الأربعاء ١٧ تموز (يوليو) ٢٠١٣
بقلم عثمان آيت مهدي

الصبر يا صابر

كانت الساعة منتصف النهار، عندما دخلت الحافلة إلى المحطة الأخيرة بالعاصمة، كنت مرهقا من السفر، ليس بالشيء الهين أن تقطع مئتي كيلومتر في طريق مزدحم تتقطعه الكثير من التوقفات والحواجز لسبب أو لآخر، هذه المسافة التي تبدو متوسطة عند البعض نقطعها نحن في ست أو سبع ساعات.

انتقلت إلى الشارع الكبير بالمدينة في ظرف دقائق معدودة، كانت كلّ الإدارات مقفلة إلى حين، كان لزاما عليّ الانتظار إلى الساعة الواحدة، وقت عودة الموظفين إلى مكاتبهم. توقفت عند أحد الأكشاك، أقتني جريدة أطالعها داخل المقهى. الوقت هنا ثقيل، جاثم على أعناق المواطنين المتسكعين ذهابا وإيابا طول الشارع، أو واقفين جماعات وفرادى قرب مداخل العمارات، يتبادلون أطراف الحديث عن السياسة العقيمة للبلاد، عن فضائح الرياضة، عن الهروب دون رجوع، عن مواضيع كثيرة ومتعددة..

أخذت جريدتي ورحت أفتش عن مقهى هادئ أستريح فيه، كلّ المقاهي كانت تعجّ بخلق عظيم، فتشت عن مكان عام، عن حديقة صغيرة، عن مركز ثقافي، عن مكتبة عمومية، لا أثر لهذا ولا ذاك في هذا البلد. عندما أرهقني المشي من شارع إلى آخر لم تبق لديّ خيارات إلا الوقوف أمام إحدى العمارات كما يفعل الجميع هنا.

فتحت الجريدة، عنوان بخط كبير يعلو الصفحة الأولى، انفجار عنيف بمصنع للبتروكيماويات يخلّف قتلى وجرحى. و على يمين الصفحة وبخط صغير تقرأ العنوان التالي: والد في حالة هستيريا يقتل زوجته وابنته ببندقية صيد. قلت لطفك ربّي، وأقلبت الصفحة مباشرة. لم يكن دعائي عزاء لنفسي من هول ما قرأت لأن الصفحة الموالية تحوي أخبارا عن الوطن يتصدرها اختلاس الملايير ببنك وطني، وإفلاس إحدى الشركات بسبب الإهمال وسوء التسيير، كانت العناوين كلّها عن السرقة والاغتصاب والقتل.

قلت، ربما ليس هناك ما يقرأ في أخبار الوطن إلا ما يبكي القرائح ويثبط العزائم ويندى له الجبين، سأختار صفحة الثقافة لعلها تحمل لنا مسرات وأفراحا تنسينا قليلا هموم هذا الوطن المريض. كانت الصفحة مخصصة كلها لقصة فرار أعضاء مجموعة الرقص الشعبي المتنقلين إلى كندا لأحياء حفلات للجالية بمناسبة العيد الوطني. تتكون المجموعة من عشرة أفراد، عانوا من التهميش والاحتقار، فمهنة الرقص في بلدنا لا يمتهنها إلا الشواذ من المجتمع سواء كان ذلك للرجل أو للمرأة، فلا مكان للرقص في بلد ينام أهله على الساعة التاسعة مساء ويستيقظ على العاشرة صباحا، يبدأ نهاره بشرب القهوة المركزة وتدخين سيجارتين ثمّ يخرج ليحتضنه الشارع الطويل.

لم أتوقف كثيرا عند الخبر، لقد اعتدت قراءة مثل هذه العناوين، انتقلت إلى صفحة الرياضة التي لم تسلم هي الأخرى من فضائح بيع المقابلات، ودخول الجمهور إلى ساحة الملعب مؤدبا فريقه بالضرب والشتم، أو بالخروج من الملعب غاضبا فيقوم بالتكسير والتخريب كلّ ما يقع عليه أثناء هذه الموجة الغاضبة. كانت الصفحة من أولها إلى آخرها عن تجاوزات وتظلمات وتهديد ووعيد.

شعرت بغضب ينتابني، ساعة من الانتظار والتسكع وقراءة ما لا يقرأ.. إحباط، قلق، تعب، إرهاق.. وقت لا معنى له، حياة عبثية بامتياز.. نظرت إلى الساعة، كانت تشير إلى الواحدة زوالا ودقائق، قصدت مقر الإدارة لاستخراج بعض الوثائق، دخلت المبنى، استقبلتني قاعة كبيرة لم تستطع احتواء العدد الكبير من الناس الذين شكلوا طوابير كثيرة أمام كلّ مكتب. إنّه وقت آخر للانتظار، كان لا بدّ لي من الصبر والوقوف في الطابور لساعة أو أكثر.

شعرت بأنّ الجميع يعاني من مرض ما، سمرة الوجه وتجاعيده تخفيان حكايات وأحداثا كثيرة، كآبة صامتة تخيم على الجميع، من حين لآخر تسمع صوتا عاليا يصدر من المكتب، إنّه شجار بين الموظف وأحد المواطنين لسبب أو لآخر، وبطريقة هستيرية يقوم الموظف بغلق الباب ويقسم أن لا يضيف دقيقة بهذه الإدارة. لقد ملّ من ملاحظات وانتقادات المواطنين، لقد كره العمل ويرغب في الهروب إلى حيث لست أدري.

وبعد فترة يعود إلى مكتبه ليستأنف عمله، يعود الطابور إلى التململ والحركة، يخرج البعض من المكتب وكأنه خرج من قبره، جثة واقفة، تتمتم كلاما غير مفهوم، أو ترفع رأسها إلى السماء تدعو الله أن يخلصها مما هي فيه، تتمنى الموت أحيانا، تسبّ الوضع والمسؤولين جميعا دون استثناء، وقد تردد المقولة المشهورة: الدنيا وجوه والآخرة أفعال.

كنت أتابع كلّ ذلك وأنا في حالة غضب، أفكر في العودة، في المسافة التي تفصلني عن البيت، في الطابور الذي يتوقف لدقائق كثيرة دون سبب، في وقت انتهاء العمل وغلق الإدارة على الساعة الثالثة ونصف مساءا.. لقد قيل لي أكثر من مرّة أنّ الإدارة مستنقع كبير يصعب فيه العوم حتى وإن كانت عضلاتك قوية، لا بدّ لك من الصبر والتجلد.

دخلت المكتب أخيرا، لقد حان دوري، حمدت الله على كلّ حال. أشعل الموظف سيجارة، تنفسها بعمق ثمّ نفثها في وجهي، تظاهرت بأنّ شيئا لم يقع، حاولت التحكم أكثر في أعصابي.

قلت: أريد شهادة ميلاد رقم 12 خاص.

أمسك بنسخة من عقد ميلادي ونسخة أخرى من بطاقتي الوطنية، ثمّ راح يدخل بعض البيانات على الحاسوب، نظر إليّ وقال: لقبك Saber، ماذا يقابله باللغة العربية صَبِرْ أم صابِرْ؟
قلت: صابر.

قال: حسب اللقب المدون في السجل الخاص بالولادات، لقب والدك هو: صَبِر. أنت مضطر لتصحيحه عند وكيل الجمهورية بمسقط رأس والدك.

قلت: لقد ولد في أقصى الحدود لهذا البلد على بُعْد ألف كيلومتر من هذا المكتب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى