الأحد ٢١ نيسان (أبريل) ٢٠١٣
بقلم محمد متبولي

مؤسسات بناء دولة ومجتمع الحضارة

عن الحضارة «15»

تحدثنا من قبل عن المؤسسات التي ستساهم في بناء الإنسان وجعله قادرا على إنشاء حضارة جديدة، ولكن يأتى السؤال الهام ماذا لو أعد الإنسان جيدا وأصبحت لديه قدرات كبيرة على إنتاج المعرفة والقيم، ولكن وطنه ومجتمعه لم يوفروا له الفرصة الملائمة للاستفادة من تلك القدرات وصقلها وتنميتها، سيكون الجواب المنطقي هو إما أنه سيحاول قدر ما استطاع فعل شئ إيجابي ما ثم سيستسلم للواقع، أو أنه سيترك ذلك الوطن ويذهب لوطن آخر يقدر إمكانياته، وهو ما حدث بالفعل مع كثير من العلماء العرب، من هنا يجب علينا طرح سؤال التالى، هل للدولة والمجتمع في الشرق هدف حضاري معين، بمعنى هل مثلا للدولة أو المجتمع في مصر أو تونس أو ليبيا أو سوريا أو اليمن هدف رئيسي بأن يصبحوا أوطان ضمن الدول المتقدمة خلال عشرة أعوام مثلا، أو من صناع السياسة الدولية خلال ربع قرن على الأكثر، أو قادة للحضارة الإنسانية خلال نصف قرن، أم أن الأمر لا يعنيهم من الأصل، لذا فسنحاول هنا تقديم رؤية حول كيفية تكوين مؤسسات دولة ومجتمع قادرين على المساهمة في نهوض حضاري حقيقي، ولكن أعذروني على تأثري بالحالة المصرية بعض الشيء بحكم أنها الأقرب إلى في الملاحظة، ولا أعتقد أن الأمر سيختلف كثيرا مع باقي الدول خاصة دول الربيع العربي.

فلو نظرنا إلى معظم مؤسسات الدولة الحالية سنكتشف أنها إما مؤسسات موروثة عبر العصور كمصلحة البريد مثلا، أو منقولة من النموذج الغربي كمختلف الوزارات مثل المالية والخارجية وغيرها، أو مؤسسات فرضتها الضرورة كتلك التي صنعتها الأنظمة المستبدة للحفاظ على نفسها مثل جهاز أمن الدولة المنحل في مصر، وهو ما يعنى أن هذه المؤسسات كان الهدف منها وجود الدولة، أي أنها مؤسسات تعتبر الدولة في حد ذاتها هدف ولا تتعدى ذلك لتتساءل ما هو هدف هذه الدولة نفسها، ولو أردنا أن نحدد أكثر من ذلك سنقول، إنها مؤسسات تسيير أعمال المحتل، بمعنى أن النظام العالمي لا يتعامل مع أفراد ولكنه يتعامل مع دول، ولأننا نعتمد على ذلك النظام في كل شئ بدءا من المأكل والمشرب وصولا للأقمار الصناعية والطائرات، فالدول دورها الحقيقي هو أن تتعامل مع ذلك النظام العالمي وتسير في الخط الذي رسمه له، لتحصل على أكبر قدر ممكن من احتياجاتها، وقطعا لن يكون من ضمن ذلك الخط أن ترفع هذه الدول رأسها في وجه ذلك النظام وتسعى لتغييره.

فالدول الشرقية عليها أن تضع لنفسها هدفا حضاريا واضحا، تحقق بمقتضاه خلال زمن معين نهوضا حضاريا كبيرا قابل للتطور ليصبح يوما ما حضارة إنسانية جديدة يوما ما، وفى ضوء ذلك يجب أن يتم مراجعة كافة مؤسسات الدولة لإلغاء ما انتهى دوره منها وإنشاء الجديد الذي تحتاجه الدولة لتحقيق أهدافها، وإعادة هيكلة ما يلزم، وبالتزامن مع ذلك تتم عملية واسعة النطاق من إعادة تعريف الدور والفلسفة لكافة مؤسسات الدولة، فباختصار شديد يجب إعادة بناء مؤسسات الدولة بشكل واع يضمن للدولة المضي قدما في أهدافها الحضارية، فعلى سبيل المثال لا الحصر، يجب أن تضع مؤسسات الدولة المسئولة عن التعليم والبحث العلمي هدفها الأساسي هو تحقيق قفزة كبرى فى العلم والمعرفة، وان تضع المؤسسات المسئولة عن الثقافة والإعلام والفكر بشكل عام صوب عينيها تحقيق تطور فكري كبير داخل المجتمع، والمؤسسات المسئولة عن الاقتصاد يجب أن تهتم بتحقيق قفزة اقتصادية إنتاجية كبيرة تراعى نقل نتائج العلم للصناعة، وكذلك فعلى المؤسسات الاجتماعية للدولة أن تعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية، وفوق ذلك كله يجب أن تقوم المؤسسات المسئولة عن الشئون الخارجية والدفاعية والأمنية بحماية كل ذلك، وهكذا باقي المؤسسات كل حسب دوره، ببساطة يجب أن تعتبر مؤسسات الدولة نفسها في حالة استنفار من أجل تحقيق هدف النهوض الحضاري، ليس بغرض تحسين أوضاعها وأوضاع مواطنيها، ولكن للحفاظ على بقاءها وبقاء شعوبها، وحمايتهم من الفناء.

ورغم ما سبق فالدولة وحدها لا يمكنها القيام بتلك المهمة دون معاونة مؤسسات المجتمع الأخرى، سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو منظمات مجتمع مدني، ولو أحببنا الحديث عن دور هذه المؤسسات سنقول، أن مهامها تكمن في الاشتراك مع مؤسسات الدولة في رسم السياسات، ومعاونتها في تنفيذها، وتغطية الأنشطة التي لا تستطيع مؤسسات الدولة تغطيتها بالكامل، ونقد سياسات هذه المؤسسات وتقويمها، والضغط عليها من أجل السير في المسار الصحيح إذا حادت عنه، وإيجاد سياسات بديلة أكثر رشدا من السياسات القائمة لإدارة الدولة، ومعارضة نظام الحكم والتصدى له حال إصراره على الحيود عن الطريق القويم، وأخيرا الإطاحة بنظام الحكم حال فشله في إدارة مؤسسات الدولة وإيجاد النظام البديل، وكل ما سبق يجب أن يتم فى إطار أساسي وهو إنشاء دولة ومجتمع وبناء إنسان يصنعون الحضارة، والسؤال الهام هل مؤسسات المجتمع قادرة بوضعها الحالي على القيام بهذا الدور أم لا.

إن ما ذكرناه عن مؤسسات الدولة ينطبق أيضا على مؤسسات المجتمع، فهي بحاجة إلى إعادة تعريف ورسم لفلسفتها، فالمؤسسات الاقتصادية الخاصة عليها أن توازن بين تحقيق مصالحها، ورفع الإنتاجية والكفاءة الاقتصادية للمجتمع ونقل نتائج العلم للصناعة، وعلى المجتمع تشجيع أنماط جديدة من الاقتصاد كالتعاونيات والمشروعات الصغيرة، والمؤسسات السياسية كجماعات الضغط والأحزاب، عليها دائما أن تضع السياسات والخطط البديلة ومواجهة النظام بها، وان تكون مستعدة دائما لتولى دفة القيادة متى فشلت الأنظمة الحاكمة القائمة في ذلك، أما مؤسسات المجتمع المدني فحدث ولا حرج، من جانب على هذه المؤسسات دور كبير في نشر القيم الحضارية الجديدة داخل المجتمع، ودعم المؤسسات الدينية والإعلامية والتعليمية والأسرة في بناء الإنسان، ومن جانب آخر عليها أن تضع لنفسها تصوراتها الخاصة عن المجتمع الذي تتمناه بعيدا عن ما يفرض عليها من الداخل أو الخارج، سواء كان ذلك أنماط سائدة لعمل تلك المؤسسات أو شروط ممولين، فعلى هذه المؤسسات أن تتحرر من كل ما يفرض عليها رغم عنها، وان تركز على رفع قدرات الإنسان وتمكينه من أداء واجباته والحصول على حقوقه، لا أن تقدم له مساعدات مباشرة تعود بعد زوالها معاناته، وعلى هذه المؤسسات أن تنتج بشكل خلاق الأفكار والسياسات والبرامج التي تدفع المجتمع للأمام، وتمنحه الثقة بنفسه ليتقدم ويتطور، وان تكون هذه المؤسسات ركن أصيلا في عملية التقدم والتطور تلك، وفى كل ذلك لا يجب أن تعمل هذه المؤسسات كجزر منعزلة عن بعضها البعض، بل يجب أن تعمل كل مجموعة مهتمة بمشروع أو فكرة معينة مع بعضها في تنسيق كامل من أجل الوصول لأفضل النتائج.

لو أردنا تلخيص هذا المقال في أسطر قليلة سنقول، إننا ببساطة نطمح في أن تضع أحد دول الشرق أو مجموعة منها خاصة المنتمين للربيع العربي هدفا رئيسيا لها أو لهم وهو صناعة حضارة إنسانية جديدة تقوم على العدل وتتلافى أخطاء وعيوب الحضارة الغربية الحالية، خلال فترة زمنية قد تكون خمسين عاما مثلا، ثم تقوم هذه الدول بوضع خريطة للأنشطة والبرامج التي ستنفذها خلال تلك الفترة لتحقيق هذا الهدف، ثم تقوم مؤسسات الدولة والمجتمع بإعادة هيكلة وتعريف نفسها ورسم فلسفاتها وسياساتها، لتحقيق ذلك، ويتم توزيع هذه الأنشطة والبرامج على تلك المؤسسات للقيام بها، أعرف أن كثيرين يقولون إننا نحلم أحلاما مستحيلة ومثالية غير قابلة للتحقق، ولكن علينا أن نتذكر دائما أن الصعود للقمر بدأ بحلم مجنون وانتهى بواقع ملموس.

عن الحضارة «15»

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى