الثلاثاء ١٨ حزيران (يونيو) ٢٠١٣
قراءة نقدية في كتاب
بقلم صونيا عامر

نــــزولاً عنـــد رغبــــة المـــــــــــــــطر

للشاعر التونسي: عبد الفتاح بن حمّودة

فاللّعب شيء أكبر من وعي اللاّعب ولذا هو أكبر من كونه فعلا ذاتيا، واللّغة شيء أكبر من وعي المتكلّم ولذا فهي أكبر من كونها فعلا ذاتيا وهذا ما قد يُوصَف بأنه تجربة للذات. هانز جورج غادامير،الحقيقة والمنهج.

هذا ما يفتتح به ديوانه «نزولا عند رغبة المطر» الشاعر التونسي عبد الفتاح بن حمودة، معلنا حربه الفلسفية على كل ما هو بديهي، وهذا ما ميز ديوانه بكل ما جاء فيه من تساؤلات وجودية حاولت جاهدة ألا أغفل أهم ما جاء فيها، علني وفقت ولو قليلا، حيث أنني أعترف بصعوبة الغوص في بحر المعاني التي شكلها الشاعر على أحلى صورة.

لقد حاول بن حمودة إعادة الأشياء لأصولها «الخشب شجرة والماء سحابة والزجاج رمل والخبز عرق فلاح والوردة جراح بستانيّ». محاولا بذلك إعطاء كل ذي حق حقه في زمن ضاع فيه الحق ووراءه المطالب. في قلب عبد الفتاح طفل يرفض النضوج، يعشق براءته لا يريد هجرانها، يدعو للعفوية والصدق" كن طفلا دوما، فللطفولة ألف لغة". مشيدا بالدهشة السوداء التي قد تحمل أكثر من معنى " كيف ألّفت بعينيك نجمة كبيرة لنا نحن الأطفال؟". ويؤلمه رحيل حبيبته عنه بفعل القدر المكتوب ببلوغ الصبا معاتبا "عندما كنّا طفلين صغيرين جدّا. كنّا نشترك في لعبة إغماض العينين !" مشيرا بذلك الى حسنات الطفولة وفوائد لغاتها الألف التي أشار إليها قبلا.

في صوت بن حمودة أنين وحدة " هنا المقهى الذي أشرب فيه قهوتي وحيداً. كيف قرأت كل ذلك الليل وحيدا؟". ثمة وصف حزين لمعركة وطنية تدميه "ثمّة مياه تحترق، ثمّة أياد مقطوعة....". بمشاهدها الهمجية، وقسوة منفذيها. بين الشاعر والواقع عدم تصالح كبير حيث باتت تتعبه التفاصيل الصغيرة" تؤلمني عضّة الّشتاء، تؤلمني عضّة صفّارة أول «ميترو» في الفجر"، الفقر والتشرد والبرد والجوع " يؤلمني ادّعاء شاعر نسيان ريف جميل في طفولته، يؤلمني احتساء قهوة «نسكافي» في الخامسة والنصف فجرا". ليعود ويحس الجمال واصفا " يا جمرات الثلج المكسوّة بالفيروز".

يخبئ قلب بن حمودة إحباطا وشعورا بعدم التقدير، يحتاج للفت الانتباه والاهتمام " يا شجرة المشمش المتورّمة من كثرة الوطء، ها أنا أيتها العابرة بين سيقان الآخرين، ها أنا يا بائعة الملح". سألتني المذيعة في المساء عن الحظّّ..أجبتها : بارد صيفا يا عزيزتي !. متشائم من وقع الأحداث المتسارع الدامي " السّماء حمراء، السّماء حمراء، ليس ثمّة لون أزرق في «مادة» ، في الجنوب البعيد الذي أسمع طقطقة عظامه، ليس ثمّة كيمياء"." لماذا لمْ تقطع البحْر صيْفًا!؟ بينما كنتُ ألعنُ الأشجارَ التي لم تحلق رؤوسها انتصارًا للشّمسِ!".

ويتمنى اتحادا وقوة " يسبّون الجلالة بصوت مرتفع ثم يبصقون على الرّمل، منزلين سراويلهم شماتة في الرّيح !. وكؤوس الشاي المضمّخة بالزعتر تجمعنا أكثر من أي وقت مضى معترفا بوقوع ضحايا " لكن لا تنس أنّ أجمل الحشرات تلك التي نقتلها بضربة كفّين". ليعود للحث على المضي قدما، مصورا مشهد البحر من أمامكم والعدو من ورائكم " أحرق المراكب مرّة أخرى لعنك الربّ !.أحرقها أيها الطفل فالبحر غابة دخان كثيفة". معيدا بذلك حنينه للطفل بداخله الذي ما زال يأبى النضوج، معلقا آماله كافة على شباب يعتبره المستقبل.

وذلك دون أن يغفل شوقه لحبيبته، خلال رحلة التحرير من الغاصب الظالم " سأحرس قطيعا من الماعز في البحر، و سأعود حاملا خمورك". ثمّة شيء ما يحمل ثقل سنوات يتمكِ، لماذا كنتُ أحلم بأنّ راعية ماعز البريّ. ودون أن يغفل غيرة كاوية " تجري فوق رمال البحر مع الأصدقاء الملاعين؟"، ليعود للاعتزاز بنفسه ناصحا " دعك من كلمات لا تشبه البرق أو المطر !".

لعبد الفتاح بن حمودة موقفا واضحا ضد التطرف الديني، محملا الأديان أجمل معانيها " في مقهى الكون تعثر على تمائم البحر والصحراء. ترفرف الفتيات المسيحيّات ، حيث ينبتن بلا أجنحة. ليمتد رفضه للتقليد بالحرف كذلك، ثائرا على ما اعتدناه " مجانين يرسمون همزة الواو همزة ألف وهمزة آخر السطر همزة بئر صغيرة". وللحلم مساحة كبرى في شعره، توازي مساحة الطفل في قلبه " لم أعد غارقا بما يكفي حتى تتغرغر عيناي بمطر في « قرطاج ". ربّما فكّرت بآلاف المناقير التي تستيقظ مساء في غرفتها العلويّة حيث نسجت هناك آلاف رباطات الضوء الصغيرة قرب موقدها".

لينتقل معطيا للغزل بحبيبته المكانة العظمى" شيء ما خفيف مثل قبّعتها، شيء ما خفيف مثل عطر يديها الناعمتين، أنت فراشةٌ حقًّا، لكنّي غامض كبرْقٍ". " أغوصُ معهُ ممسكًا بنار الطّحالب. أفعلُ كلّ شيء لطرده من جنّتي، وهو يفعلُ كلّ شيء لإرضاء غروره!". " كنت أعرفُ أنّ الخطّين الأسودين فوق شفتيها سربٌ كاملٌ من النّحل لكنْ، هاهي تترك كلّ ذلك النحل لتنام فوق مروحة!". معرجا على آثار التكنولوجيا " لكنّي نسيت الياباني الذي قال بسرعة البرق : « إن الجبل الذي يلفه الضباب ليس تلاّ وشجرة البلّوط التي يغمرها المطر ليست صفصافة باكية».

ليختتم ديوانه بعامل الدهشة، عنصر الصدمة المريرة التي يجترعها بلذة المرهف الحساس والشاعر الفيلسوف " عندما تعثرين على شيء لامع في الليل، تذكّري الرصاصة التي نبتت فجأة فوق عشب سنواتك الدامعة !. الليلُ لَيْلِيٌّ حقا. في محفظتي السّوداء التي غصّت بدموعها، وبأوراق الأصدقاء اليتامى، لم أمنح أصابعها سوى شَاهنامة فارسية في علاقتها بالشمس، بعدما سقطتُ من بنايات عالية مباشرة من البحر، كنت أعرف معنى أن تُصلب أشجار اللوز هناك !".

مكتشفا أسبار الحياة وأغوارها " لي أكثر من عين على ما أظنّ : واحدة حمراء تقرأ شريط الأخبار أسفل مربّع الشاشة ، كتبت أمس قصيدة جميلة جدّا عن أمنيات داعرة، وكتبت قصيدة أخرى عن أوراق النعناع، عندما شاهدت البحر أوّل مرّة لم أصدّق أنّ تحت المياه سلاحف !. لم أصدّق أنّ للطحالب الخضراء أجنحة تطير بها هناك". محاولا ابتلاع ما استطاع من مرارتها " حتى الصّنوبر لم يعد له طعم. في المقهى وأنا ألتقيهم سنبلة سنبلة، هاهي ألف سنة من الضّوء الذي يعمي الأبصار. هاهو النهر يتذكّر القصائد الميّتة فجأة و آلام مخدّات الليل. سوف أشرب دم الكرز باردا بعد دقائق.

للشاعر التونسي: عبد الفتاح بن حمّودة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى