجور

اللون الأسود يصنع هذا الفضاء الكئيب ويمتد تأثيره ليس فقط إلى النور الذي يخاتل، فيعد الأسود بان يكون مصقولا كالماس، ولكن تمتد الرؤية الضبابية والمنفعلة من خلال لغة الاتهام التي تسيطر على تلك الذات الشاعرة التي تجيد وضع التهم الواسعة أمام اللون الأسود باعتباره مأجورًا:

وأقول له هيهات !!
فاللون الأسود مغرور
ذاك لأن اللون الأسود مأجور

فاللون الأسود مأجور ومغرور- جمع بين الغرور وبين كونه مأجورًا، بمعنى أنه يتبع جهة ما كأنه موظف لديها، ولأنَّ اللون الأسود كذلك فإنَّ الجواب يأتي في هذا المقطع حيث:

الشوق بحضن النور
ظل يطوف يطوفُ يدور
ويطوف على أحباب أحباب
ما عرفوا الحقد ولا غرقوا في كذب مجهور
أو مستور
حتى وصل الشوق إلى شر أحابيل تغور
إلى شبه الموت يصير

ثمة فرق بين الشوق والاشتياق: الشوق يهدأ بمجرد مقابلة المحبوب، والاشتياق يبدأ ولا ينتهي مع لحظة مقابلة المحبوب.

إذن نحن أمام مشكلة مصدرها هذا الشوق الذي له صفة الحدوث، وليس له صفة التجدد، فهو من حيث هو معنى إيجابي يطوف يطوف يطوف (لاحظ تكرار الكلمة إلى درجة اعتزاز الشاعر وقوة عزائه)، يبحث عن مساحة الضوء والحب، ومن حيث عدم تجدده فإنه ينتهي إلى الفناء ويصير إلى الموت.

ولأنَّ الأمر كذلك فإنَّ الفضاء مفتوح فقط للأمنيات والأحلام، حيث تتجه الأشياء إلى فضاء يعصمها من الموت على هذا النحو الذي نراه في هذا المقطع الشعري الباهر:

ساعتها،
نادى كل مشوق ربًا يعرفه
يعرفه بالحكمة والرحمة وهو بصير:
يا رب العقلاء!
هذا اللون الأسود يطغى ويجور
فمتى يضحي الإشراق على وجه الماء
صفو سماء وعبير؟؟!!
قد يفضي هذا اللون إلى الصبحِ
كي يفصح
من بعد ُ ينيـــر
من يدري؟!
قد يأتي يوم يبكي فيه
من بعد الظن
أن لن يأتي يومٌ يُبكَى
فيه عليه .....
يحور
من بعد ظلام الديجور ................

ثمة حوار يتجدد وأمنيات لا تنتهي بزوال هذا الطغيان والحضور الآسر للأسود.
ثمة بحث عن لحظة للخلاص عن مسيح يأتي فيملأ الدنيا عدلا بعد أن مُلِئَت جورا.
ثمة رغبة بأنْ:

يضحي الإشراق على وجه الماء
صفو سماء وعبير ؟؟!!
ولكن متى ؟؟؟؟؟؟؟

قد يفضي هذا اللون الأسود للفجر. قد ينبثق الأمل من وسط الظلام الكثيف قد وقد وقد...، ولكنها ليست أكثر من أمنيات.

ولكن ما العمل من أجل ان ينتصر الأمل، وترتحل تلك الظلمات إلى الأبد؟

تحاول القصيدة الانتصار لهذا العالم الوردي الجميل، ولكن هذا الانتصار لم يغادر مساحة الحلم، لم يتحول إلى واقع حي.

ولأنّ الأسود هو المسيطر فإنَّ القصيدة ترى أنه ربما كان لسطوته الشديدة إيذان بارتحاله وإلى الأبد على طريقة "اشتدي يا أزمة تنفرجي"، وأنَّ بعد العسر يسرا، وأن لهذا الليل الدامس ثمة فجر يأتي وقد تحققت الأمنيات.

قراءة في قصيدة "المفتاح"

أهدى الشاعر قصيدته للفنان سليم ضو الذي مثل عملاً فنيًا مميزًا – هو "مفاتيح" حيث أبرز فيه بشجن علاقة المفتاح باللاجئ الفلسطيني، فكان للقصيدة المنفعلة قوة الارتباط بالحلم، وللحلم هذا الرمز الذي يفتح ما كان مغلقًا، ويكشف ما كان مستورًا- إنه مفتاح الدار عنوان الأفق المفتوح على مدائن الضوء وحدائق المعنى:

مِفتاح الدار
يَرسم خارطة الحب إلى الأسرار
يرسم لوحه
من أحلام تحلُم
لتناغي الأطفال

كم هو رائع وجميل مفتاح الدار حين يرسم خارطة الحب، ويبدأ الدخول في عالم الأسرار لكشف مستورها.

في المفتاح يصبح السر علانية، وفي مفتاح الدار تنكشف كل الرموز المغلقة في فضاء مليء بالوضوح.

للدار معنى الوطن، وللطفولة والحلم معنى الثقة بامتلاك لوحة المستقبل في فضاء يصبح فيه الحلم حقيقة والمستحيل واقعًا ملموسًا.

ثمة حضور آسر لمفردات الحلم الطفولة والحب، وذلك الرسم لخارطة الحب التي تتيح لنا فرصة أوسع في التوغل نحو فضاء الأسرار.

ولأنَّ مفتاح الدار يرتبط من حيث رمزيته بالوطن وبالتغلب على الصعوبات، فإنّ له قوة السحر، وكأنه أشبه ما يكون بعصا موسى التي تلقف ما يأفكون:

وهو الباقي للجسد المغمور
ويشعُّ بحزن أو قهر أو إيمان
يتعلق مفتاح الدار
بالصبر الماثل بالشوق الهدّار
من أودعه بمكان مأمون
هذا المفتون؟!

ولأنه مفتاح الدار فهو مفتاح للهوية وعنوان الوطن الباقي بعد رحيل الأشياء، وهو الميراث الباقي للجسد المغمور بعشق الأشياء، وهو الميراث الباقي للجسد المغمور بقوة الحزن وقوة الأيمان وقسوة القهر- الذي يجعل الجسد مغمورًا بالحزن قدر ما هو مغمور بالأمل، ولذلك يتعلق مفتاح الدار بالصبر المتداخل بالشوق الهدَّار.

للمفتاح قوة الوجود، وفاعلية الحياة، وللمفتاح قوة الحضور بكل ما هو انساني ونبيل:

المفتاح
يعرف سكّرته
حتى لو صدئت سيعالجها
حتى لو فُقدت يبحث عنها
حتى لو حزنت سيعانقها
ليزيل القهر، يزيلَ اللوعة والأحزان

ولأنّ المفتاح كذلك فإنه يعرف طريقه لفتح الأشياء المغلقة، ويمتلك خبرة بالأشياء المفقودة، ولا يحتاج إلى كثير عناء لكي يجدها، ولذلك فهو يعرف أشياءه جيدًا، يبحث عنها حين يفتقدها، ويعانقها حين تحزن، ويزيل القهر عنها حين يصيبها الظلم، بل يزيل اللوعة عنها والأحزان بوجوده دائما معها.

ولأنَّ لهذا المفتاح هذه القوة الخارقة نرى الشاعر يُعَلِّق عليه كل آماله حين يقول:

مفتاح القلب إلى درب الإيمان
مفتاح الموسيقا في عزف الأنغام
ولسان يتحدث عن ظلم الظلاّم

فهو مفتاح القلب إلى درب الأيمان، وهو مفتاح الموسيقى، وهو اللسان التي تتحدث عن ظلم الظَّلَّام.

ولأنه كذلك فإنه الوحيد الذي يمتلك القدرة على معرفة الواقع واجتراح بطولاته واحتمال آلامِهِ:

هذا المفتاح
أدمن منتظرًا شرب الكأس المره
والقهوة مره
أدلج بالليل وأوغل
وأفاق قبل طلوع نهار
دق على باب تلو الباب
قال : أنا المفتاح أنا المفتاح
والمفتاح غدا يُكتب في الصفحة
حتى يقرأ من يدعوه إلى
أغنية بين الأطلال
ليغنيَها أو يفديَهـــا
أو يرقص في إيقاع الوجد
وترافقه قيثارة
داعبها بدلال

هذا المفتاح أدمن صعوبات الواقع دون أن يفقد الثقة بمقدرته على الفعل الخارق.
لم يتوقف عن الغناء او الرقص في إيقاع الوجد، أدلج بالليل، وأوغل وأفاق قبل طلوع نهار، وأفاق لينتمي لحقه في الغناء. يبدأ سيره للحلم بالتقاط لحظات الفرح حتى تلك التي يلتقطها من بين الأطلال ليرقص في إيقاع الوجد وترافقه قيثارة يداعبها بدلال.
ولأنّ المفتاح ذاكرتنا المعذبة بقوة الأنين، وبهاء الحلم، وقسوة الواقع نراه يتجلى في لحظات الفرح، ويتجلى أيضًا في صراع تلك اللحظات مع قسوة الواقع الذي تجعل المفتاح يردد من قسوتها: هل يمكن له يومًا ما أن يعود ليمارس فعله المغير للواقع؟

حتمًا سيعود، لأنه مفتاح الدار، وحتمًا سينتصر لانه متسلح بقوة الحلم، وحتمًا سوف يكشف المستور والمغلق من الأسرار، لا لسبب إلا لأنه مفتاح الدار:

المفتاح
مسحوا دمعته كل صباح
لمسوا وجعًا في نزف جراح
ظل المفتاح
في الصبر وأصداء الصبر
يرمقنا في عين التسآل
يطرقنا يسألنا إن كان يعود ؟

للمفتاح قوة الوجود الإنساني الذي يتأثر بما حوله، ويبكي من هول هذا النزيف الذي ينام عليه ويصحو على قسوته- من هول ما يجد ويرى ويعاني، كأنما أصبح عليه لزاما أن يعيش مقام الصبر بكل تجلياته، وأصبح لزامًا عليه أن يتساءل من قسوة الواقع:
هل يستطيع يوما أن يعود؟

الشاعر على ثقة رغم تساؤله البلاغي من أن المفتاح سينتصر، وسيعود ليمارس الغناء في هذا الفضاء المأسور بقسوة التحدي وجسامة الضرر- الناتج عن هذا النزيف والوجع الذي نعيشه واقعًا ملموسًا
وتظل قصيدة (المفتاح) رائعة وجميلة في هذا المفتاح الذي نستودعه كل أحلامنا.

رلى جمل

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى