السبت ٤ أيار (مايو) ٢٠١٣
بقلم عثمان آيت مهدي

لن أخرج من جسمي، مرة أخرى

لست أدري ما الذي انتابني لأيام، كنت أعيش فيها كوابيس ليلا مرتين ونهارا عند غفوة الظهيرة أحيانا؟ لم أتعود الاستيقاظ ليلا على كابوس إلا في حالات نادرة، قد تعدّ على أصابع اليد الواحدة طوال حياتي. لكن في تلك الأيام أصبحت لا أستغرق في النوم ساعة إلا وأعيش جحيما يوقظني، وبعده يحرم عنّي النوم لساعة أو ساعتين، ثمّ تغفو عيني لدقائق وأصيح مرة أخرى بسبب هذا الكابوس الذي يرافقني في نومي رغم أنفي.

بحثت في الأنترنات، في مواقع علمية وصحية محترمة عن سبب هذه الظاهرة، كانت جلّ الدراسات تصبّ في خانة ما نعيشه من هموم ومتاعب في نهارنا والتي تتحول إلى كوابيس ليلية. صراحة، استبعدت هذا الاحتمال لسبب واحد، هو حياة الهدوء والطمأنينة التي أحياها مع أسرتي الصغيرة المتكونة من أبي وأمّي وأختي الصغيرة. تركت هذه المواقع ورحت أبحث في مواقع أخرى لعلّي أجد حلا لهذا اللغز الذي حيّرني وأتعبني في آن واحد. وكان لي ما أردت، إجابات وتحليلات أسهب البعض في تناولها، والتي أرجعها أكثرهم إلى العين والحسد.
فقلت في نفسي، ولمَ لا يكون ذلك صحيحا؟ قد أكون محسودا من طرف أحدهم، وكلّ ذي نعمة محسود، كما قال الشاعر، أو أكثر من واحد لأنها كوابيس كثيرة، ربّما يضمرون لي الشرّ ولا يستطيعون تجسيده علنا فيبثون لي سمومهم بأعينهم الحادة المليئة بالبغضاء والشحناء فتتحول ليلا إلى عفاريت ووحوش ضارية؟

بدأت الفكرة تتغلغل إلى أعماقي، وتستولي على تفكيري المتزن، ماذا يجب عليّ فعله في مثل هذه الحالات؟ هل هو تجنب عيون النّاس، الانطواء في البيت، أم ادعاء الفقر والمسكنة والجنون؟ كثيرة هي الأسئلة التي كنت أطرحها، لكن دون إيجاد إجابة مقنعة تزيل عنّي هذا الوسواس القهري الذي حلّ بنفسي بعد لغز الكوابيس؟

وقررت أخيرا، أن أمسك الثور من قرنيه، أن أوبخ كلّ من رفع بصره إليّ، أو كلّمني محدقا في نقطة من جسدي، أو حتى سألني ممعنا النظر في إجابتي، سألقنه درسا عن سوء أدبه وقلّة خلقه. وهذا ما فعلته بالفعل. بدأت علاقاتي مع جوار الحيّ تسوء، وعلاقاتي مع زملائي الطلبة بالجامعة تتكهرب وتتعفن، ونفس الشيء مع عائلتي، والنّاس أجمعين. ووجدت نفسي في الأخير، وحيدا بعدما كنت صديق الجميع.

كانت هذه المبادرة يائسة غير مثمرة سبّبت لي متاعب كثيرة، كنت في غنى عنها، فقلت، ولمَ لا أفكر في الانطواء، لا أخرج من البيت إلا للضرورة القصوى، لديّ ما أشاهده في التلفاز من قنوات تعدّ بالمئات، وما أقرأه في مواقع الأنترنات، ولا حاجة لي في الناس ونظرتهم المخيفة لي. كان هذا التفكير بالنسبة لي سليما. وكان لي ذلك، انقطعت عن العالم الخارجي إلا في الحالات النادرة، تركت الدراسة وفضلت الركون في غرفتي مع عالمي الوحيد، تلفاز من الحجم الصغير، وكمبيوتر مزود بالأنترنات.

لم يكن هذا السلوك يرضي والدي الذي حاول مرارا تفهم وضعيتي، فكنت أطير في وجهه غضبا وحنقا، وكنت أفعل ذلك لأبعده عن تناول الموضوع الذي كنت أخشى معالجته أو حتى التحدث فيه.

لم يفشل والدي في إقناعي بمحاولة التحدث إليه، والبحث سويّا عن علاج يناسبني، ولم تفشل أمّي هي الأخرى في إقناعي، لكن دون جدوى، فقررا أخيرا الاستعانة براق، لعلّ مسّا من الجنّ قد سكن في بداخلي، وأنا عنه غافل.

سألني الراقي عن اسمي، وعن اسم والدي واسم والدتي، فأجبته.. ثمّ راح يتمتم بكلمات صعب عليّ فهمها، وأنا أحدق في وجهه، شيئا فشيئا، فقدت تركيزي واستسلمت له كلية، أعي ما يدور حولي ولا أقوى على تغييره أو رفضه، يسألني فأجيبه، يصفعني تارة، ويهزني بشدة، ويطلب منّي الخروج من جسمي، فأردّ، لا يمكن ذلك سأموت، وهو يصرّ على خروجي وأنا أصرّ على البقاء، فيصفعني، ويضربني ضربا مبرّحا، فأصرخ بأعلى صوتي لن أخرج من جسمي، سأموت، سأموت، إن خرجت من جسمي أيّها المجنون، لن أخرج من جسمي.
قال الراقي لوالدي: إنّه جنّ يهودي استوطن فلسطين، أرى أنّه لا يخرج إلا بالكيّ على صدر ابنك من الجهة اليسرى، موطن عمي الأبصار وضلال البصيرة. رقّت عاطفة والدي نحوي وطلب من الراقي أن يمهلني أيّاما لعلّ هذا الجنّ اليهودي سيخرج طواعية.

أفقت بصعوبة من سكرتي هذه، وأنا أتابع خفية خروج الراقي من بيتنا، ثمّ إغلاق الباب. قمت مسرعا إلى والدي أهدده عن سلوكه هذا، أمسكته بين كتفيه، وأنا أصيح، كيف يعقل منك ومنه أن أخرج من جسمي؟ أأنت المجنون أم هو؟

سكت والدي هنيهة، ثمّ قال: أعتقد أنّه خرج من جسمك دون علم الراقي، حمدا لله على شفائك يا بني.

قلت: ومن الذي دخل ليخرج من جسمي يا والدي؟

قال: إنّها أوهامك التي عشعشت بداخلك وكبلت إرادتك وسلبت مني ابني الذي أحبه.
قلت: هل أنا حقيقة مريض نفسيا إلى هذه الدرجة؟ غفرانك ربّي لقد كنت أسبح في بحر من الأوهام والشكوك، وعفوك يا والدي، لقد اعتقدتك إنسانا أميّا تؤمن بالرقاة والمشعوذين، وأنت الحامل لشهادة علمية عليا؟ تأكد يا والدي، أنّني لن أخرج من جسمي مرة أخرى.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى