الاثنين ١٠ حزيران (يونيو) ٢٠١٣
بقلم هاني حجاج

تأملات صوفية في نشيد الأنشاد

أهديها إلى تلميذتي النبيهة مريانا عادل، لأن الفضل يعود إليها في المقام الأول لأن تتجسد هذه الخواطر في كلمات مكتوبة، ولم تكن أكثر من ملاحظات كتبتها في قصاصات ورقية صغيرة أودعتها قلب صفحات نسختي من الكتاب المقدس في السنوات الأولى لدراسة الطب ثم توقفت لتتحول مع القراءة إلى رؤى وأطياف في الليل والنهار عندما تتفاعل نفسي مع قراءة الرؤيا فتخلق بداخلي طوفان من المشاعر غير محدد المعالم. وعندما أبدت مريانا رغبتها في قراءة شاملة للرؤيا دفعتني لترتيب هذه الأفكار، وتنظيم الانفعالات على الأوراق فكأنما صنعت بعقليتها الأنيقة المنمقة حدوداً وخطوط واضحة المعالم لفيضان الحواس لديّ ليتحول على الصفحات إلى تيار متدفق لنهر من نور أتمني أن يروي البعض من عطشك للمعرفة.

«رسالة حب»

ما هو سر الحب حقاً؟ وهل كان نشيد الأنشاد كاشفاً لسر يجري في العروق مجرى الدم؟ يخطئ من يظن أنه مجرد مناجاة. إنها نور خالص لتسبيحات فائقة الطهر والعفاف بين الكنيسة والمسيح حول لغز الحب الإلهي الرقيق في قلب كل مؤمن، ومن فيض هذا الحب يتدفق نهر الكلمات الدافئة والتعبيرات الحارة كما سال نهر الحب من الصليب تذكية وخلاصاً للمؤمنين. هذا السفر البديع آية رائعة تنحني أمامها أجمل الأشعار وأقوى القصص، ولخصوصيتها يمكن اعتبارها تاج من ماسات الكلام، وجواهر المعاني، ولآلي العشق، كقول المرتل: (أحبني وأسلم ذاته من أجلي) والآية (لأن حبك أطيب من الخمر) قبل الدخول في النشيد لننهل من آياته البديعة ورسالته البديعة. وكلما نقلب في صفحات سفر نشيد الأنشاد الذي يتوسط الكتاب المقدس الساكن في القلب لا بين اليدين، وجدنا أننا لن نكتفي على الإطلاق من دوامة النور والعطر والسحر لها القدرة على مداواة كل الجروح والشروخ لم نجد لها العلاج اللازم في أي حب أرضي، لكننا نجده مع خالق الخلق لندخل به ومعه وفيه مناجاة سماوية معناها أسمى بكثير من أي حُب يمكن تصوره، على العكس من تصور العامة الذين يحكمون بالشكل لا بالقلب حيث يضل القارئ طريقه إن لم يتمسك بإيمانه وتعلق برموز غزلية وحب كائن في الحواس لا الروح، فيفقد معانيه السماوية ويتجاهل حب عزيز يغمر القلب بالنشوة، والنفس بالنقاء، ويملأ الأرواح بحلم الخلاص، والذوبان في عشق المجد السماوي، سيمفونية للقلب حفلت بترانيم لا مثيل لها من قبل أو من بعد، أزهارها تحيل الدرب روضة بورود البتولية الفواحة كثمر من ثمار الإنجيل، سنحب نشيد الأنشاد لأنه أجمل وأصدق تعبير عن حبنا الأكبر بيننا وربنا.

***

«تهيئة روحية»

قبل أن تقرأ نشيد العشق الإلهي!

عندما تكون على موعد مع حبيبك فإنك تعمل على أن يراك في أجمل صورة وفي أبهى منظر، لأنك تراه بعين خيالك أجمل موجود، والحب لا يعترف إلا بقانون التكافؤ، لذلك تريده أن يراك كما تراه، وهكذا تجد أنك ترتدي أكثر ثيابك أناقة، وتضع أرق عطورك تأثيراً. وعندما تهمس إليه تنتقي أجمل الكلمات، وعندما تصفه تختار أفضل المعاني، وعندما تسمعه تصم أذنيك عن كل ما عداه لأنك تريد أن تحفظ كل كلمة قالها وتتذكر، بعد الفراق، كل ابتسامة وكل نظرة كانت على وجهه. حبيبك الأقرب إلى قلبك هو الله، وهنا تلقاه، والهيئة التي يريدك عليها هي تحضير روحك لاستيعاب كل معنى وتنقية قلبك لحفظ كل مناجاة. علاقة الحب هي أكمل علاقة في الكون، لأن أي علاقة أخرى لابد وأن يشوبها هدف أو مصلحة، فأقرب أصدقاءك يكون بجوارك لأنك تسلي وقته، وزميلك يتودد إليك طمعاً في خدمة بالمستقبل، وجارك يبتسم في وجهك ليأمن جانبك، وحتى أمك وأخوك يحبونك بدافع فطري رباني لا خيار فيه، أما حبيب روحك الذي اختارك فكلما أعطاك شعر بالرضا، وأنت كلما سلمت نفسك له امتلأت نفسك بالبهجة، فما بالك وعلاقة الحب هذه مع صاحب القلب الكبير والخير الكثير، ربنا الحبيب الذي يصاحبنا في كل نفس ومع كل دقة قلب. قبل أن تقرأ نَشِيدُ الأَنْشَادِ عليك أن تنظر إلى الكلمات بعين القلب وبوجدان العقل لتتجاوز المعني الظاهرية، لأنك هنا والآن ستكون في حضن حبيبك وحبيبك في حضنك.

نشيد الأناشيد سُمَي كذلك لأنه أجمل نشيد موجود كما تقول ملك الملوك وجميلة الجميلات وقدس الأقداس. كتبه سليمان الحكيم الذي وضع أناشيد كثيرة. وتعرض النشيد إلى افتراءات كثيرة من أعداء الكتاب المقدس والذين لا يفتحون صفحاته إلا لاصطياد أخطاء من وحي قلوبهم غير النقية، وهنا يسهل لهؤلاء السخرية لأنهم في الغالب لا يعبرون الرموز السطحية الظاهرية إلى معناها المقصود والذي لا يمكنك إدراكه إلا إذا جهَزت مشاعرك على درجة حب صوفية تنقل كل كلمة إلى ترجمة آلهية. لسنا هنا في محل دفاع عن السفر الجليل، لأن كلمات الرب
– في رأيي – تدافع عن نفسها بهيبتها وجلالها في النفوس، لكن المراد هنا هو أننا يمكن لما قراءة نشيد الأنشاد على مستويين، كما تقول لحبيبك عبارة ناعمة غامضة المعنى، تبدو في الأول بريئة المضمون حتى لو سمعها الآخرون ظنوا أنها كلمات عادية جداً، لكنه هو وحده يفهمها من نظرة عينيك وطريقتك في قولها وعندما يختلي بنفسه لتخرج منها المعاني السحرية لتملأ روحه بالدفء والسرور، وهكذا فنشيد الأنشاد هو مناجاة بين عروس وعريسها، ولكن مهلاً! ليس المقصود هنا هو موجات الغرام الحارة بين العاشق والمعشوق كما نعرفها جميعاً فحسب، لأن العروس هي الكنيسة وعريسها هو المسيح، وتحت ضوء هذا التفسير فقط يمكنك أن تفتح كل أبواب روحك لتشاركنا القراءة!
الكنيسة المسيحية تسلمت هذا السفر ضمن أسفار العهد القديم من بين يدي الكنيسة اليهودية ومن البداية نال مكانة خاصة لأسلوب الرمزي عن الحب المتبادل بين الله والنفس البشرية.

***

1- نَشِيدُ الأَنْشَادِ الَّذِي لِسُلَيْمَانَ:

2- لِيُقَبِّلْنِي بِقُبْلاَتِ فَمِهِ، لأَنَّ حُبَّكَ أَطْيَبُ مِنَ الْخَمْرِ، 3 لِرَائِحَةِ أَدْهَانِكَ الطَّيِّبَةِ، اسْمُكَ دُهْنٌ مُهْرَاقٌ، لِذلِكَ أَحَبَّتْكَ الْعَذَارَى.

كلمة عن سليمان الحكيم: لقد ارتفع عبر درجات من النسك بالإنسان إلى حياة الحب والوحدة مع الله في هذا السفر، وكما قمع الشهوات في سفر الأمثال، وأعلن بطلان كل ما يحدث تحت الشمس في سفر الجامعة، فهو هنا يسمو بالنفس فوق المحسوسات، ويرتبط بكلمة الله للتأمل في شئون السماء! وإليك مفتاح لبعض الرموز الهامة: العريس هو السيد المسيح الذي يخطب الكنيسة عروساً مقدسة له، العروس هي الكنيسة الجامعة أو المؤمن كعضو حي فيها، العذارى هم المؤمنون الذين لم يبلغوا بعد درجة العهد الإلهي لكنهم يتقدمون في طريق الخلاص، بنات أورشليم هن الأمة اليهودية التي كان يجب عليها أن تكفر بالمسيح المخلص، أصدقاء العريس، هم الملائكة الذين بلغوا الإنسان الكامل، الأخت الصغيرة، هي البشرية التي تحتاج من يخدمها ويرعاها، أقسام السفر: الفصل الأول: شخصا العروسين: 1- المسيا المتألم (2:1-6)، 2 – المسيا الراعي(7:1-12)، 3 - المسيا الملك (21:1-16)، 4 – المسيا الحبيب (1:2-7)؛ الفصل الثاني: الخاطب يطلب خطيبته: 1 – ينزل إليها بنفسه ( 8:2-14)، 2 – يحذرها من الواشين (8:2-14)، 3 – وليمة العرس (القيامة والصليب) (16:2-17، الإصحاح الثالث)، الفصل الثالث: الزفاف السماوي: 1 – العروس المقامة (1:4-15)، 2 – العروس تشارك عريسها (16:4)؛ الفصل الرابع: الحياة الزوجية: 1 – بدء الحياة الزوجية (1:5)، 2 – ظلال الحياة الزوجية (2:5-3)، 3 – بالصليب يعود الحب (4:5-9)؛ الفصل الخامس: الحب الزوجي المتبادل: 1 – العروس تمدح عريسها (10:5-16)، 2 – حوار في الحديقة (الإصحاح 6)، 3 – وصف العروس (شولميث) (الإصحاح 7)؛ الفصل السادس: العروس العاملة: (الإصحاح 8).

***

3- النفس المؤمنة تطلب قبلات الآب. حتى بعد إعلان حبه لها عندما خلق العالم من أجلها على مر العصور، لكنك لا تستغني عن قبلات حبيبك حتى وإن كنت تثق في حبه. لقد أوجد الحبيب نفسه من العدم وأعطاها صورته ومثاله ولم يعوزها شيء ووعدها بالخلاص بعد السقوط وأرسل لها الأنبياء لتأكيد المحبة ووهبها الناموس المكتوب. لكن كل هدايا الحبيب لا تغني عنه، فإنك تريده هو بنفسه، تريد قبلاته (هو)، أن يقترب منك ويهبك ذاته. إن العروس يغمرها السرور عندما يتقرب منها خطيبها ويتقرب إليها بالهدايا ويرسل إليها أقاربه، لكنها لن تشبع إلا بوجوده هو! هذه العروس لا تطلب قبلة أو أكثر بل ترغب في (كل قبلات فمه)، فعندما يفتح المؤمن نوافذ روحه لا يرى في الوجود غير الله. والحب أطيب من الخمر التي تسكر وتذهب بالعقل إلى عالم آخر هاديء وديع، والتي تبعث في البدن نشاطاً وسروراً، كذلك الحب ينعش الفؤاد ويسمو بالوجدان فتطير مع العصافير أجنحة النفس. أما الأدهان الطيبة فهي العطور البديعة التي تبعث في النفوس سعادة وتغير معالم الأشياء، كما سكب الرب على الصليب كمال حبه فانتشرت الرائحة الطيبة في جنبات الأرض، وكما في المزمور (أحببت الحق وأبغضت الإثم. من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك) وكما في رسالة بولس إلى كورنثوس (لأننا رائحة المسيح الذكية لله، في الذين يخلصون وفي الذين يهلكون) وفي سفر إشعياء (..فلا يصعد علينا الغبار بل الرائحة الذكية) وكما قال القديس أغسطينوس (لقد جاء وأفاح رائحته الطيبة التي ملأت العالم! من أين جاءت هذه الرائحة الطيبة، من السماء!) والعطر الطيب يعيد للقلب عذريته فلا يريد أن ينشغل إلا بمصدر العطر (لذلك أحبتك العذارى)

***

4- اُجْذُبْنِي وَرَاءَكَ فَنَجْرِيَ. أَدْخَلَنِي الْمَلِكُ إِلَى حِجَالِهِ. نَبْتَهِجُ وَنَفْرَحُ بِكَ. نَذْكُرُ حُبَّكَ أَكْثَرَ مِنَ الْخَمْرِ. بِالْحَقِّ يُحِبُّونَكَ.

تأمل جيداً الضمائر في الدعوة: اجذبني (أنا) فنجري (نحن) إليك، أدخلني (أنا) فنبتهج ونفرح (نحن) إذ عندما تنادي نفسي تنشد إليك كل جوارحي، وتكون أنت في داخلي، وأصير أنا فيك، وأصبح أنا بقلبي المؤمن رسول لك، يتعرف الناس عليك من خلالي ويطلبونك، وقد أجعل نغمة هاتفي المحمول ترنيمة مدهشة تدعو لحبك، فينجذب نحوها السامع ويطلبها، وبعد أيام نسمعها مع الكل! حينئذ تمتليء قلوبنا بهجة حتى السمائيون يفرحون أيضاً معنا! لا تركض في طريق العالم فلن تسابقه، ودعه فيما يخصه، لكنك تستطيع أن تغلبه بالحب! ويرى بعض الآباء أن الجمال الروحي هو سر المعمودية، في هذا يقول الرسول بولس (قد لبستم المسيح) كما الرداء الساتر

5- أَنَا سَوْدَاءُ وَجَمِيلَةٌ يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ، كَخِيَامِ قِيدَارَ، كَشُقَقِ سُلَيْمَانَ.

هذه صورة جميلة للاعتراف بعدم أهمية المظهر الخارجي إن كان الجوهر ثمين، فهي تعترف بأنها سوداء (لكنها) جميلة، وأنها مثل خيام قيدار التي كان شكلها غير مميز ومغبّر (لكنها) مبهرة كستائر سليمان، وهكذا فشكلك الجميل لا يعني أي شيء ما لم تكن روحك كذلك، وملامحك غير الوسيمة لا تحزنك لأن روحك أغلى من الذهب والجواهر. وتستطيع قراءة الآية من جديد بهذا المعنى: أنا سوداء ببشرتي لكن قلبي أبيض ناصع بحبك، إني سوداء بضعفي البشري، لكني كاملة خلال سر الإيمان، وأنا في حضن حبيبي لا أذكر شكلي ولا يفرق معي تعب جسمي ولا يهمني وقت ضعفي، بل كلما زاد إرهاقي وتعبي أحببته لأنه يدفعني إليه ويرميني في حضنه أكثر. الكنيسة سوداء بخطاياها، لكنها كاملة النعمة بحب المسيح، سوداء بضعفاء القلوب، لكنها جميلة بالخلاص، سوداء بتراب الجهاد، لكنها مبهرة بنصر المؤمنين. نشيد الأنشاد في عيون متصيدي النواقص أسود إذا رآه جنسي وحسي، لكنه أبيض اللون، كامل الأوصاف في قلب المحب وروح المؤمن وعاشق الرب! وللعلامة أوريجانوس تفسير بديع لهذه الآية إذ يرى أن الكنيسة توجه خطابها هنا – لا إلى العريس، ولا العذارى الساعيات في الطريق – واتفقنا أنهن يرسون إلى أمة اليهود – بل إلى بنات أورشليم، اللواتي اتهمن الكنيسة العروس بالقبح وشهرن بسوادها، فتجيب الكنيسة على هذا الاتهام بحديث تؤكد به صدق الاتهام، لأنها فعلاً سوداء، وهكذا تبدو وكما حكمت عليها بنات أورشليم. ولكن ليت بنات أورشليم يدركن جمال الداخل الذي للكنيسة، إذ بينما هي سوداء فهي جميلة. إنها وإن كانت في سواد وقبح خيام قيدار إلا أنها في جمال شقق – ستائر – بيت الملك سليمان. إن الكنيسة صاحبة هذا الحديث هي كنيسة جماهير الأمم، وبماذا يمكن لكنيسة الأمم أن تتفاخر أمام بنات أورشليم الأرضية، أي اليهود؟ الذين صبوا جام غضبهم على الكنيسة وعريسها، وكالوا للكنيسة كل احتقار وازدراء، ونسبوا إليها دناءة الأصل وخسته، لأنه لا يجري في عروق أعضائها وأبنائها دم النسب إلى إبراهيم وإسحق ويعقوب، هذا هو الذنب العظيم في نظر اليهود، إن كنيسة الأمم ليست من سلالة الآباء. وتعترف الكنيسة بهذا، وتردد نفس الاتهام الذي تعيرت به من بنات أورشليم (أنا سوداء)، وهذا السواد ليس فقط للحرمان من نسب الآباء، وإنما أيضاً من الحرمان من تعليم الآباء والأنبياء. هؤلاء الذين رفضهم الناموس وطردوا من خيمة إسحق، خلع عليهم الإنجيل جمال شقق وستائر سليمان الملك، وما هي ستائر بيت ملك السلام إلا ستائر خيمة الاجتماع حيث يسكن الله مع شعبه، الخيمة التي غطتها من الخارج جلو الماعز غير الجميلة، واحتوت من الداخل روعة الستائر، فضلاً عن مجد الله فيها، ستائر الخيمة من الجلود الرخيصة، أما من الداخل فالستائر من الحرير والأقمشة الغالية. أيضاً قيل أن التشبيه يشير إلى زواج موسى النبي بالمرأة الكوشية سوداء البشرة، فثارت أخته وتكلمت ضده وشهرت به+

6- لاَ تَنْظُرْنَ إِلَيَّ لِكَوْنِي سَوْدَاءَ، لأَنَّ الشَّمْسَ قَدْ لَوَّحَتْنِي. بَنُو أُمِّي غَضِبُوا عَلَيَّ. جَعَلُونِي نَاطُورَةَ الْكُرُومِ. أَمَّا كَرْمِي فَلَمْ أَنْطُرْهُ.

فحتى مظهري الذي لا يهمني لم يكن لي يد فيه بل ظُلمت وعانيت من الشمس القاسية فسوّدتني، فبدلاً من أن يدعم اليهود الأمم عيّروهم بسوادهم (وثنيتهم) لعل هذا يوضح قول بولس الرسول (أن القساوة قد حصلت جزئياً لإسرائيل إلى أن يدخل ملء الأمم.. فإنه كما كنتم أنتم مرة لا تطيعون الله ولكن الآن رحمتم بعصيان هؤلاء) (رو 30:11،25) ففي السابق كانت الأمم مثقلة بشمس التجارب محروقة من شمس العدل والغفران، فأعطيت الفرصة لإسرائيل أن يختاروا وينعم عليهم بالرحمة لكنهم رفضوها وسقطوا تحت شمس القسوة والعصيان، لكن بظهور المسيح أشرق الوجه الأسود بنور الإيمان كقول المرتل: (لا تحرقك الشمس بالنهار ولا القمر بالليل) (مزمور6:120)

بنو أمها هم الرسل الذين هم من جماعة اليهود، لم يكتفوا بإثارة حرب عنيفة داخل الأمم، لكنهم أنكروا كرمها الخاص، ولعلهم الملائكة فقد صار البشر والملائكة منتمين إلى أم واحدة، يعاونوننا في الحرب الداخلية ضد الخطية حتى تقدر الروح أن ترعى كرم الرب، ولعلها الأنا، فأنت عدو نفسك.

7- أَخْبِرْنِي يَا مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي، أَيْنَ تَرْعَى، أَيْنَ تُرْبِضُ عِنْدَ الظَّهِيرَةِ. لِمَاذَا أَنَا أَكُونُ كَمُقَنَّعَةٍ عِنْدَ قُطْعَانِ أَصْحَابِكَ؟

***
أي جزء فيك يحب حبيبك، هل هما عيناك؟ إنه جميل ما في ذلك شك، ولكنك تظل على حبه حتى في غيابه، بل على العكس، إن غيابه يزيد شوقك إليه. حتى إذا أتعبه المرض فشحب وجهه وبهت بهاء ملامحه وفقدت تقاطيعه الوسيمة رونقها سوف تظل على عهد حبك به؛ بل إنك في قرارة ذاتك يسرك ألا يلاحظ الكل جماله ليبقى لك وحدك، وإن تصوّرت أنها أنانية منك أن تفكر على هذا النحو ينقذك من نفسك خاطر لطيف يقول لك سر: إنك ترجو ألا يكون بهذا الجمال حتى تثبت لذاتك أنك ما أحببته إلا لشخصه. هل تحبه بحسابات العقل؟ طيب، لو أعطيتك مليون جنيه على أن تتخل عن حبك له بالكامل، هل تستطيع؟ إنها ثروة لا بأس يمكنك أن تفعل بها الكثير، لكنك لن تهنأ بمليم منها عندما تتذكر في كل وقت أن الثمن هو أصدق شيء مر بك، بل إنك من الأصل ليس بمقدورك إتمام الصفقة، فأنت لن تنساه لمجرد أن البديل الأفضل موجود. حتى لو كان هذا البديل شخصية أروع وأخف دماً وأنسب لك، لا يد لك في حبه حتى يكون لك يد في نسيانه. هل هو القلب كما تقول كلمات الأغاني؟ ولكن تعب القلب لا يضعف الحب، وإن زادت دقاته لرؤية الحبيب فليس وحده الذي يستجيب، إذ ترتعش الأصابع ويتلعثم اللسان ولا تقوى الساقان على حملك بل تود أن تجري لتلق بنفسك بين ذراعيه، ويدور رأسك من التفكير المتعب إن غاب عنك.

لابد إذن وأن الشيء الذي بداخلك حب فوق حدود الإدراك والمعرفة المعتادة أو هو كل حواسك مجتمعة مع القلب والعقل، فيما يمكن أن نشير إليه (النفس) والنفس البشرية تدعو الله (يا من تحبه نفسي) فهو يراها إن لم تكن العين تراه، وهو يرعاها وإن ضعف العقل عن إدراك قدراته، والنفس التي هي سر عظيم للرب هي التي تحبه وتهواه. وكذلك وسط محن العالم تستنجد الكنيسة بالراعي الصالح، تسأل عن مكانه ومرعاه، وعن مركز وقت الظهيرة، وسط النهار حيث يعلو الصخب والقلاقل، ويرتفع الانتباه وتزداد الحاجة، فتكون أشد ما تحتاج إلى رعايته. وقديماً قال جريجوريوس أسقف ينصص إن هذا هو الاسم الذي يدعو الله به (يامن تحبه نفسي) لأن اسمه فوق كل الأشياء، وهو غير مدرك حتى بالنسبة لكل الخلائق العاقلة. هذا الاسم يعلن عن صلاحه، ويجذب النفس إليه، فكيف لا تقدر على حبه، يا من أحبنا، وكنا موضوع رعايته. والنفس تسأل عن مكانه وطريقه لأن الدروب في الحياة كثيرة، متفرقة، متشعبة، والنفس تتخطفها الأهواء والرغبات، منها الصحيح الصالح، ومنها المؤذي الضار، فالذي يبدد الوقت في جني المال، والذي يفعل الأفاعيل سعياً وراء الشهرة وليقول الناس فلان فعل وسوى، والذي يبخل ويعاند ويحارب ويقتل محبته بيده خوفاً من الناس ومن المستقبل، والذي، والذي، وبين هؤلاء يغمض المؤمن عيناه ويرفع كفيه أمام شفتيه هامساً للرب أن يرشده الطريق وكأن تاج الشوك على رأس المنقذ مفروش على ظهر الأرض ونطمح أن نتحرك داخله دون ألم نحو المركز الذي يشع منه النور في خيط ممتد لقلب السماء.

وفي قول القمص تادروس يعقوب: حقاً، ما أحوجنا أن يمسك الراعي نفسه بأيدينا ويدخل بنا إلى كنيسته، موضع راحته، مرعى الخلاص... هناك نلتقي بالسيد المسيح نفسه سر راحتنا وسلامنا، وننعم بمواهب روحه القدوس الذي يعزينا. في بيته نلنا حب الله، وقبلنا روحه القدس، وسكن فينا رضاه ووجدنا غفران الخطايا ووجدنا سلامنا الداخلي. متى نسى العدو الحرب ضدنا، ومتى ثارت الخطيئة داخلنا؛ نجري إلى بيته فنجد الراعي نفسه يبحث عنا، وروحه القدوس يشتهي تقديسنا.

(نقول) (نحن) (المؤمنون) هذا بصيغة الجمع للتأكيد من جديد على أن التي تناجى حبيبها ليست العروس، بل النفس المعذبة، بل المؤمنون في كل مكان، بل الكنيسة بجميع أبناءها، كما نرى في مواضع كثيرة من النشيد أن المتحدث يبدو أنه شخصية واحدة، لكنها تشبّه نفسها بالخيام والستائر وأشياء كثيرة بصيغة الجمع للدلالة على أن المنشد هنا جماعة من الكنائس لا عدد لها، وتجمعات من الشعوب، ومئات من المؤمنين لا حصر لهم ولا علم عنهم إلا عند الله، وذلك كما قيل عن ملكوت الله أنه واحد ومع ذلك يذكر وجود منازل كثيرة في بيت الآب ( في بيت أبي منازل كثيرة) (يوحنا 2:14). كما نجد صدى جميل لطلب الرعاية في المزمور السابع والعشرين إذ حمت شمس التجارب علي النبي داوود فلجأ إلى بيت الله ليرعاه إذ يربض عند الظهيرة: إن نزل على جيش لا يخاف قلبي، إن قامت عليّ حرب، ففي ذلك أنا مطمئن. واحدة سألت من الرب وإياها ألتمس أن أسكن في بيت الرب كل أيام حياتي، لكي أنظر إلى جمال الرب وأتفرس في هيكله، أنه يخبئني في مظلته يوم الشر، يسترني بستر خيمته، على صخرة يرفعني، والآن يرتفع رأسي على أعدائي حولي، فأذبح في خيمته ذبائح الهتاف أغني وأرنم للرب. أما كلمة الظهيرة فلها عدة دلالات: منها أنها وقت انتصاف النهار حيث تنتبه الحواس ويكون طلب الرعاية في مكانه الأصح. وفي وقت الظهيرة تكون أشعة الشمس عمودية على الأرض، فلا تجد ظلالاً مع كل هذا النور، أي لا ترى أية أوهام أو لمحات ضعف مع كل هذا الإيمان. وحيث يسطع حب الله ليظهر كل الأشياء على حقيقتها فالمؤمن يرى بنور الله ويميز الخبيث من الطيب، ويعرف المنافق من سليم النية، ويعثر في الطريق على الإمكانية. كما تدل الظهيرة على كمال بهاء الرب وملء عظمة الخالق التي تبدو كوضح النهار فلا تخطئها العيون، ولا تلتبس على النفس عطاياه كما تتكسر ظلال المغارب، ولا تختفي لمسته الحنون كما يتوه شعاع الشمعة في الليل العميق. فالعروس تحب أن ترى عريسها في أجمل حالاته، كما ترتدي له الأبيض الناصع وتغسل وجهها بماء الورد وتنير ليلة الزفاف الأضواء الباهرة، تريد عريسها في أرق صورة، وأقوى نشاط، تريده بكامل حبه وحنانه وقوته ليهتم بها ويرعاها وينتبه لأشواقها فلا يكلفها عناء التعبير عن حبها له، يدرك حاجتها لحنانه دون أن تتفوه بكلمة، يتفاعل مع أدق رغباتها حتى ما لاتعرفه هي عن نفسها! أنا أريدك في ملء النور. أريدك ياحبيبي لا عندما يشغلك عني الصباح، ولا عندما تغفو العيون ليلاً، بل أريد قبلاتك في عز الظهر! ومن جديد يجب أن تكون الكنيسة في ذهنك ،وأنت تقرأ نشيد العروس، فكما يقول عنها النبي ( يعينها الله عند إقبال الصباح ) ( مزمور 6:45) حيث تتعلم الكنيسة الأمور البدائية الأولى، وهكذا فعندما تأتي الظهيرة تكون الشمس تعامدت بنورها على الأرض كذروة كمال معرفة أسرار كلمة الله، عندئذ تبحث الكنيسة عن أكثر كمالاً وتشتاق إلى علوم أكثر علواً تعلو بها إلى الحضرة الإلهية في ضياء عظمة الرب وكأن الآية النورانية مسطورة أفقياً بحروف من ذهب تقاطع عمود شعاع الشمس فيصنعان معاً صليباً هائلاً يخطف الأبصار لجماله وجلاله. أيضاً لم يأت وقت الظهيرة دون دقة، فهو يحمي ذكريات هامة في تاريخها، فهو الوقت الذي ظهر فيه الرب لأبو الأنبياء إبراهيم وبشره هو وسارة زوجته أنه يقيم لهما نسلاً، يكون بركة لأمم كثيرة (وظهر له الرب عند بلوطات ممرا وهو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار) (تكوين 18:1)، وهو نفس الوقت الذي التقي فيه يوسف أخيه الصغير بنيامين (وكأن بنيامين –ومعنى اسمه-أبناء اليمين- الأخوة الأصاغر للراعي الصالح )، وفي الوقت نفسه أعلن يسوع ذاته لشاول الطرسوسي (فحدث لي وأنا ذاهب ومتقرب إلى دمشق أنه نحو نصف النهار، بغتة أبرق حولي من السماء نور عظيم. فسقطت على الأرض، وسمعت صوتاً قائلاً لي: أنا يسوع الناصري الذي أنت تضطهده. والذين كانوا معي نظروا النور وارتعبوا، ولكنهم لم يسمعوا صوت الرب الذي كلمني. فقلت : ماذا أفعل يا رب؟ فقال لي الرب: قم واذهب إلى دمشق، وهناك يقال لك عن جميع ما ترتب لك أن تفعل. وإذ كنت لا أبصر من أجل بهاء ذلك النور) (أعمال الرسل22)
وعند الظهيرة تهكم إيليا من كهنة البعل ( إيليا- أي إلهي- هو الذي يسخر من جنود إبليس، وقت الظهيرة وأمام الكل، وقد حصل ذلك عندما ارتفع الصليب وقت الظهيرة ليسحق الشيطان وأعوانه.)

أما تفسير كلمة يربض فواضح جداً، لكنه على كل حال يذكرنا بـ ( ربض الأسد)، فالراعي الأمين لا يربض ليحرس رعاياه مستسلماً أو خنوعاً. إنه يفدي ذاته لحمايتهم وهو في منتهى قوته. وعندما تقول العروس(لماذا أنا أكون كمقنعة عند أصحابك؟) فمن شوقها لمعرفة الطريق إليه تخشى أن تفقد بعض الوقت في طريق آخر لا يؤدي إليه. عندما تكون على موعد مع حبيب روحك تمر عليك الدقائق كالسنوات، وتصبح كل الوجوه المألوفة غريبة عنك، ويتحول الطريق القصير إلى رحلة شاقة. وإن كان الذي يفصل بينكما خطوات، فهي كالأميال، ويهزك المعنى المؤلم: كيف يسكن قلبي، وكيف رقادي في حضنه هو أغلي أمنياتي ولا أعرف طريق الوصول إليه؟.

الحبيبة تشتاق أن تتعرف معالم الطريق الذي يلزمها أن تسير فيه لتلقاه، فإن هي لم تجد الدليل من البداية قد تضل في لهفتها عن الدرب وتعرج المنحنيات لا تصل إليه ولا توصلها به فيراها أصحابه وكثيرون غيره، وهي لم تتزين إلا له وجعلت نفسها في أحسن صورة لتملأ عينيه وقلبه ولا يرضيها أن تطاردها العيون الجائعة للجمال الخارجي ولا تعرف عن معنى الحب الكامل إلا بعض كلمات مكررة لا يقولها صاحبها إلا ليوقعها في الفخ، فإن بهت الجمال أو ضاعت الرغبة ووقع الصيد في الأسر، لم يعد العسل من الكلام المزيف إلا طعم الخداع المر فلو أن قوة سحرية تأخذها بسرعة البرق، تطوي الطريق وتسرق الوقت لتجد نفسها بين يديه وتسلّم نفسها لحبه فترتاح من وجع الشوق ولهفة الانتظار وملل اليوم الطويل الذي يمر دون وجوده أريد أن لا يراني أحد غيرك، ولا أحب أن أكون جميلة إلا في عيونك، أود أن أعرف الطريق الذي يحضرني إليك، ولا يدخل أحد بيننا، ولا حتى أصحابك . هذا ما يكون بين الحبيبة وشريكها تعالى معي الآن إلى المستوى الثاني بين نفس المؤمن والخالق الودود . النفس تشتاق إليه في سماه لكنها تتعذب في كل حين من متاعب الحياة والناس، فكيف السبيل إليه؟ ولماذا الحياة ضيقة خانقة وسماؤه واسعة رحبة؟ لماذا الجدران صلبة سميكة كالزنزانة والسحاب الأبيض الطاهر يطير فوقنا ورحمة الله بين جنباته؟ فأين الطريق؟ نفسي الظمآنة تبحث في كل المواقف والتفاصيل عن إشارة لحبه، لكن من غيرة الحق على أصحابه أنه يترك للمؤمن حرية البحث عنه ولا يفرضها عليه. لكن الصلاة وسيلة، والصوم وسيلة، والدعاء وسيلة، والرضا بقضائه وسيلة، والاجتهاد في العمل وسيلة. حب الضعفاء وسيلة، الكبرياء وسيلة، والاعتداد بالنفس والثقة بالذات وسيلة، الكبرياء وسيلة وكذلك الشجاعة. النتق من بين الفضائل عدة أزهار وأجمعها في صُحبة جميلة فواحة وقف عند بابه.. سيفتح لك!

وعندما تسأل نفسك: الله يحبني فلماذا يؤلمني الناس؟ فكر في أن الإجابة قد تكون في أن الله نفسه يغلق أمامك بعض الطرق لتجد الطريق إليه. لعلك لو غرقت في بحر النفاق اليومي ابتعدت عنه. العجيب هو أن الطريق إلي الله يعيد فتح كل الطرق المغلقة بينك وبين الآخرين! صحيح أن كل الطرق تعمل معاً لفعل الخير، ولكن لماذا تؤجل موعدك مع حبيبك؛ وأمامك طريق مباشر: كلّمه في كل وقت سيسمعك. ارفع رأسك لأعلى عند الألم سيراك. لا تنام قبل أن تصلى له سيأتيك في عز الليل ليرفع الغطاء عن جسم البردان. والآن هيا لنقرأ المستوى الثالث للتفسير: بين الكنيسة والمسيح: الكنيسة تغمرها رياح كثيرة كثيفة وتعاليم شتى، لكنها ليست ضائعة أبداً ولا حائرة.. وتعرف أنها لا يجب أن ترتمي عن قطعان الرعاة الذين يعملون لحسابهم الخاص وليس لحساب العريس: السيد المسيح. لهذا هي (مُقنعّة)، تداري وجهها خلف قناع من الأسرار في ظل حماية الكهنوت حتى لا يراها إلا راعيها بوجهها الحقيقي المكشوف. وقد يكون القناع هو (برفع الشريعة القديمة) فعندما تكتفي العروس بمخلصها عند الصليب وقت الظهيرة لا تعود تلبس قناعاً، إذ زال الحجاب وانقشع عهد الظلال والظلم والظلام، وبدأ (عهد جديد) نقابل فيه ربنا بوجه ظاهر للعيان، عياناً بياناً، جهاراً نهاراً، فلا نحتاج في كنيستنا إلى العودة إلى قناع شرائع موسى، بل ندخل بثقة إلى أسرار الله في حضرة الملكوت العظيم.

8- إِنْ لَمْ تَعْرِفِي أَيَّتُهَا الْجَمِيلَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ، فَاخْرُجِي عَلَى آثَارِ الْغَنَمِ، وَارْعَيْ جِدَاءَكِ عِنْدَ مَسَاكِنِ الرُّعَاةِ.

تعرفي ماذا؟ لم يحدد. لكننا عرفنا في الآيات السابقة أنها يجب أن تعرف (نفسها) وتعرف (حبيبها) وتعرف (الطريق إليه)، هذا الثالوث الذي يبدأ بمعرفة النفس. من أنت حقاً؟ هل تعرف نفسك؟ قال الفيلسوف في زمان قديم: اعرف نفسك بنفسك، وعنده حق، فلا احد يعرفك. فهل أنت الزميل المتحفظ الذي يشهد له زملاء الدراسة أو العمل بالأدب والالتزام؟ أم أنت صديقي المرح الذي يتجاذب معي أطراف الحديث بحرية ودون قيود ويتبسط معي في الكلام دون خجل؟ هل أنت هو الابن الذي يجب عليه مراعاة تعليمات الكبار ونصائحهم وان لم تعجبه ويتأرجح بين رعاية الأهل الدافئة وأوامرهم الجادة الحادة؟ هل هو أنت ذلك الأب القلق على بيته وأولاده؟ هل هو أنت ذلك الشخص الغريب عني ولا أعرف أي شيء عنه وأحببته من النظرة الأولى؟ من هو أنت حقاً؟ أنت في نظر كل واحد شخص آخر، فمن أنت في نظرك؟ يجب أن تعرف الإجابة عن نفسك.. بنفسك. عليك أن تعرف ما هو مكانك في الدنيا، ما الذي تريده وما الذي تحبه. فكما تحب تكون. وكما ترجو تنل وإن كان حلمك النجوم. لو وجدت هذه الأسئلة صعبة، ستجد المساعدة في الحب. عندما تشاء الصدفة ويظهر من بين الجميع توأم روحك سيوفر عليك الكثير من العناء والوقت، لأن حبيبك لن يقف عن حدود جمالك فقط بل سيشغل فكره وباله بالبحث داخلك عن كيانك وجوهرك وذاتك. لأن حبيبك يهمه أن تدرك طبيعتك الحقيقية حتى يعرف ما الذي تهواه وما الذي تعافه نفسك، لأن غرضه الوحيد منك هو أن يسعدك. وعليك أن تعرف أن الحب يضفى برونقه عذوبة للعقل والنفس كما هو هناء للقلب والروح.

وكما تشرق الشمس فتهرب الوطاويط، يأتي الحب لتتخلص النفس من الوساوس ويصبح الحبيب هو محور الاهتمام وعلى أساس من العلاقة التكاملية بينك وبينه تبدا في اكتشاف ذاتك لأنه مرآتك. في قصة الأطفال كانت الأميرة تسأل المرآة في كل وقت: (مرآتي! مرآتي! هل توجد من هي أجمل مني؟). لكن حبيبك سيخبرك فعلا أنك الأجمل والأغلى والأحلى، وسيجعلك كذلك إن لم تكن كذلك، وإن كنت كذلك في عيونه فلن يهمك رأى الغير. وإن أخبرتك المرآة بتفاصيل ملامحك وهيئة هندامك وتناسق قوامك، فمرآة حبيبك ستخبرك بجمال روحك، وهيئة أحلامك، وتناسق أفكارك. للمرآة زجاج بارد قد يجرحك بصراحة قاسية إن لم تكن جميلاً. لكن مرآة حبيبك ناعمة دافئة ستبحث عن الزاوية التى ترى منها جمالك، وترى فيها كم أنت مهم له، لأن المرآة هي قلبه!

والمسيح يريد من الكنيسة أن تعرف الطبيعة الحقيقية لها التي سوف تتجلى رعايته لها من خلالها فتوهب لها الحياة، هذه الطبيعة التي أخرجتها على يد الآباء القديسين من الانعزالية والذاتية في العهد القديم. فعندما خلقت على صورة الله ومثاله كان يفترض بالنفس البشرية أن تكون بلا عيب وأن تصبح كاملة الزينة بين جميع الكائنات (الجميلة بين الكائنات) وهكذا يدفع الله للمؤمنين به بروح الأمل والرجاء، فإن كانت النفس الحائرة لم تتعرف غلى ذاتها بعد، فهو يعرفها تماما لأنها (المميزة في الجمال) ومسكن الروح القدوس وتهيأت به لتكون عروسه الأبدية. وهو يعتبر جمالها أمر مفروغ منه وعليها أن تبدأ في البحث عن كينونتها فيما هو أعمق وأهم!

(جميلة بين النساء) لأن الإنسان جميل بين الخليقة كلها، وفضّل خالقه على ما خلقه بأحسن صورة ومثال عليه أن تكون أخلاقه في جمال خلقته. ولذلك يأمر الله النفس (أخرجي) أي تتحرك من مكانها وتتحرر من قيود الركود والعادة والسلبية، فهي لن تصير جميلة بين النساء ما لم تتفاعل مع كلمة الله وتخرج مع راعيها وتبحث عنه في كل موضع، وتخرج من الأنا والذات البشرية وتذوب في حب الله فتحيا به وفيه وله.

وترعى (جداءها) عند مساكن الرعاة. الجداء جمع الجدي وهو ولد العنز الصغير الذي لم يتجاوز العام من عمره (والكبير منه هو التيس) وفي سفر إشعياء (فيسكن الذئب مع الخروف ويربض النمر مع الجدي) ( إشعياء 6:11 ) _لاحظ فعل يربض المرتبط من جديد بالحيوان القوي_ كما يستخدم إنجيل متى كلمة (جداء) للإشارة بشكل مجازي على الأشرار (ويجتمع أمامه جميع الشعوب فيتميز بعضهم عن بعض كما يميز الراعي الخراف من الجداء، فيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن اليسار... ثم يقول أيضاً للذين عن اليسار (الجداء): اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته (متى 32:25 _ 41).

ولذلك عليها أن تشهد للراعي أمام الجداء لتدخل بهم إلى حضن رعايته وحضن عنايته، فتدعو الكنيسة رعاياها للامتثال بالآباء القديسين وتدعو النفس حواسها ونوازعها الشاردة للسكون في ظل الرب المحبوب. كما يدخل المسيا الراعى بالجداء الضالة إلى الحظيرة ليصيروا خراف وديعة تعمل بروح القوة والوحدة.

9- لَقَدْ شَبَّهْتُكِ يَا حَبِيبَتِي بِفَرَسٍ فِي مَرْكَبَاتِ فِرْعَوْنَ.

ظلت الفرس رمزاً للبهاء والشجاعة والنبل والحق، حتى في الأساطير القديمة خرجت الأميرة على فرسها تواجه القرية الظالمة. وفي الشطرنج تقفز الفرس خطوتها المميزة التي لا مثيل لها بين القطع الأخرى. وأيقونة مار جرجس الشهيرة لا ننساها وهو على صهوة فرسه البيضاء يضرب برمحه تنين النار. وفي نهاية الكتاب المقدس تتجلى في نبؤة يوحنا اللاهوتي عبر رؤياه العظيمة صورة هائلة وضعت تحت عنوان (الراكب على الفرس الأبيض): "ثم رأيت السماء مفتوحة وإذا فرس أبيض والجالس عليه يدعى اميناً وصادقاً، وبالعدل يحكم ويحارب ويمناه كلهيب نار، وعلى رأسه تيجان كثيرة، وله اسم مكتوب ليس أحد يعرفه إلا هو" (رؤيا 11:19 _12) وكان لفرعون مركبات شديدة تجرها أفراس مختارة للحرب والنزال، وجاء ذكر ذلك في فصل مصادرة فرعون لموسى في سفر الخروج (فلما اخبر ملك مصر أن الشعب قد هرب، تغيّر قلب فرعون وعبيده على الشعب. فقالوا :" ماذا فعلنا حتى أطلقنا إسرائيل من خدمتنا؟ ". فشد مركبته وأخذ قومه معه واخذ ست مئة مركبة منتخبة وسائر مركبات مصر وجنوداً مركبية على جميعها. وشدد الرب قلب فرعون ملك مصر حتى سعى وراء بني إسرائيل، وبنوا إسرائيل خارجون بيد رفيعة . فسعى المصريون وراءهم وأدركوهم. جميع خيل مركبات فرعون وفرسانه وجيشه. وهم نازلون عند البحر) (خروج 14 :5_9).

وهى فرس في مركبات (صيغة جمع) دلالة على عملها التعاوني فالمؤمنون يلتقون معاً في تيار الجهاد الروحي لمواجهة الشيطان وأعوانه، والكنيسة تقتفى آثار الآباء الأولين (أخرجي على آثار الغنم) وتهتم بالأبناء (ارعي جداءك) في عمل جماعي كأحد الفرسان التي في موكب المسيح، فالكنيسة تعلق ملكيتها للسيد المسيح فهو يقودها، كما تعمل النفس المؤمنة لحساب الملكوت الأعظم، وفي رؤيا القديس يوحنا اللاهوتي سنرى أنه يشبه الكنيسة بفرس الرب الأبيض (والجالس عليه معه قوس، وقد أعطي أكليلاً، وخرج غالباً ولكي يغلب) (رؤيا 6 : 2) وفي آية أخرى (ورأيت الوحش وملوك الأرض وأجنادهم مجتمعين ليصنعوا حربا مع الجالس على الفرس ومع جنده) (رؤيا 19 :19) ويقصد بالجالس على الفرس يسوع قائد الكنيسة ويكرر الوصف والباقون قتلوا بسيف الجالس على الفرس الخارج من فمه، وجميع الطيور شبعة من لحومهم) (رؤيا 19: 21)، وفضلا عن هذا فالفرس تمتاز بالقوة والجمال معاً والإقدام في المعارك (هل أنت تعطي الفرس قوته وتكسو عنقه عُرفاً ؟! أتوثبه كجرادة؟.. أيخرج للقاء الأسلحة؟ يضحك على الخوف ولا يرتاع ولا يرجع عن السيف) (أيوب 39 :19_21)، وفى رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس رأى نفسه أحد هذه الأفراس في مركبة الخلاص فقال (شكرا لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح (أكورنثوس 15 :57)، كما وصف النبى زكريا قوة بيت يهوذا (إن رب الجنود قد تعهد قطيعة بيت يهوذا، وجعلهم كفرس جلاله في القتال (زكريا 10 :3)، كما وصف بها قوة الله العلوية حبقوق (هل على الأنهار حمى يا رب؟ هل على الأنهار غضبك أو على البحر سخطك حتى أنك ركبت خيلك ) (حبقوق 2 :8) وفي سفر الملوك الثانى (أرسل إلى هناك خيلاً ومركبات وجيشاً ثقيلاً) (2ملوك 6 :14) وعندما دعا أليشع وبه أن يتفتح عيني الغلام (فأبصر وإذا بالجبل مملؤ خيلاً ومركبات نار حول أليشع (2مل 6 :17).

وأخيراً فالإشارة إلى مركبات فرعون لأن مصر كانت معروفة بأصالة خيولها، وفي تفسير أخر أنها بدلاً من الغرق في البحر كمركبات فرعون، تطهرت بالمعمودية فصارت فرساً بيضاء.

10- مَا أَجْمَلَ خَدَّيْكِ بِسُمُوطٍ، وَعُنُقَكِ بِقَلاَئِدَ! 11 نَصْنَعُ لَكِ سَلاَسِلَ مِنْ ذَهَبٍ مَعَ جُمَانٍ مِنْ فِضَّةٍ.

السموط هو العقد الذي يحمل صفوفا من المجوهرات، وعندما تلتقي الفتاه الجميلة بحبيبها تتورد وجنتيها فتصبحان كأوراق الورد، فتلمع البهجة في تقاطيعها كأنها قطع من الياقوت مع صفية من أسنان كاللؤلؤ في ابتسامتها، بين شفتين بلون سماء الفجر وخدين في لون التفاح الناضج، تصطف درجات الألوان في أروع صورة كأنها صفوف الجواهر في عقد ثمين، وكأن النفس المؤمنة لا تنعم فقط بالسلام الأبيض الطاهر، لكنها تهنا بالبريق الخاطف لأطياف عدة، وطائفة من الألوان المفرحة، وفي إحدى الترجمات جاء هذا التعبير (ما أجمل خديك بحمامة) تعبيراً عن أن سر الجمال المشرق في الكنيسة ليس الزجاج الملون ولا المصبوغ وإنما تمتعها بثمار الروح القدس الذي يظهر على شكل حمامة. ولم يكن خديها بهذا الجمال في البداية، ولكن قبلات فم الحبيب أشعلت داخلهما النور الباطني فتورد فيهما بهاء العفة والفضيلة وجمال البتولية اللذيذ، كما وأن قبلة العريس على خدي عروسه العذراء تحيلهما إلى فاكهة ناضجة بفعل الحب والحياء وكذلك الفخر والسعادة. وهى عروس وديعة كالحمامة وهى إشارة للطهارة والنقاء (كونوا بسطاء كالحمام) (متى 10 :16)، وفي النسخة الإنجليزية التي عندي جاء وصف الحمامة هكذا turtle_dove وهو نوع معين من الحمام ليستأنس بوليف واحد لا يرضى عنه بديلاً، فإن مات أحد الزوجين لا يقبل الآخر عوضاً عنه، بل يمضي عدة أيام قلائل بعده ثم يموت في هدوء حزين. كذلك الذي يحب من صميم قلبه لا يعرف سوى أنه لا يكتمل إلا بوجود شريك حياته، وان كيانه الخاص لا يتحقق إلا بوجود الحبيب، فإن استبدلته الظروف بآخرين أكثر أهمية يزداد عناداً وطلبا لمحبوبه. نظرتنا الثانية ترى أن النفس البشرية لا تعرف إلا أن تتحد مع خالقها لتتجدد وتجد أمامها السبيل السليم. والنظرة الثالثة تقول أن الكنيسة لا ترى إلا المسيح سيداً لها وبدونه ضاعت وفقدت هويتها، كما انك بدون الشخص الذي تحبه تصبح أمام نفسك بلا معنى، ولا هدف من وجود حتى وإن كنت ذا أهمية عظيمة لآخرين، كل هذا لا يهم، المهم هو ما اختاره قلبك! القلائد جمع قلادة وهى العقد أو الكروان، والعنق هو دلك الجزء من الجسم الواصل بين الرأس وباقي الجسد، وبمعنى آخر الرابط بين العقل والجسم، فإذا ازدان هذا الرباط وتجمل كانت الصلة بين أفكارنا وحياتنا نفسها جميلة، وإذا كانت هذه الصلة بين ما يدور في الرأس وبين ما يحيا به الجسد لامعة ثمينة، حدث التناسق في كل نواحي حياتنا. الاضطراب أمر مؤسف وتكراره كافي لتدمير كل شيء. عندما تفقد السيطرة على طريقة تفكيرك تتسلل إلى نفسك الخواطر المزعجة وتقفز الكوابيس فوق ظهر أحلامك، وعندما يمرض عقلك تسوء طموحاتك ويتسلل الشك إلى روحك ثم يتغلغل اليأس إلى قلب قلبك فيقضي عليك. الضياع يبدأ بأن تسلم رأسك للهواجس وفكرك للظنون وأن تسمح للآخرين بسلب أعز ما تملك وهو شخصيتك الخاصة واستقلالك الذاتي الذي به تبحث عن الله وتعثر عليه، في هذه الحالة يذهب فكرك في مسارات البشر المتضاربة، فالكل لا يتفق وكل شخص ضد الآخر، وضد نفسه أحياناً، هنا عليك أن تتوحد بفكرك وعواطفك، عقلك مع قلبك، ما تحبه وما يحبه حبيبك، فيحدث الانسجام بين الصواب وبين ما تميل إليه، ويحدث التناسق بين العقل والروح، ويحدث التناغم بين ما تهواه وما هو يجب عليك أن تفعله، ويحدث التألق المدهش لعنقك الجميل!
الجمان هو حبة الفضة ويطلق الاسم أحياناً على اللؤلؤ، وما زلنا في توصيف العروس بالمجوهرات والأحجار الكريمة والذهب والفضة. والذهب جاء في أكثر من موضع في الكتاب المقدس للإشارة إلى السماء والحياة السماوية، ولعل المقصود هو أن الحب الكامل سوف يحقق السعادة المنشودة على الأرض وسعادة الروح في السماء. وأطلق على القديس يوحنا فم الذهب لأن كلماته سماوية وكذا نبؤاته العلوية. وفى سفر الأمثال يقول الحكيم (تفاح من ذهب في مصوغ من فضة كلمة مقولة في محلها) (أم 25 :11) يريد أن يقول أن الكلمة الجميلة التي تقال في وقتها المناسب كتفاحة ذهبية في علبة من فضة. وفي سفر ليشوع (احبس فضتك وذهبك واجعل لكلامك ميزاناً ومعياراً).

10- مَا دَامَ الْمَلِكُ فِي مَجْلِسِهِ أَفَاحَ نَارِدِينِي رَائِحَتَهُ. 13 صُرَّةُ الْمُرِّ حَبِيبِي لِي. بَيْنَ ثَدْيَيَّ يَبِيتُ.

الناردين سائل عطري غالي الثمن يستخرج من نبات صغير الحجم ينمو بشكل فريد في أعالي بعض الجبال. وتركيب الجملة معقد بعض الشيء ودون الدخول في تفصيلات لغوية يمكن تفسيرها بأن العروس ترد إلي عريسها الحب بالحب كما تضع أرق عطورك قبل لقاء المقرب إلى قلبك حتى تفعم أنفه رائحتك الجميلة، فإذا لم تلمحك عيونه في الزحام، وإذا استعجلت إلقاء نفسك بين أحضانه، ترسل له عطرك الفواح الطائف بجسدك المشتاق يسبقك إليه ويخبره كم تحن إليه وتريده!!

وهى تنسب (الناردين) إلى نفسها (ناردينى) وكأنها لم تضع العطر الغالي من اجله فقط بل صارت رائحة بشرتها ذاتها عطرية من فرط نشوتها بحبه وشوقها لحنانه، وإذا أردت ان تعرف شكل هذا النبات المعطر فهو يبدأ بجذر جاف في أرض قاسية يتحول إلى أورق تتقاسم الأخضر الزاهي والباهت ثم تخرج في القمة زهرة وردية شديدة الأناقة، كذلك تنشا الفتاة في بيئة معادية، ووسط جامد غير متفهم، ويدفعها الشوق للحب لعدة أهواء ومواقف متغيرة الألوان والمعاني لكنها لا ترضى بأي منها، حتى تتركز أشواقها في حنين جارف لشخص واحد مميز يفهمها كما تفهمه عندئذ تنضج زهرة شبابها وتأخذ لونها الخلاب الذي يميزها عن بقية الأوراق. بالكيفية ذاتها تكابد النفس عذابات حياة خشنة وميول غير صائبة، وتجارب لا تليق بها، ثم تتكون بكل لون وتسير في عدة طرق وتقلد البعض حتى تستقر في إيمان صلب واحد بالله يحررها من الحيرة والتخبط فتزهو بحبه وتفخر بأنه سيدها ومرشدها وتجد فيه عنوانها ولونها الطبيعي المميز.

صرة المر حبيبى: المر طيب الرائحة أصلاً ولكن عندما يُصر أي يوضع في صرة محكمة الغلق أو في صندوق محكم الثغرات يعتّق فتصبح رائحته أقوى وأطيب، كالحب الذي تزداد حرارته عندما تعتز به وتغلق على سره الجميل قلبك، وكرسالة الحب المكتوبة بشفرة لا يفهمها إلا حبيبك تظل منطوية على معناها المكتوم الجميل، وليس الجمال هنا في معناها وإن كانت عادية الكلمات وإنما في فكرة أنها سوف تبقى سراً بينكما. حبيبك كالسر العزيز احفظه في ركن أمين في أعمق أعماقك، أسكنه في حضنك الدافيء حتى تتحرر مشاعره الحبيسة كعطر المر المصرور، فليكن حبيبك دمعة حبيسة فلا تبكيك لوعة الفراق ويفر من قرة عينك. أدخله قلبك وأغلق عليه الباب حتى لا يتسلل إلى الداخل شركاء وحتى لا تتشتت العطور السحرية له. ولكن لا تجعل سر حبه لنفسك، بل شاركه هو هذا السر، لهذا لم تقل العروس (في قلبي يبيت) بل (بين ثديي يبيت) فمعه أخرجت له الحب الكامن ووهبته صدرها الحنون ليبيت في حضنها، وقديماً كانت الزوجة تعلّق في عنقها سلسلة تتدلى بها صورة مصغرة لزوجها الغائب تظل في موضع القلب بين الثديين دلالة لحبها له ولأنها ملكاً له ولأن صورته تحرسها في غيابه. ولتعبيرها ذكاء الحب الذي تفصح به بعفوية غريزية أنه وإن كان للمرأة قلب واحد لا يحمل إلا حب أمل حياتها، فإن لها كذلك ثديان يرمزان لعواطفها المتقلبة على الجانبين، وليعرف أنه وإن ملك قلبها، فإن عليه_ وهي أن تهبه نفسها_ أن يسعدها بأن يملك ثدييها، ويملك معهما عواطفها المتقلبة يميناً ويساراً، بين الحنان حنيناً، وبين الحزن حنيناً، وبين النشوة مرة، وبين الألم مرة، بين المرح السعيد يوماً، وبين الحلم الناعس أيام، فإذا كان المحبوب بالذكاء الكافي لفهم الإشارة فهو سوف يسكن بين ثدييها ويحتضنهما بيديه وحبه ويحتضن بينهما قلبها العاشق فيفوز بكل ما فيها. الآن لك أ، تفكر في نفس المؤمن التي تضم بين جانبيها السر الإلهي من صنع الخالق الذي ترك لها حرية الإيمان به، وهي إذا تنشد الطريق لربها لتحفظه بداخلها كما يحفظ العطر المعتق في ركن مظلم مغلق بإحكام، يرمز الثديان هنا إلى جانبين متضادين من النفس، جانب العهد الماضي العابث اللاهي، والجانب الجديد المؤمن الملتزم الواثق في الرب وقدراته ومحبته. تستطيع الآن إذاً أن ترتفع إلى مستوى جديد لترى الكنسية تضم بين أسرارها حبها العميق للمسيح حتى لا يتسرب إليه الشك أو القلق، كما يتسرب الهواء والبلل للعطر المحفوظ فيتلفه أو يبدد عبيره. والثديان هما العهد القديم والعهد الجديد كثديي الأم بهما تتغذى الكنيسة وتستمد قوتها، وبينهما يستقر قلبها النابض بحب الله؛ هذا القلب المغلق على سره الذهبي بعيداً عن ظلمة الحياة الزمنية في ظل حاجتها المستمرة لله، حتى تتجلى الغيوم عن يوم الدينونة العظيم ويفتح نهار الأبدية!!

14- طَاقَةُ فَاغِيَةٍ حَبِيبِي لِي فِي كُرُومِ عَيْنِ جَدْيٍ. 15 هَا أَنْتِ جَمِيلَةٌ يَا حَبِيبَتِي، هَا أَنْتِ جَمِيلَةٌ. عَيْنَاكِ حَمَامَتَانِ.

(أذكر أن التفسير الخاص بالآية السابقة، وهذه الآية وما يليها اخذ الوقت الأطول وأنا اكتب تأملاتي في النشيد، أعتقد أن هذا بدأ أثناء عام الامتياز الثاني للدراسة مباشرة في المستشفى، بالطبع كان من السهل العثور على معاني كلمات مثل الناردين والمر وغيرهما، أما المقاصد الخفية، ودرجات العشق الإلهي التي تتجلى للمتأمل فهي لا تجيء عندما تستدعيها ولا تأتيك حسب الطلب، وهى كذلك ليست كإلهام الأدباء تداعب خيالك في أوقات السكون وروقان البال، بل تكتسبها روحك بالعمل والتجارب وخوض المحن وتأمل أحداث حياتك وما يحدث للآخرين حولك ومقارنة الكل بالكل، فالله يقف وراء ذلك كله ومن الصعب فهم حل اللغز إلا بتأمل الأجزاء عن قُرب، وعن بُعد. كان عام التدريب على ممارسة الطب بالنسبة لي يحمل شحنة إضافية من الاقتراب من لحظات الاحتضار، والألم الذي يسبق الشفاء، واللمسات الخفية ليد الله وهى تنتزع رعياه من براثن المجهول وسط عجزنا المذهول، كذلك كانت ورديات السهر طويلة قاسية صاحبني فيها النشيد وسفر الرؤيا والعهد الجديد وعلى قصاصات ورقية صغيرة كنت أكتب بعض الخواطر وأشطبها ثم أرسم بعض الرسوم ثم أغطيها بالرموز ومحاولات كثيرة وهكذا، ولابد وأن يستقر في وعيك وروحك تفسير أخير تثق به وتأمل من الله أن تكون قد اقتربت وهدأت حيرتك بعض الشيء، وربما أتى من هو بعدك بإضافة أفضل وتفسير أعمق مكلمات الله لن تنتهى بحور نورها، ومادام حبك لربك معينك وصخرة خلاصك فلابد وألا تبقى في جروحك كدمة، وأن يعود الغصن للكرمة، وأن ترجع لروحك الكلمة!) _نعود للتأمل والتفسير_ الطاقة الفاغية هي حزمة من زهور الحناء والتي تضعها العروس في كفها ليلة الحناء وتقبض عليها أصابعها طيلة الليلة السابقة لليلة الزفاف وفي الصباح لها لونً محمر مميز له عطر طيب فواح، ويبدوا أن الإشارة ليست بعيدة عن الفداء العظيم، فكما الصليب مخضب بالدم المحرر، هل تريد _في شخص الكنيسة_ لو أنها تتكون بالأحمر مثله على سبيل رد الجميل. (هذا التفسير) أغاظ أحدهم فسخر بشدة من أن يكون هذا هو المعنى المقصود، لم أطل الحديث معه ولم أهتم. الفكرة هنا أنك تلتقط من السماء المعنى الذي تجده يخاطب وجدانك في بعض المناطق، وتجد في أغنيات العروس مرشدك لأن تكتشف وحدك هذه المعاني غير المباشرة، وكما قلت من قبل النص النبيل يدافع عن نفسه، لهذا لا أرد، ولكني أضع أمامك هذه الملاحظة: التفسير على مستويات ثلاثة الذي نتبعه هنا: علاقة العروس بعريسها_ علاقة النفس البشرية بالله_ علاقة الكنيسة بالمسيح، ألا يزال قابل للتطبيق منذ بدأنا دون خلل؟ يمكنك أن ترى هذا أو لا تراه، يمكنك ألا تحب هذه التأملات أولا، الأمر يتوقف على استعدادك النفسي وتهيئتك الروحية، يجب أن تنظف باطنك من الشوائب والوساوس الخبيثة حتى تتلقى معاني حب الله دون توتر أو شتات، يجب أن تنظف الكأس قبل أن تصب فيها العسل، فإذا تلوث العسل بشوائب الكأس فالعيب ليس في العسل ولا في من أحضره إليك!) _نعود للتأمل_ يقول: ها أنت جميلة يا حبيبتي، هاأنت جميلة، عيناك حمامتان. وهذه هي المرة الثانية التي يدخل فيها العريس في أغنية العروس. هل تذكر المرة الأولى؟ نعم، حين أخبرها أنها الجميلة بين النساء. هذه المرة أضاف كلمة حبيبتي. لأنك لا تمل من وصف حبيبك بأنه جميل. ولأنك لا تتعب من إخباره بأنك تحبه بمناسبة وبدون. هذا التكرار ليس الغرض منه الفراغ وعدم وجود ما يقال، بل للتأكيد على شعوره الداخلي بها: أنها جميلة. هكذا يراها وهكذا يريد منها أن ترى نفسها، حتى تكتسب بحبه ثقة تجعلها تنأى بنفسها عن التافهين ممن لا يستحقون حبها ولا النظر إليها. ويرى السيد المسيح في كنيسته جمالاً لا يذوي ونضارة لا تذبل، عيناها حمامتان تسر ناظريه وكأن الروح القدس حلّ فيهما، وهو على شكل حمامة، فملأها بنور باطني وجعل بصيرتها الروحية تطل من العينين فتبدوان كحمامتين، وفي المزمور تقول: اشتاقت نفسها أن يكون لها جناحي حمامة. فالحمامة رمز السلام والمحبة ولها القدرة على الطيران إلى أفق بعيدة وأن تعبر الحدود الضيقة فتخرج من المعاني المعتادة لتحوم في ساحات الحكمة، وبالهيام تصفو عيني حبيبك فتصبح حدقتها كالمرآة من شدة النقاء فيمكنك أن ترى فيهما وجهك وأنت تهتم بتقبيله، هكذا يرى الروح القدس نفسه في عين حبيبته ويرى هيئة الحمامة التي تعبر عن البساطة، والوفاء، فمن غير الحمام يعرف كيف يحفظ حياة الحب، وهو يرى حمامته، أي قصه حب كاملة، لا وليف مفقود، ولا حبيب وحيد. ويرى في عيني حبيبته توبتها عن الوقت الذي أضاعته من عمرها دون أن تكون معه، كقول النبي حزقيال (يكونون كالحمام يهدرون كل واحد على إثمه)، فخفقة قلب العاشق كافية لتكفير ذنوب كثيرة وتصبح روحك كالحمامة لأنه (إن كانت عينيك بسيطة فجسدك كله يكون نيراً، وإن كانت عينيك شريرة فجسدك كله يكون مظلماً) (متى 6: 22_23)، فكان الحبيب يقترب من معشوقته قائلاً: رمز الوداعة في عيني شريكتي، وإن كانت عروسي في الأصل جميلة، فبالحب، حبيبتي وديعة!
16 هَا أَنْتَ جَمِيلٌ يَا حَبِيبِي وَحُلْوٌ، وَسَرِيرُنَا أَخْضَرُ. 17 جَوَائِزُ بَيْتِنَا أَرْزٌ، وَرَوَافِدُنَا سَرْوٌ.
(نهاية الإصحاح الأول) كما يراها جميلة تراه كذلك، وأضافت حلو لأن جماله زاد عندما اقترب منها والحلاوة شعور جديد كطعم السكر فأصبحت تدرك جماله بكل حواسها، وكأنها تراه برؤية أشمل عندما جعل من عينيها حمامتين، فكأن المؤمن لن يبدأ في التعرف على عظمة الله وسمو الكلمة إلا بعد أن يتقبل عيني الحمامة وتصفو روحه بالبساطة والوداعة، الجسد لا يستريح إلا في الفراش وبعد أن تحدثنا عن الظهيرة، جاء اليوم إلى ختامه، فالعروس يمر بها الوقت مع عريسها، كما يمر الزمن على نفس المؤمن تسكن وتطمئن وتجرب، والسرير هو مكان راحة النفس والبدن الذي يتقبل سكن الرب، وإن كان السرير هو الكف الناعم الذي يستريح فيه المحبين معاً، فهو الهيكل الذي يضم المصلي مع معبوده، وهى تقول (سريرنا) لأنها لن تنام وحدها بعد الآن لتتقلب في أشواك الوحدة وألم الاحتياج، لكن جسدها صار ملكه، رغم أنها لا زالت تدرك وجودها بنفسها، كما أن النفس تظل داخل الجسم لكنها تدين لله وتصاحب كلمته وتنتمي إليه، والسرير (أخضر) رمز الثمار، فلقاء الحبيب لن يكون جافاً بارداً، بل في اتحادنا معاً تنتج حياة جديدة، كما أن ذوبان النفس المؤمنة في كلمة الله يمطر الندى الأبيض على نار العصيان فتتطهر وتخرج من رحم المعاناة روح جديدة كلها أمل ونقاء. الجوائز هي عوارض البيت وعمدانه لأن الحب ليس وهماً والعلاقة بالرب غير قائمة في الفراغ، والحب لابد وان يكون له أساس وأرض وسقف ليتعمد ويشتد بنيانه، فإذا شاء الله بقدرته أن يزلزل أسس الجبال، ظل حب المؤمن له صلباً كخشب الأرز المتين. أما شجرة السرو فمع قوتها العظيمة، فلها رائحة طيبة والروافد هي الأسقف المائلة ومن السرو كانت تصنع السفن وهياكلها وكذلك الرماح، فإننا ندعم بيتنا بأساس من التقوى والشجاعة والمودة ورسالتنا هي بناء بيت الرب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى