الاثنين ٨ تموز (يوليو) ٢٠١٣
عيوبُ منوالِ الجملة في
بقلم فوزيّة الشّطّي

التّراث النّحويّ العربيّ

عند عليّ أبي الْمَكارم

المدخلُ النّظريّ: حدُّ المصطلحات:

 العيوب: هي مظاهرُ الفساد والخلل الكامنة فرضا في المنوال النّحويّ. وهي المطاعنُ التي تُلغي صفاتِ الصّلاح والاتّساق والمتانة عنه. والعبارةُ موظّفة هنا بمعناها اللّغويّ (لا الأخلاقيّ).

 المنوال النّحويّ: هو «جملةٌ من القواعد الصّرفيّة والإعرابيّة». و«يَقصدُ إلى ضبطِ الوحدات الدّالّة في لسان مّا وقواعدِ توليدها وقوانينِ اشتغالها». ويمثّل المنوالُ أحدَ شقّيْ النّظريّة اللّغويّة. أمّا الشّقّ الثّاني فتُجسّده الفرضيّاتُ العامّة الّتي منها يستمدّ المنوالُ شرعيّتَه. والاطّرادُ هو من أهمّ شروط هذا المنوال. لكنْ لا تُوجد مطابقةٌ تامّة وشاملة بين المنوال النّحويّ الّذي يبنيه الباحثُ وبين الواقع اللّغويّ الّذي يصِفه. المنوالُ إذنْ مصطلح لسانيّ ذو طابع إجرائيّ عمليّ.

 المنهجُ الوصفيّ: انتقلت حركةُ التّطوّر اللّسانيّ من التّاريخيّة إلى البنيويّة الوصفيّة. ويُعدّ الاتّجاهُ الوصفيّ أحدَ المذاهب الأربعة للمدرسيّة البنيويّة إلى جانب المذاهب الوظيفيّة والسّلوكيّة والتّوزيعيّة، وإن كانت الفوارقُ بينها نسبيّة. أهمُّ خصائصه أنّه يأخذ في اعتباره الشّكلَ والوظيفة، ويضع مناهجَ متكاملة لعلاج اللّغة علاجا منظّما تجريبيّا تحليليّا مستقلاّ، ويعتبر اللّغةَ مجموعةَ نُظم وضعيّة اجتماعيّة ذات أقسام من الأنماط والعلامات، يتناول اللّغةَ الإنسانيّة في جانبها الآنيّ بالدّراسة: يدرسها في ذاتها ولذاتها "شكلا" و"وظيفة". يُعتبَر كتابُ تمام حسّان «مناهجُ البحث في اللّغة» الصّادر عام 1955 أوّلَ دراسة تطبيقيّة عربيّة تعتمد المنهجَ الوصفيّ.

عُيوبُ منوال الجملة من حيث عددُ مكوّناتها الرّئيسة:

تقديرُ أحد أطراف النّواة الإسناديّة:

 اِستنادا إلى المنهج الوصفيّ يرفض أبو المكارم القولَ بالنّواة الإسناديّة كأساس لتكوّن الجملة: إذا وُجد المسنَدُ (فعلا أو خبرا) فقط لا نُقدّر له مسنَدا إليه (فاعلا أو نائب فاعل أو مبتدأ أو اسم ناسخ). يعني ذلك أن نلتزمَ بوصف الموجود بالفعل في الواقع اللّغويّ. ويرى أنّ افتراضَ وجود أحد طرفيْ النّواة الإسناديّة، إن غابَ لفظا، عائدٌ إلى فكرة مسبّقة عند النّحاة: «مضمونُ فكرة النّحاة في نظام الجملة يرتكز أساسا على وجود الإسناد الّذي لا يكون إلاّ بين إثنيْن: مسند ومسند إليه (...). وقد أثّرت هذه الفكرةُ في جزئيّات كثيرة من هذا النّوع من الحذف حين وجد النّحاةُ تراكيبَ عديدة تُفيد فائدة يحسُن السّكوتُ عليها، وهي غايةُ الجملة عندهم، ولكن لا يتوفّر فيها شرطُ الإسناد من لزوم وجود طرفيْن. فلجؤوا إلى تقدير المسند أو المسند إليه في هذا النّوع من التّراكيب».

لا يرى أبو المكارم تطابقا بين فكرة الإسناد وبين واقع اللّغة العربيّة. ويَعتبر القولَ بضرورة الإسناد سابقا في النّشأة لوجود النّصّ.

 لهذا الفهم خلفيّةٌ تتمثّل في تسليم الباحث، كما كان فعل قبله إبراهيم أنيس وقبله إبراهيم مصطفى، بأنّ النّحوَ العربيّ قد تأثّر تأثّرا عميقا بالمبادئِ المنطقيّة الفلسفيّة المستلهَمةِ من الإرث الإغريقيّ خاصّة منه الأرسطيّ. ومن نتائج ذلك: «أنِ اعتبر بعضُ الباحثين المسندَ والمسندَ إليه انعكاسا للموضوع والمحمول الّذي عُرف عند الفلاسفة (...). واعتُبِر تسليمُ العرب بضرورة اقتضاء أحدهما للآخر نتيجةَ التّأثّر بقولٍ فلسفيّ هو "استحالة وجود حدثٍ دون أن يكون مُحدِثٌ". وضمن هذا الباب نزل قولُ العرب "لابدّ لكلّ فعل من فاعل"».

بناء على هذه الخلفيّة يعتبرُ أبو المكارم مقولةَ التّقدير أحدَ أساليب التّأويل النّحويّ. وهو أسلوب: «يتوهّم أبعادا في النّصّ لا وجودَ لها ويُسبِغ عليها من الخيال صورةً تلبّي كلّ ما تحتاج إليه القواعدُ وتفِي بكلّ ما تفرضه الأحكامُ. وبهذا الأسلوب تجاوز التّأويلُ كلّ مدًى موضوعيّ وانفلت من كلّ مقياس علميّ. وانطلق النّحاةُ من خلاله يصحّحون كلّ ما يُؤخذ عليهم من قواعدٍ ونصوصٍ معا».

الـرّدّ:

 يعود رفضُ أبي المكارم التّقديرَ في هذا السّياق وفي غيره إلى تصوّره الوصفيّةَ على أنّها مطابقةٌ كلّيّة بين النّظريّة المجرّدة وبين ما يُلاحظ من معطيات لغويّة. وتبعا لذلك يكون قد أنكر التّجريدَ في النّظريّة اللّغويّة، مع أنّ التّجريدَ من أهمّ خصائص النّظريّة العلميّة.
 تقديرُ أحدِ طرفيْ النّواة الإسناديّة يُسهّل عمليّا التّمييزَ بين نوعيْ الجمل (الفعليّة والاسميّة) وبين تراتبيّة مكوّناتها. يقول ابنُ هشام في هذا الشّأن: «مرادُنا بصدر الجملة المسندُ أو المسندُ إليه. فلا عبرةَ بما تقدّم عليهما من الحروف (...). والمعتبَرُ أيضا ما هو صدرٌ في الأصل. فالجملةُ من نحو "كيف جاء زيدٌ" (...) فعليّةٌ لأنّ هذه الأسماءَ في نيّة التّأخير».

عُيوبُ منوال الجملة من حيث ترتيبُ مكوّناتها:

التّقديم والتّأخير والفصل والاعتراضُ:

 يرى أبو المكارم أنّ قولَ النّحاة بوجود منوال تركيبِيّ يُرتّب مكوّنات الجملة العربيّة ترتيبا دقيقا وبأنّ كلّ ارتباك في التّرتيب عائدٌ إلى علل معيّنة، هو قولٌ يناقض واقعَ اللّغة كما يناقض علميّةَ البحث. يقول: «التّقديمُ والتّأخيرُ أهمُّ الدّعاوي الّتي يلجأ إليها النّحاةُ لتأويل النّصوص المخالِفة لقواعد التّرتيب. وهذه الدّعاوي ترتكز على تصوّر خاصّ للنّصوص لا يتناول فيها خصائصَها الموجودة بالفعل وما تكشف عنه هذه الخصائصُ من نُظم محدّدة في العلاقة بين الصّيغ من حيث الرّتبةُ والتّرتيبُ والتّوالي جميعا وما تكشف عنه من اختلافٍ بينها وبين القواعد المنظّمة لها في النّحو. وإنّما يبدأ من العكس، أيْ من القواعدِ وما تفرضه من النّظام بين أجزاء التّركيب». ثمّ يقول في موضعٍ تالٍ: «وتهدف هذه الدّعوى إلى تمكين القواعد النّحويّة المقنِّنة للتّرتيب من تخريج ما يختلف معها تخريجا ينفي عنها التّناقضَ ويُبعد عن نصوصها الاضطرابَ». وقد عوّل في أمثلة التّقديم والتّأخير على الشّواذّ من الحالات من قبيل:

«كانَ / زيدٌ / يقومُ» ← «كانَ / يقومُ / زيدٌ» = [ناسخ / اسم ناسخ / خبر ناسخ].
وأغفل الحالاتِ المتواترة، وهي: تَقدّمُ الخبر على المبتدإ وتقدّمُ المفعول على الفاعل وتقدّمُ المفعول على الفعل.

ويقول في الفصل مُعرّفا إيّاه بأنّه: «وجودُ فاصل من نوع خاصّ بين جزئيْ الجملة أو أحدِ أجزائها المتلازمة المتوالية. وهذا الفصلُ الخاصّ يُشترَط فيه أنْ لا يكونَ ذا اتّصال بأحدِ جزئيْ الجملة عملا وإنْ كان على اتّصال به أو بالجملة بأسرها معنًى». ثمّ أتى بستّة (6) شواهد شعريّة كلّها يمكنُ تبريرُ الفصل فيها بمقولة الضّرورة الشّعريّة السّائدة في التّراث اللّغويّ. لكنّه استنتج من ذلك أنّ القدماءَ فرّقوا بين الكلام على أساس الجنس الأدبيّ. فأجازوا في الشّعر ما منعُوا في النّثر. ويحترز هذا الاعتبارُ من مدى احترام منظومة القواعد لمعطيات اللّغة كيفما كانت النّصوصُ الّتي تجلّتْ فيها.

 أمّا الاعتراضُ، وهو: «أنْ يكونَ الفاصلُ بين الأجزاء المترابطة الّتي يجبُ تعاقبُها (...) جملةً كاملة (...) لا محلّ لها من الإعراب»، فقد تعدّد التّمثيلُ له وتنوّع بين (15) شاهدا من الشّعر و(3) من القرآن وحديث نبويّ واحد وجملة خبريّة واحدة. وغايةُ هذا التّكثيف التّأكيدُ على مخالفةِ قواعد ترتيب مكوّنات الجملة العربيّة للمدوّنة اللّغويّة في أغلب تجلّياتها النّصّيّة.
الـرّدّ:

يُعدّ هذا الضّربُ من البحث اللّغويّ مبالغةً في التّجريبيّة وتنكّرا تامّا لمبدإ التّجريد في النّظريّة العلميّة كما كنّا أسلفنا.

عاب على النّحاة اعتمادَهم المطّردَ من الأمثلة دون الشّاذّ مُهمِلين تحديدَ المقاييس الكمّيّة لذلك. لكنّنا نجده يبني مطاعنَه في المنوال النّحويّ للجملة العربيّة على أمثلة أقربَ ما يكون إلى الشّذوذ أحيانا أو إلى التّميّز بخصائص إيقاعيّة منتظمة يُسمَح لها بمقتضاها أن تُليِّن القواعدَ النّظريّة مؤقّتا دون أن تنالَ من متانتها ومن صلاحيّتها ومن تناسقها الدّاخليّ [نعني مجالَ الشّعر العموديّ].

يفترض احترازُه هذا أنْ تتنوّعَ القواعدُ تنوّعَ الأمثلة في المدوّنة اللّغويّة. وهذا مستحيلٌ إجرائيّا، ثمّ إنّه يُنافي طبيعةَ المناويل والنّماذج. فمن شروطها القدرةُ على توليد جمل تُماثل ما وُجد وعلى إعطاء تفسير لتراكيبها المتنوّعة، لا مطابقةُ كلّ ما وُجد تمامَ المطابقة.

عُيوبُ منوال الجملة من حيث العلاقاتُ النّحويّة بين مكوّناتها:

نظريّةُ العامل، مقولةُ الإعراب، تقديرُ حركة الإعراب:

العربيّةُ لغةٌ إعرابيّة، أي تتغيّر حركاتُ أواخر الكلِم بحسْب المحلّ الإعرابيّ الّذي تنزّلتْ فيه رفعا كان أو نصْبا أو جرّا وبحسْب الوظيفة النّحويّة الّتي تُؤدّيها في الجملة. والوظائف تنقسمُ صنفيْن: العُمدة / النّواة الإسناديّة + الفضلة / المتمّمات. والعاملُ سببٌ نتيجتُه الإعرابُ الّذي أمارتُه العلامةُ الإعرابيّة من ضمٍّ وفتْح وكسْر وجزْم. والعلامةُ هذه إمّا أنْ تظهرَ في حرف أو حركة، وإمّا أن تُقدّرَ إنْ تعذّر ظهورُها.

ينفِي أبو المكارم نظريّةَ العامِل رافضا كونَها خاصّيّة ملازمةً للّغة العربيّة متّهما النّحاةَ بافتعالها. فيقول بعد استعراض مواطن تقدير حركة الإعراب: «تحليلُ تقدير الحركة (...) يكشف عن أنّ الأسبابَ الرّئيسيّة لهذا التّقدير تلتقي حول محور واحد، هو القواعدُ الكلّيّة الّتي لا تستندُ إلى أسس موضوعيّة. فقد اضطُرّ النّحاةُ في سبيل تحقيق غايتهم من تعميم الأحكام لتتّسمَ بالاطّراد إلى إغفال كثير من الحقائق الموضوعيّة والتّمسّك بأوهام التّأويل، بل واعتباره الأصلَ الّذي يجب أن يُراعَى في التّقعيد والتّعليل جميعا. ومن أوضحِ القواعد الكلّيّة الّتي أسلمتْ إلى تقدير الحركة الإعرابيةّ (...) حتميّةُ وجود الحركة الإعرابيّة في الكلمات المعرّبة فعلا أو أصلا، بحيث إذا لم تكنْ الحركةُ ظاهرةً وجبَ تقديرُها».

لهذا الموقف خلفيّةٌ تُستعاد، هي القولُ بنسْخِ النّحو العربيّ للمنطق اليونانيّ الوافد دون مراعاة خصوصيّة موضوعه. في هذا الشّأن يقول أبو المكارم: «تحليلُ الأحكام في هذه المرحلة من مراحل البحث النّحويّ (تبدأ عنده بابن السّرّاج) يكشف عن تأثّر النّحاة في أحكامهم التّقعيديّة والتّعليميّة معا بخصائص الحكم الفلسفيّ، وبصفة خاصّة بما يُميّز هذا الحكمَ من طرْدِ الأحكام الممتدّة من بعض الظّواهر إلى ظواهرَ أخرى، اِكتفاءً بنوع من الاتّساقِ النّظريّ بينها لا يَعتمدُ على ركائز يقينيّة. وإنّما تشدّه التّصوّراتُ الذّهنيّةُ وحدَها، بصرف النّظر عن الوجودِ الواقعيّ لها».

ويُعدّد مظاهرَ الحرص على طرْدِ الأحكام رغم تنافُر الأحداث اللّغويّة:
* الزّعمُ بأنّ الإعرابَ في الأسماء أصيلٌ: يحاول تفنيدَه بأنّ قسما كبيرا من الأسماء مبنيّ وقسمٌ آخر لا تظهر عليه علاماتُ الإعراب (كالمقصور والممدود...) وقسمٌ من الأفعال يُعرَبُ (المضارع).

* دعوَى أصالةِ العمل في الأفعال (دون أن يُسأل عن سبب عملها) وفرعيّةِ العمل في الأسماء والحروف (ولابدّ من معرفة سرّها): يحاول تفنيدَها بأنّ من الأسماء ما يَعمل ومن الأفعال ما يُهمِل.

* تقديرُ حركات الإعراب في المبنِيّ وفي المضاف إلى ياء المتكلّم فضلا عن تقديرها في المجموعات الخاصّة من الاسم المعرَب: يرى في ذلك حرصا مبالَغا فيه: «قد ألزَم نحاةَ هذه المرحلة باعتماد التّأويل أصلا من أصول منهجهم في تناوُل خصائص اللّغة التّركيبيّة بالتّقعيد وتفسيرها بالتّعليل معا».

 يُصادر الباحثُ على أنّ القياسَ والتّعليلَ وطردَ الأحكام هي من ملامح التّأثير الإغريقيّ في النّحو العربيّ. وهو بذلك يُعيد إنتاجَ ما قال به إبراهيم مصطفى من رفضٍ لنظريّة العامل ورفضِ اعتبار العلامة الإعرابيّة أثرا لها: «أحْرَى أن تكونَ (العلامة الإعرابيّة) مُشيرةً إلى معنًى في تأليف الجملة وربطِ الكلام».

ردّد ذلك بعده إبراهيم أنيس الّذي مَاهَى بين الحركات في الأسماء المعرَبة والحركات في الأسماء المبنيّة. واعتبر أنّ وظيفةَ كلّ منهما «الوصل». بل يصير الإعرابُ حسْبه: «قصّة (...) استُمدّتْ خيوطُها من ظواهرَ لغويّة متناثرة بين قبائل الجزيرة العربيّة (...) ثمّ حِيكتْ وتمّ نسجُها حياكةً مُحكمَة (...) على يد قومٍ من صُنّاعِ الكلام».

الـرّدّ:

في نظريّة العامل التّراثيّة من التّماسُك الدّاخليّ ومن الانتظام الدّقيق ومن التّناسق المنطقيّ (وهي خصالٌ تصلُ بها في مواعَ عدّة حدّ التّجريد الصّوريّ الرّياضيّ) ما لا يَسمح باعتبارها مجرّدَ صدًى حاكٍ للنّظريّة اليونانيّة المنطقيّة والميتافيزيقيّة معا. فالمحاكاةُ لا تستطيعُ أن تبلغَ هذا الإتقانَ خاصّةً أنّ العصرَ والبيئةَ الحضاريّة ومواضيعَ البحث متباعدةٌ تباعُدا لا ينفي التّلاقحَ لكنْ يثبتُ تعذّرَ النّقل السّلبِيّ.

تناوَل أبو المكارم، كأغلب الباحثين المحدَثين، الإعرابَ باعتبار أنّ محورَه الكلماتُ المفردة. والحالُ أنّ مجالَ الإعراب التّركيبُ الّذي يقوم على جملةٍ من الارتباطات المتجانسة. فعلمُ الإعراب بهذا المعنى هو: «دراسةُ القوانين الّتي تأتلفُ بمقتضاها الكلِمُ لتكوين الكلام». بذلك يصيرُ التّعليلُ النّحويّ جهازا تفسيريّا وثيقَ الصّلة بموضوعه (اللّغة العربيّة) غيرَ مُفارق له. يؤكّدُ عبد القادر المهيري هذا التّلازمَ في قوله: «ليس من الحكمة في شيء أن يتسرّعَ الدّارسُ في الحكم بانْعدام جدوَى التّعليل وبأنّه نوعٌ من العمليّات المنطقيّة الشّكليّة استُخدمتْ في الجدل بين المدارس وتناقلها نحاةُ العصور المتتالية باعتبارها جانبا من التّراث النّحويّ (...). ذلك أنّ التّعليلَ سابقٌ لظهور النّزاع بين البصريّين والكوفيّين. ويبدو ، عندما تتحدّث عنه كتبُ التّراجم، نشاطا لا يمكن فصلُه عن التّقعيد وبدونه لا يتّضحُ دورُ أقدمِ الأعلام في هذا العِلم».
التّعليلُ إذن، متأصّلٌ في البحث النّحويّ التّراثيّ ولم يُستوردْ من ثقافة فلسفيّة وافدة. وقد أدرك أوائلُ اللّغويّين منزلتَه. فاجتهدوا في استنباطه وصياغته وتبويبه. يقول عبد القادر المهيري مستدِلاّ على هذه الأصالة: «ثمّ إنّ نظرةَ الخليل إلى التّعليل (...) تدلّ على أنّ أستاذَ سيبويه كان ينظرُ إلى العلل باعتبارها مجموعةًَ من الضّوابط يستنبطها النّحويُّ أو يفترضها قصدَ تفهّمِ ما يمكن أنْ نسمّيَه اليومَ "نظام" اللّغة العربيّة وتناسقَ عناصرها.كلُّ ذلك بغضّ النّظر عن كونِ ما يهتدي إليه النّحويُّ منها هو ما يقصده النّاطقون باللّغة على السّجيّة والطّبعِ أم لا. المهمُّ أنّه أمرٌ "محتمَل" لا يمكن رفضُه إلاّ إذا عُوّض بما هو "أليقُ" منه».
يواصل الدّكتور المهيري تأكيدَ "لُغويّة" (إنْ صحّ التّعبيرُ) نظريّة العامل بما تنتجه من حالات إعرابيّة تتطلّب بدورها علاماتٍ إعرابيّةً ظاهرة أو مُضمَرة. فالعلّةُ النّحويّة «ضروريّة» بعبارة أبي المكارم لا لأنّها كالعلّة المنطقيّة أو الأصوليّة «سابِقة في الوجود على كلِّ ما هو موجود من الظّواهر والقواعد جميعا» ، بل لأنّ التّعليلَ النّحويّ: «يتضمّنُ من المبادئ التّفسيريّة العامّة ما يُكوّن مُقوّمات لنظرة شاملة تستوعبُ أكثرَ ما يمكنُ من الظّواهر وتسمحُ بتجاوز شَتات المعطيات الجزئيّة للسّيطرة عليها، حسْب جهاز تفسيريّ متماسك العناصر».

التّأليف: ملاحظاتٌ نقديّة:

1- وصف الباحثُ كتابَه «أصولُ التّفكير النّحويّ» في مقدّمته بأنّه: «دراسةٌ تتضمّن من الأفكار الجديدة ما لا يكادُ يُحصَر». لكنْ وجدناه يُعيد إنتاجَ الأفكار الكبرى الّتي نادَى بها قبله الباحثون العرب من اللّسانيّين أمثال تمام حسّان وإبراهيم أنيس ومن اللّغويّين كإبراهيم مصطفى. فكانت الفوارقُ بينهم في الصّياغة أكثر ممّا هي في طريقة التّناول أو زاوية النّظر. أيْ لم يفِ متنُ الكتابِ بوعْد مقدّمته.

2- انطلقتِ الدّراسةُ من مسلّمات غيرِ علميّة، من قبيل: نفيُ نظريّة العامل أو اعتبارُ الإعراب متّصلا بالمفردات دون التّراكيب أو القولُ بصعوبة النّحو العربيّ وتعقّده... هذا ما جعل الدّراسةَ أقربَ إلى الصّبغة البيداغوجيّة التّعليميّة أحيانا وإلى الفوضى النّظريّة أحيانا أخرى منها إلى البحث اللّسانيّ الرّصين. فلا تُنفَى نظريّة مّا إلاّ بنظريّة بديل. لكنّ الكاتبُ لم يُقدّم للعامل بديلا نظريّا واضحا مُكتفيا بدحضِ وجاهته.

3- من حيثُ المصطلحاتُ تردّدتْ عبارةُ «الحقيقة» مفردةً وجمعا في كلّ أقسام الكتاب، وصف بها أبو المكارم ما يصلُ إليه من نتائجَ أو ما يفترضه من مسلّمات. أمّا المعرفةُ العلميّة الحديثة فتستبدلُ مفهومَ "الحقيقة" (وهو لاغٍ) بمفهوم "الفرضيّة" الّتي شرطُها أن تكونَ صريحة وأن يُسلّمَ بها الباحثُ بوعيٍ وأن يتمسّكَ بها ما دامتْ مُجديةً ويتخلّى عنها متى ثبتَ له ضعفُها وتهافتُها. ليس البحثُ اللّسانيّ اكتشافا للحقائق بقدر ما هو اختبارٌ للفرضيّات بالإثبات أو النّفي.

4- الاعتمادُ على عدم تبلوُر مصطلح "الجملة" في التّراث النّحويّ مطيّةً لاتّهام النّحاةِ القدامى بأنّهم أهملوا دراسةَ الجملة عند انكبابِهم على مبحثِ الإعراب، أمرٌ لا يبرّره البحثُ العلميّ المراعِي لخصوصيّة المرحلة التّاريخيّة. ثمّ إنّ غيابَ المصطلح لا يُعتبَر دائما دليلا على غياب المفهوم. إذْ لم يستقرّ مصطلحُ "الجملة" في المدوّنة النّحويّة التّراثيّة ، ولم يَتّفقْ جُمهورُ النّحاة والأصوليّين على حَدّه، وكثيرا ما تجاور مع مصطلح "الكلام" تجاوُرَ المترادفات. غيابُ هذا المصطلح ليس سبيلا للطّعنِ في سلامة النّظريّة النّحويّة ككلّ. يقول صلاح الدّين الشّريف مُنصِفا القدامَى مؤكّدا وعيَهم اللّغويّ الّذي بقيَ ضمنيّا في الأغلب الأعمّ: «فقد تمعّنوا في لغتهم الّتي هي خلاصُ ذاتهم، وصفا وتقعيدا، وركّزُوا لأنفسهم في دراستِها أصولا ذكروها عند الوصف والتّقعيد وأثناء الجدال. وكتب بعضُهم كتبا فيها. فكان لهم في اللّغة نظريّةٌ أو نظريّاتٌ لم ينقصْها إلاّ التّصريحُ بها في كلام واضح مريح. لكنّ الدّارسَ لتفكيرهم يعلمُ أنّ المشتّتَ من أفكارهم والمتفرّقَ في كتبهم، إذا جمعه عقلٌ راجِح مؤلِّف منظِّم، صار في اللّغة مدرسةً قوامُها منطقٌ ثابت به تختصّ ويختصّ بها».

5- يتنزّل بحثُ عليّ أبي المكارم ضمن الفترة اللّسانيّة الوصفيّة العربيّة. فعالج مبحثَه بما وفّرتْ له مرحلتُه التّاريخيّة من أدواتٍ علميّة ونُظمٍ معرفيّة، لا يتحمّل وحدَه مسؤوليّةَ قصورها أو إخفاقها أو عدم مواءمتِها طبيعةَ الموضوع: اللّغة العربيّة الإعرابيّة.

المصادر والمراجع:

أبو المكارم (عليّ): أصول التّفكير النّحويّ، منشورات الجامعة اللّيبيّة، كلّيّة التّربية، 1973.
أبو المكارم (عليّ): تقويم الفكر النّحويّ، دار الثّقافة، بيروت، لبنان، (د.ت).
الأنصاريّ (ابن هشام): مُغني اللّبيب عن كتب الأعاريب، الجزء 2، المكتبة العصريّة، صيدا، بيروت، (د.ت).

الشّريف (محمّد صلاح الدّين): النّظام اللّغويّ بين الشّكل والمعنى، حوليّات الجامعة التّونسيّة، عدد 17، 1979.

أبو صيني (صالح محمّد عبد الرّحمان): اللّسانيّات العربيّة بين التّجديد والتّقليد في القرن 20 (مرقون).

مجدوب (عزّ الدّين): المنوال النّحويّ العربيّ من خلال ضبطه ودراسته للوحدات الدّالّة: محاولة تقييم (مرقون).

المهيري (عبد القادر): التّعليل و"نظام" اللّغة، حوليّات الجامعة التّونسيّة، عدد 22، 1983.

عند عليّ أبي الْمَكارم

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى