الخميس ٢٠ حزيران (يونيو) ٢٠١٣
بقلم نور الدين محمود سعيد

صورة ليبيا في السينما الفاشية الجديدة

مقدمة:

إنشغلت السينما العالمية الكلاسيكية والمعاصرة، خلال فترة من فترات تطورها، بالفيلم التاريخي, سواءً من خلال الاسطورة، أو من خلال بعضاً من الموضوعات التاريخية الحديثة، لكي تترجمها عبر الصور المتحركة حيث أصبح التاريخ من خلالها يكتب بلغة الصورة بدلاً من الوثيقة التاريخية المكتوبة باليد أو المطبوعة بالآلة على الورق.

والواقع انني سوف لن اتجه في هذا البحث إلى هوليوود الأمريكية، بل سأذهب مباشرةً الى مؤسسة أخرى إيطالية هامة جداً وسباقة إلى الإهتمام بالفيلم التاريخي، (سنيسيتا) أو يمكن تعريبها عن الايطالية بـ (مدينة السينما)، التي كان موسيليني قد افتتحها شخصيا في العام 1922م بعد اعتلائه عرش السلطة في ايطاليا من خلال فوز حزبه الفاشي، الذي أراد من خلاله إحياء حقبة تاريخية لروما الحديثة منسوخة من أمجاد روما القديمة، ومدعومة بفكر سياسوا عصر النهضة الاوروبية الفلورنسية الميلاد والنشئة من خلال افكار الفيلسوف والمفكر الفلورنسي الايطالي ماكيافيلي، والذي كان كتابه الامير على سبيل المثال لا الحصر، مشروع لرسالة أكاديمية كان موسيليني قد تقدم بها إلى الجامعة، حيث كانت السينما بالنسبة لهذا الأخير مدخلاً هاما لنشر أفكاره، ووسيطا كان قد لعب دوره في الدعاية للأيدولوجيا الفاشية التي ينادي بها ويدعوا لها. وحينما تم افتتاح مدينة السينما على يدي موسيليني نفسه كان قد كتب على بوابتها الضخمة المعمار كتابة لاتقل ضخامة عن هذه البوابة، في جملة كان موسيليني قد ابتدعها: <<السينما هي سلاح الأقوى>>.

وكانت مدينة السينما هذه قد انتجت خلال الفترة الممتدة من 1922ـ1942، أفلاما عديدة اكتسحت وفي فترة وجيزة صالات العرض المحلية والعالمية، وسوف لن انشغل بتعدادها كلها، لكن ما يهمني منها هو الافلام التي عُملت في ليبيا، تلك المستعمرة الايطالية منذ العام 1911ـ 1951 فهي بالإضافة إلى اهتمامها بأفلام الحرب والاستعمار في القرن العشرين، شهدت هذه السينما العالمية فترة من الزمان انشغلت خلالها بالفيلم التاريخي من خلال الاسطورة والحدث والشخصية الخالدة.

و الواقع أنها كانت بهذا الميول الى الفيلم التاريخي، تحيي في زماننا الحاضر قصص التاريخ القديم بكل احداثه ومآسيه، بكل ما فيه من بطولات خارقة وفروسية نادرة، وبكل ما فيه من مؤامرات وثورات عشنا فيها اصل المكر والدهاء وعراقة الداء والدواء في حياتنا السياسية المعاصرة، ليوسع من افق المشاهد ومداركه وينطلق به نحو عالم اوسع وارحب، اصابه الخراب والدمار من الحرب العالمية الثانية.

ولعل هذا أو ذاك يجعل الانسان المعاصر من القمة إلى القاعدة، متهيبا النتائج، مستعدا لكل الواقائع، متمثلا البطولات، وربما لنخفف عنه ما رآه من ويلات القنابل الذرية والهيدروجينية التي جعلت الانسان المعاصر يشمئز من الجناة القتلة.

و مثلما كانت هوليوود الأمريكية، سباقة الى اسستخدام التاريخ القديم بكل ما فيه من حروب و مؤامرات، كانت مدينة السينما الإيطالية كذلك، على الرغم من إهتمامها بالدعاية للفاشية، و دراستها للسيناريوهات التي تعيد التاريخ الحديث بشفرات قديمة لإحياء أمجاد روما القديمة، فكان أن تم الإشتغال على شخصيات بطولية تاريخية، مثل حنابعل، و نيرون، و هرقل المصارع الجبار، وتم إعادة الإمبراطورية الرومانية في أفلام عديدة، وبرزت شخصيات أخرى منها، يوليوس قيصر، و كيليو باترا ملكة مصر، و غيرهم من الشخصيات التاريخية، مبرزة الخصائص الدرامية للمكر و الدهاء، متحدثة عن حصان طروادة في ملاحم هامة، كا لإلياذة، وكذا الأبطال الذين لا يقهرون كالأوذيسا و جلجامش، مصورةً في غاية من البراعة، الأحداث الأسطورية، و معيدة بطولات التاريخ المكتوب في أشرطة سينمائية تتحرك.

و تجدر الإشارة هنا الى أنني أود من خلال هذه الورقة البحثية، أن أتحدث عن فيلم إيطالي معاصر جداً، أنتج في العام 2006 م، يدّعي أنه منساقاً الى مدرسة إيطالية ظهرت على إثر الحرب العالمية الثانية، سنة 1945، <<مدرسة الواقعية الجديدة>>، و هو فيلم إستعماري تمت عمليات معالجته من خلال إبراز تيمة الإستعمار بدقة منقطعة النظير، و من خلاله سيتم التعرف على أساليب النقد السينمائي الإيطالي الحديث، من خلال بعض أساتذة الجامعات الإيطالية، الذين سأستشهد بأقوالهم في تحليل مقارن لبعض الأراء التي رأيت بأنها كانت على حياد أو لنقل أنها كانت آراء موضوعية.

فيلم زهرات الصحراء للمخرج ماريو مونيشيللي:

تحت عنوان "إيطاليا السينما العظيمة، تُحرك عنصريتنا من جديد"، كتبت الناقدة، آنّا ماريا ريفيرا، مقالاً عن السينما الإيطالية المعاصرة، في صحيفة المانيفيستو الإيطالية، في عددها الصادر في 14 ـ 11ـ 2006م، إفتتحته بسؤال: "لماذا لا تمتلك السينما الإيطالية المعاصرة، والتي تم إنتاجها في الأعوام الأخيرة، الآليات المعرفية القادرة على أن تفسر الآخر؟". وكانت في واقع الأمر قد طرحت هذا السؤال بالذات، على آخر الأفلام التي تم إنتاجها في السنتين الأخيرتين، فيلم "زهرات الصحراء"، للمخرج ماريو مونيشيلي، الذي تم إنتاجه في نفس العام 2006، وهو فيلم مقتبس من مجموعة روايات إيطالية، عاصر مؤلفوها حقبة الإحتلال الإيطالي لليبيا، والحرب العالمية الثانية التي دارت رحاها في الصحراءالليبية ولعل أهمها روايتي "الصحراء الليبية" للكاتب الايطالي "ماريو توبينو"، والتي كان قد إستلهمها المخرج "ماريو مونيشيلي" بشكل حلزوني زخرفي مع التحوير في الشكل وفي المضمون كذلك، ومسخ الشخصيات وإحالتها إلى أجواء هزلية، ولا أريد أن أقول كوميدية، فالكوميديا، شئ آخر طالما تم تداوله وترجمته إلى اللغة العربية بشكل خاطئ، إضافة إلى رواية الجندي سانا، لـ جان كارلو فوسكو".

وكان كُتّاب السيناريو الطليان، في الفترة الأخيرة، وإن كانوا، يحاولون إستشارة المصادر التاريخية في هذا الفيلم تحديداً والذي جسدوا فيه المشاهد السينمائية بنفس الفخامة التي تجسد بها الأعمال التسجيلية التاريخية محاولة منهم إهدائها إلى حقبة الأستعمار الايطالي في ليبيا، بنفس الشكل الذي كانوا قد استطاعوا فيه أن يُلمحوا إلى إستعمار من نوع آخر، أو بالأحرى يلمعوا، أعماق الأحداث للحقبة الإستعمارية متجاهلين عن عمد، ما حصل من جرائم فضيعه كالنفي، والتشريد، ومعسكرات التعذيب، واستخدام الغازات السامة المميتة والتي كانت محظورة عالمياً، اضافة إلى المجازر وحرب الإبادة والقتل الجماعي، وهو بالضبط ما تنوه له "ماريا ريفيرا" في مقالها، وتؤكد عليه وتضع إضافة إلى ذلك مقارنة مع الفيلم التاريخي الضخم، "عمرالمختار"(أسد الصحراء) للمخرج "مصطفى العقاد" 1979. حين تتسأل:

"كم هو من المجحف، بعد فترة امتدت إلى أكثر من ثلاثين عاماً من البحث التاريخي للحرب الاستعمارية الإيطالية، أن الأفلام العنصرية، والتي تتجاسر على كسر الصمت لهذا المحرّم أو المحظور العالمي، لم تزل تتطاول في تجاربها، على أن تضمن للآخرين حدوثه أو قصة أشبه ما تكون بالخرافية، لإيطاليا إستعمارية، ودودة، وحالمة، طيبة ووديعة. وفضلاً عن ذلك ففي الوقت الذي لايزال فيه فيلم أسد الصحراء"عمر المختار "ضمن القائمة السوداء للأفلام المحرمة في ايطاليا، وهو الفيلم الذي تم إنتاجه وتصويره في ليبيا، التي يرجع لها الفضل في ذلك". إنه ببساطة، فيلم يتناول حياة البطل العالمي ورمز الجهاد في ليبيا، عمر المختار، الذي شنق بعد محاكمة عسكرية لم يكن لها أي مبرر سوى أن تكون شاهدة على المهزلة التاريخية، لتلك الحقبة، حينما يشنق شيخ أسير حرب في مثل ذلك العمر، وهو عمل فني على الرغم من الطاقم التمثيلي الاستتنائي: أنتوني كوين، أوليفر ريد، رود ستايغر، إيرين باباس، كاستوني موسكين، والممثل الايطالي "راف فالوني" الذي جسد شخصية "الفضيل ابو عمر"، الرفيق الأكثر قرباً من البطل الشيخ عمر المختار، وكذلك الممثل جون جيلغود ــ وعلى الرغم من ذالك، لم يزل هذا الفيلم، و إلى يومنا هذا داخلاً في نطاق المنع والتحريم في صالات العرض في ايطاليا، نظراً لاعتقاد المسئولين، على أنه مهين وجارح للقوة العسكرية الايطالية.

ومع إصرار الناقدة ريفيرا، أحياناً، على إستبدال كلمة إحتلال بكلمة هجرة، حينما تضع مقاربة بين تيمة الهجرة للمخرج جيردانا، في فيلمه "عندما تكون حياً لا تستطيع أن تحجب نفسك"، وتيمة الإستعمار أو الأفضل أن نقول الاحتلال، في فيلم (زهرات الصحراء) لــ "ماريو مونيشيلي" والذي رأت فيه أنه جاء على هيئة شفرة شعبية تقفز إلى الأعين أو على الأقل إلى أعين ذلك الذي لديه أُلفة مع تفسيرات الاخرية “alterità”، لذلك الآخر المختلف، أو يمكن القول أنها شفرة يجنح المخرج عن طريقها، إلى إبراز الخارجائية “l’esteriorità” للنظرة الثائرة المتمردة على الآخرين والتي هي في الواقع لا تعكس بالقدر الذي تزيف فيه الآخر في أغلب الاحيان، ضمن كليشيه أو حفرية معقدة أن تظهر في حدود قطعية، من الصعوبة رسمها أو تجسيدها، كتعقيدات امتلئ بها الفيلم محاولاً ابرازها بشكل انساني ناعم، ليس بالضبط لمحتل مغتصب وقاتل، بل لمهاجر ناقل للحضارة والعلوم والثقافة والديموقراطية، مستعيناً بأفلام من نوع<<بومارو>> لـ بالشيدو، و<< أمريكا>> لــ إيميليو، والذان يبدوان على أنهما ينتميان إلى زمن بعيد قد يكون أفضل، أو حين يستعين المخرج مونيشيلي كذلك بالكليشيهات الاستشراقية لــ"ادوارد سعيد"، حينما يوظف الايقونات الشرقية من خلال عائشة، الشخصية الأنثوية الوحيدة في الفيلم لكي يبرزها كمنحوتة نافرة، جميلة خاضعة ومعزولة في سجن الحجاب والقبيلة، متخفية، جذابة ومغرية، محرومه ومشتهاة، لا تستطيع سوى أن تنتهي وتفنى داخل قضبان المهزلة والتعهر.

والواقع أن ما فات على الناقدة "آنا ماريا ريفيرا" أن تطرحه في رأيئنا، هو أن فيلم ( زهرات الصحراء) لم يأت سوى ردٌ على فيلم (عمر المختار) نفسه، فبدلاً من ابراز الحقائق التاريخية لحقبة سوداء في التاريخ الانساني لأسواء وأعنف احتلال شهده التاريخ نفسه، والذي اكتمل نصابه بالذبح والتشريد مع ظهور الايديولوجيا الفاشية على سدة الحكم في ايطاليا، وهو ما تعاني منه ايطاليا نفسها إلى يومنا هذا، وبدلاً من عائشة المهانة والمغتصبة والمشنوقة في فيلم عمر المختار، نرى عائشة أُخرى وإن لم تكن نفس الشخصية التاريخية التي ظهرت في فيلم عمر المختار، نجدها هنا ابنه لرئيس قبيلة من عائلة نبيلة، يقوم بجلب أحد الأطباء لمعالجتها من مرض ألمّ بها، مستعيناً بطبيب عسكري شاب، من الجنود الطليان المرافقين للحملة العسكرية إبان الحرب العالمية الثانية، بأن يأتي هذا الطبيب الشاب ليشخص مرضها في بيتها، حيث يُظهر المخرج وبشكل زائف مدى رحمة الجنود الطليان في تلك الحقبة، متمثلة في صورة هذا الجندي الذي تقع عائشة في حبه.

وهكذا تظهر أشياء أخرى في الفيلم، فبدلاً من أ ن يتم تشخيص الحالة المرضية ، يتحول المشهد إلى عناق وغرام، بحظور الأب الذي كان ملتفتا الى الحائط، وهو مشهد كاذب على التاريخ جملة وتفصيلاً، وكاذب ايضاً بحق الرواية التي أُقتبس منها، وإن يكن الروائي ماريو توبينو قد تعرض الى اشكالية الجنس لكنه لم يضهره بشكله الفاضح الذي اضهره به المخرج مونيشيلي، وإن يكن في السينما أحقية لوي ذراع القصة لكي تخدم هدفاً درامياً معيناً، وهو ما يسمى في العلوم السينمائية بالمعاجة، لكنها لم تطرح بشكلها الصادق، لأن توبينو، صاحب الرواية، وفي هذا المشهد بالذات، كان قد حكى بداية عن طفل مريض "بالتراكوما" التي كانت تؤدي الى العمى في تلك الفترة، فيستعين والده، الذي كان بإمكانه أن يتحمل كل شئ، عدا أن يرى أبنه يتعذب أمامه، بأحد الأطباء.

ومن مشهد تراجيدي في رواية توبينو، يتحول الى رمانسية زائفة، عند مونيشيلي، مخرج هذا العمل، وهكذا ثمة أشياء أخرى يعجز اللسان عن شرحها.

ويتضح هنا مدى صفاقة هذا المخرج الذي بلغ من العمر أرذله حينما نفذ الفيلم عن عمر يناهز التسعين عاماً ونيّف، وكان هو الآخر ضمن الجنود الطليان الذين اشتركوا في الحرب العالمية الثانية، وبدل أن يشهد على الحقبة بأمانة، نراه هنا مزيفا للحقائق، وموضحاً عن جدارة أنه لم يكن ليمتلك لاشرف المحارب ولا شرف الفنان.

والوقع ان صورة العربي لم تظهر بشكلها الحقيقي لا في فيلم مونيشيلي و لا في رواية توبينو بل كان كلاهما يبرز العربي كمتخلف وتابع وعبد كذلك، حتى وإن خصص هذا الروائ "توبينو" الفصل الأخير من روايته للجنود الليبيين، حيث يستشهد فيه بعظمة هؤلاء الجنود الذين أسروا وأُقتيدوا غصباً للاشتراك مع الإيطاليين في هذه الحرب الكونية، مبرزاً مدى معاناتهم من حرب دارت رحاها في بلدهم ولم يكونوا مذنبين فيها ولا مشتركين، حيث يقول في روايته:

"وكان ثمة في ليبيا رجال عظماء، أبطال، طاهرون وشرفاء، لا يتركون الصديق.. ذالك الذي يموت من أجل لاشئ، وهو على معرفة بذلك، علامة صافية، دونما الحاجة ألى إمتثالها، من سيكون إذاً، سوي رجل إنسان، ممتلئ بالمروءة، ومنعكس ظله على مرآة القدر الذي ينظر اليه، دونما الحاجة إلى شعلة في الظلام، كان أولئك الليبيون أبطالاً. وكان واضحاً أيضاً مالذي يستطيع أن يعطيه إنسان أضاعوه، وسرقو وطنه، إنسان محتقر، ومهان، مهزوم ومنكسر النفس، وممتلئ بالأحزان، لعشرين عاماً من العبودية، والوحشية والطغيان، وفوق كل ذلك، مازال ممتلئاً باللطف والرجولة والأخلاق. جندي نبيل بلا راية يدافع من أجلها، فما الذي يستحق الحديث عنه، عدا الحزن، لجندي يحارب بلا علم، «توبينو1941».

لا أعتقد أن هذا الكلام يحتاج إلى تفسير. و"ماريو توبينو" يعد من الروائيين البارزين، إضافة إلى عمله كطبيب نفساني اشترك هو الآخر في الحرب العالمية الثانية التي دارت رحاها في ليبيا، ووُثق من خلال روايته العديد من الاحداث الهامة في تاريخ الحرب ولقد اختلف طرحه للحالة التي زيفها المخرج الايطالي مونيشيلي ، هذا العجوز المتصابي المسكون بالماضي البغيظ والمزيف لحركة التاريخ. والواقع أن الفيلم لاقى العديد من الانتقادات ليس من "ريفيرا" فقط بل من العديد من الاقلام السينمائية الايطالية التي واجهت الفيلم بكل شجاعة، فالمخرج الذي قدّم هذا العمل الهزلي، لأنه مختص بالافلام الهزلية، نجده يقترب مؤخراً من التيمات أو المواضيع الحساسة، فالفنان، إن وصل إلى مرتبة الفنان من خلال درجات الأحاسيس، يبقى حراً في طرحه، لكن عليه أن لا يكون جاهلاً، بمعرفة الآخر، أحاسيسه، وتقاليده، ودينه كذالك،

إن المتختصص في المجال يعرف دور السينما في التلاعب بالتاريخ، حينما تُقمع الأطروحات الأيديولوجية داخلها، فالليبيون في هذا الفيلم يظهرون كما لو أنهم مجموعة من الرعاع الخانعين، مرضى وجائعئن، يطلبون المساعدة، و يجدون في تسامح الطليان معهم كل التقدير و الإعجاب نظرا لانسانيتهم، بالقدر الذي أظهر فيه الالمان مثلاً، كمتعجرفين قُساة، جاهزين لتنفيذ أكثر الأوامر اجراماً.

تقول "ريفيرا" :(الكل يعرف أن الشباب الإيطاليين من الجنود كانوا قد أُقتيدوا غصباً إلى حرب خاسرة، ظهروا في الفيلم وكأنهم ذاهبين إليها طواعية).

والمخرج لا يتوقف عند هذا الحد بل يتجاوزه إلى تزييف أكثر الامور حساسية وهو ما تشير له الناقدة ريفيرا أيضاً: "حين يسمع في الفيلم ذلك الصدى اللاتطابقي المتظمن للتيار الاسلامي الذي يطرحه المخرج هنا بشكل معادي للمرأة ومعادي للديمقراطية، حين يُظهر في مشاهد فيلمه، الجيش الفاشي الذي يعلن قائده صراحةً لليبين: "اننا جئنا حاملين لكم راية الديمقراطية ".

ولعل هذا الفيلم المهزلة قد أضحك الكثيرين من العامة الطليان، غير أن الاقلام الواعدة من المثقفين الإيطاليين تنفي ذلك، وتتصدى له، وتعلن ذلك صراحة، لأنها تعرف أن السينما حينما تتناول التاريخ لابد لها أن تتجاهل كل الشطحات الفنية وكل الخداع والكذب الذي تستطيع أن تمارسـه، بل عليها أن تتحول إلى آلة تحاكي المنطق، والصدق والحقيقة المنسية، فالليبيون لم يكونوا أبداً همجيين محتاجين إلى من ينقل لهم حضارة، فهم من نقل الحضارة إلى الطليان، من خلال سماحتهم وأخلاقهم التي ربّاهم عليها دينهم الحنيف، فما هي الديمقراطية، هذا المصطلح، وإن كان وافدأ، إن لم يكن سوى التعامل بأخلاق ومثل رفيعة، كتلك التي واجه بها الليبيون أعتى القوى الدكتاتورية، وهو ما شهد به "توبينو" نفسه في روايته" الصحراء الليبية" التي أشرنا إليها آنفاً.

ان الإنتاج السينمائي الإيطالي، والذي أبهر العالم، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي عانت منها إيطاليا نفسها أكثر من غيرها من الدول التي أشتركت فيها معها، بأفلام كان مخرجيها قد أرسوا قواعد ثابتة لمدارس فنية أعادت للسينما هيبتها كوسيلة قاهرة لكل ما هو معادي للإنسانية، من أيديولوجات كاذبة ومهترئة لم تكن أكثر من وصمة عار، على جبين التاريخ الإنساني، مدرسة سينمائية عريقة، كالواقعية الجديدة، التي تصدت للفاشية نفسها، وهزمتها، ووقفت إلى جانب الكادحين من العمال، وعالجت مشكلات الحرب، وما خلفته من ويلات وأمراض، وبطالة وفقر، هذه المدرسة التي كان من أهم مؤسسيها، مخرجين كبار، من أمثال روسيليني، وديسيكا، وبازوليني، وليليانا كافاني، وفيدريكو فيلليني، وغيرهم من الفنانين المعلمين المهمومين بقضايا الإنسان.

بقي أن اشير إلى أن ايطاليا التي أصبحت صديقتنا اليوم، يمكننا الإستفادة من خبراتها الفنية في المجال السينمائي، خصوصاً اذا ما تم الإشتغال على بنود معاهدات التعاون والصداقة التي قامت بها وزارات الخارجية لكلا البلدين، محاولة منها الى طوي صفحة الماضي والتفكير الجاد في اقامة علاقات بين الدولتين الجارتين، وهو أمر في غاية الأهمية، خصوصاً في الظروف التي يمر بها عالمنا الذي نعيشه الآن، حيث سعت ايطاليا دائماً وعبر تاريخ ما بعد الإستعمار، منذ خمسينيات القرن الماضي الى معالجة جرائمها التاريخية التي ارتكبتها في حق الليبيين، فلجأت الى الإعتذار والإلتزام بإحترام الآخر، احترام دينه، وتقاليده وثقافته، و إحترام اختلافه.

مصادر ومراجع:

 Annamaria Rivera, “Il manifesto”, 14- dicembre, 2006, p 22.
 Rivera, Ibid.
 Andrea Semplici, Libia, Clup Guide, ed, Aggiornata, 2000, p: 38.
 Rivera, Ibid.
 Mario Tobino, Il deserto della Libia, Oscar Mondadori, Milno 2001, p. 207
 Rivera, Ibid.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى