الاثنين ١٢ آب (أغسطس) ٢٠١٣

إشكالية مواجهة الذات في الرواية الفرنكوفونية

دلال عبابسية

تشتغل الرواية على الذات و تصورها في عمقها، ذلك أنها وجدت لتقول مالا يستطيع غيرها من الأجناس الأدبية قوله، و الرواية العربية المكتوبة بالفرنسية تزدحم بحضور الأنا العربي لأسباب و نوايا كثيرة...و "الطاهر بن جلون" تجربة كتابية تستوقفنا لعدة أسباب و إشكاليات أهمها أنها كتابة تواجه الذات و تحاصرها بأسئلة مربكة.

أ-النسيان:

ربط بن جلون ثلاثة فصول من روايته بالنسيان "الأول: عشق النسيان" الثالث:نسيان فاس"،والرابع عشر: قرية النسيان"،وكان يردد حكمة تختزل الكثير من المعاني،« le fou est celui qui ne connaît pas l’oubli "(1)، أجل فالمجنون هو من لا يعرف النسيان،خاصة عندما تكون الذكريات حزينة ومحبطة،حيث يصبح النسيان علاجا سحريا يحتاجه كل من عجز عن حمل عبئ الماضي،من هنا عشق "بن جلون" النسيان وبحثه عنه،وعندما أراد أن يصبح شخصا آخر طارده الذي كانه "..انه في الحقيقة لم يتخلص بعد من تاريخ الكائن الآخر ومن ماضيه وآثاره لقد كان يحس في أعماقه بما يشبه بقايا حضور وهمس مما كان" (2)،وذلك الهمس هو ما فاضت به هذه الرواية في محاولة للتخلص من الماضي أو من الحقيقة التي كانت تنغص الواقع،"فالشخصية إن تكلمت عن ماض إنما تبتغي التواصل بحاضر ومستقبل محكومه بغائية التخلص من الألم ومن "الإرث" الثقيل الذي يصدها عن الانطلاق"(3). فكثيرا ما يلجأ المعالج النفسي إلى جعل الحالة تواجه ماضيها بأزماته وانفعالاته لتتخلص منه وتشفى تماما من أي عقدة.

النسيان إذن أول الأسباب للبوح،وليس نسيان الماضي فقط،بل نسيان "فاس" مسقط رأسه،حول هذا يبوح "بن جلون" دفعة واحدة بالسبب الجوهري لكتابة قصته الشخصية مدركا ما يريده بالتحديد –خاصة وهو أستاذ في علم النفس"قال انه عندما ينادينا الموت،تمر مراحل تاريخيا بسرعة فائقة في وعينا فمشكلة في وضعه ذاك كان مشكل سرعة، لم يكن لاستعراض قصته وبالتالي قصة الآخرين ولا لسردها وإعادة سردها نهاية كان يعتقد إن قصته الشخصية لا تهم أحدا، وانه بمجرد التخلص من جسده فانه يصفيها في نفس الوقت أما الآن (...) نسيان فاس،ذلك هو الأمر المؤكد"(4)، يبدوا أن البطل أمامنا في حالة احتضار،إذ يركز "بن جلون" على الموت لهذا فما يبدوا ليس إلا لحظة لذكرى ما قبل النهاية،ربما ليس موتا ماديا بقدر ما هو تنصل من الذات وكل ماله علاقة بالماضي بداية من المدنية التي تحتفظ بكل ذكريات الطفولة والشباب،ونهاية بالجسد آخر ما يربطه بالواقع ومثلما بعد الموت يكون البعث فإن بعد النسيان يأتي الانتظار.

ب -الانتظـــــــار: ومن أجل ذلك،كان البوح علاجا ليس للنسيان فقط بل للعودة إلى الماضي،حيث الخلل،فمن بين التراكمات والمكبوتات القديمة توجد إجابة هي في الغالب "إرادة التغيير" فعندما أبوح بسري لا أكتفي بالتخلص منه:فكما الطبيعة تخشى الفراغ،النفس كذلك دائما بحاجة إلى تفريغ وإعادة تعبئة –إن جاز القول- هذا ما يتضح أكثر من خلال قوله:" لا بد من ذكر الساعة واليوم،وذكر المكان وينبوع المولد،لا بد من ذكر موت هؤلاء وأولئك أنها أسماء خفية،إنها التسمية انه النقش على اللوح القرآني أو على مشهد القبر،كان عليه أن يخط أركان القلعة ويحيطها بالأسوار،ويرسم أشكال الجسم الدقيقة والمشحونة حتى يتمكن من الهدم يسر فيضع حدا لحمل ماضيه الثقيل وغير المفيد لا بد أن يمحو،أن يقطع جذور الماضي(...) لقد فهم أن مجرد سرد قصته قادر على تطهيره من تلك الهيمنة وتخليصه نهائيا من تلك القيود"(5)، وبهذا الكلام الواضح تتجلى غاية "بن جلون" بين الهدم والتطهير،للتخلص من القيود ولبداية حياة حرة،فماذا كان ينتظر بعد النسيان؟ ما الخطوة التالية بعد التخلص من الجسد والتاريخ؟ لماذا اختار "بن جلون" أن تكون روايته مثل دليل سياحي يحري المغرب بميزاته وعيوبه أمام الأخر (المتفرج) وكأنه يعلن بهذه الطريقة انحيازه لجهة معينة وبهذا نسي أو أراد أن ينسى طرفا من المعادلة وينتظر دخول أو الانخراط مع الطرف الأخر طبعا معادلة الأنا والأخر التي لا نستطيع تجاهلها والرواية تنتمي لكليهما،بل وكتبت من أجلهما.
وبعد قرية النسيان،تأتي قرية "الانتظار "مرحبا بكم في هذه الأرض التي لا يحق لله ولرسله مراقبتها و لا حتى التدخل في شؤونها أنها قطعة آمنة اكتسبناها بصعوبة كبيرة إذن فلا وجود هناك للصلاة ولا للمؤسسات"(6) قرية تشبه ذلك العالم الروائي الذي تحدث عنه "ميلان كونديرا" "حيث تخلى الله عن مخلوقاته وتركهم يواجهون مصيرهم –حسبه طبعا- ويعيش أهلها تحت شعار الإهمال ونكران الذات،إلا أنهم ينتظرون عودة ما ويستعينون بالحشيش والخمرة معتقدين أنهم قادرون على قهر الموت هذا الذي لا يقهر والذي إذا بقي الإنسان يفكر به،فلن تكون حياته إلا انتظارا له وكما يبدو فـ"بن جلون" لم يستطيع أن ينسى،و ما ينتظره بقي مجهولا،وإنما كان بوحه بأسرار حياته ورغباته البسيطة ثم بوحه بما يحلم أن يكون"رحلة الأحلام وحج مبتور وماض مستحيل،إن حمل طفل إلى الجنوب لتغذية ذاكرته وكيانه بالأصول لموضوع جميل لرواية أو قصة لكنه في الواقع وهم.فانجازه يحتاج الكثير من الإيمان واللاوعي"(7)، وربما نقول أن "بن جلون" انخرط لا شعوريا في ميثاق السيرة،ثم انتبه الشعور وتدخل في الرواية فكتب للأنا وللأخر بين احتقار وتجريح الذات،ثم تضخيم ومباهاة بالماضي المجيد والأصول العريقة وبينها بقي سؤال الأنا مطروحا.

ج- حيلة الدفاع عن الذات الرواية هي من أكثر الأجناس الأدبية استو عابا للفكر البشري في هذا العصر،وبن جلون اتخذ منها قناعا يطلق من خلاله أفكاره ونقده ونظرته للمجتمع المغربي خاصة والعربي عامة.وصلاة الغائب رواية ترتدي قناع السيرة أو سيرة ترتدي قناع الرواية، لكن بالتأكيد أنها حيلة دفاعية من الذات المجرحة والتي انهال عليها الكاتب جلدا،لتتخلص من الضغط،فتجربة الغربة والحياة الجديدة والهوة الشاسعة بين وطن الكاتب إلام وفرنسا.كلها أصابت الذات بالخوف الشديد فهربت من سيرتها إلى سيرة الوطن"..... أننا نشكو من خواف الجديد، أي أننا نخاف لا شعوريا من التحرر فنحتمي بالتراث وننكص إلى التقاليد والأساطير لوقاية الذات من الإقرار لعدم النجاح.من جهة ثانية يصيبنا القلق من المجابهة فنرتص إلى الوراء لنغطي ذلك التوتر (...) صونا للكرامة أو دفاعا "(8): وبما أن بن جلون كتب روايته في مرحلة انتقالية فالتجربة كانت مثل الموت والبعث.لهذا كان لابد في هذه المرحلة من تصفية الماضي،و تغذية الأنا من جهة أخرى بما يعوضها،فكانت الروحانية وطقوس المغرب الغريبة تطغى على رواية تبدو الذات محورها"ثم إن الفتى الشرقي،و لأنه شرقي،يقيم و لو في لاشعوره أيضا علامة مساواة بين الشرق و الروحانية تؤازره في ذلكو تعاضده إيديولوجيا كاملة نسجها الشرق حول نفسه عندما دخل معلركة التحدي مع الغرب"(9)، من هنا يصبح للبوح فضاءا شاسعا له القدرة على استمالة القارئ الغربي الذي توجه له الأعمال أولا ولعله بوح ناجح لدرجة أن بن جلون أصبح من الأسماء المعروفة في المجتمع الفرنسي ويحضى بالجوائز بل ويرشح لجائزة نوبل.

د- المغالطة: (الحقيقة والزيف) أراد بن جلون في روايته هذه أن يكشف على أكثر من نفسه،فقد يكون نموذجا إنسانيا أو عينة من العالم الثالث،أو مغتربا يعاني صراعا الحقد على وطنه الذي لم يمنحه فرصة الوجود، والحنين إليه في نفس الوقت.لكنه كأحد أهم ميزاته كاتب ومفكر، يهتم بقضايا الإنسانية،توصف كتاباته بطابعها الفكري، وصلاة الغائب رواية تضعنا في دوامة الموت والحياة،وتخلخل علاقتنا بالواقع لان كل شخصيات هذه الرواية تخرج عن حدود المعقول وتفتح باب الشك. يقول السند باد،الذي نرى فيه أحد وجوه الكاتب والناطق بالكثير من أفكاره مخاطبا بوبي"هل تعلم يا بوبي أن الحياة ليست ممكنة ولا يتيسر تحملها إلا بشيء من المغالطة،إني على رأي من قال: إني متيقن أنه بدون تلك المغالطة الكونية لا أحد يريد اقتحام هذا العالم الخادع،وأن الناس لو نبهوا مسبقا إلى حقيقة الحياة لما قبلها إلا قليل منهم"(10) والمغالطة لغز آخر من ألغاز هذه الرواية،فهل تكمن في نظرتنا (الشرق) للحياة وما بعد الموت؟ أم الإيمان بالقدر؟ أم في النظرة الصوفية التي تكدس ثقافة الروح على حساب الجسد وتجعل من الحياة محطة عبور؟ لقد تاه "بن جلون" وعندما كشف عن الحقيقة وجدها نقطتين لا غير "الولادة والموت" وما بينهما هباء"كنا نعيش في صمت الأموات وطمأنينتهم كنا أمنين ملتحفين بأغطية الليل كنا نحن أنفسنا سرا ونغما،بقينا على قيد الحياة بفضل تلك المغالطة التي يتحدث عنها الفيلسوف،أما الآن فنحن عراة، لم يعد لنا قناع أو على الأقل نحن مطالبون بنزعه"(11)، أراد "بن جلون"اكتشاف ذاته والعودة إلى الأصل وفي فوضى بحثه لم تجبه حياته الماضية،ولم يجبه التاريخ،ولا القلق الوجودي ولا الجنوح الصوفي وإذا كان الغزالي في منقذه خلص إلى أن الحقيقة المطلقة الوحيدة في هذا الكون هي الله، فإن نهاية الرحلة أمر واحد وانتظاره كذلك كان لأمر واحد"وبعد هل تظن ان لنا من القوة ما يمكننا من مصارعة القدر لمادا سنفرض الحياة على هذا ان لنا من القوة ما يمكننا من مصارعة القدر لمادا سنفرض الحياة على هدا الطفل لماذا سنثقله في حين أن الانتقال مباشرة من المهد إلى اللحد سهل جدا"(12) لقد تجلت الحقيقة قاسية كالعادة و فوق كل الاحتمالات و محاولات الهروب ليستعد أصحاب الرحلة جميعا" لاستقبال ماكان دوما في انتظاره دون أن يعرف بالضبط ما هو الحقيقة كان ذلك الانتظار يسكنه مند مدة طويلة لكن بصورة غامضة فهو يتذكر ما كان يردده عليه فيلسوف أزعجه أهل العصر الدين نفد صبرهم الحقيقة دامية أو لا تكون"(13)، و لعل تلك الحقيقة الدامية،هي ما جعلت نهاية الرواية هي موت الشخصيات التي غابت أجسادها "و في المحراب قبالة الشيخ لم يكن بالطبع يوجد جسم فدلك من طبيعة تلك الصلاة الخاصة و أقيمت الصلاة بدون سجود على أجساد غائبة أجساد مجهولة صائغة توارت في أرض بعيدة و لفها صمت الرمال أمواج بحر هائج"(14)، هكذا أنهى ابن جلون روايته و هو الغائب عن وطنه و الغريب كتبها بكثير من الحقد و الحنين و بلا شعور يهمس بالماضي و يقص تفاصيل حياة بسيطة و شعور يحضر فيه الأخر و اهتماماته فيكتب للحاضر و كذلك يحضر بقوة الفيلسوف الذي يسكنه فيتساءل عن الوجود و حقيقته ثم يبرز دلك المفكر الذي يهتم بقضايا الهوية و المرأة في المغرب و في الوطن العربي فعاد إلى التاريخ والمجتمع و رموزه و تساءل حوله ربما لم يكن دلك الغائب هو الكاتب الذي يستشرف مستقبله بقدر ما يحمل دلالة عامة حول أمة غائبة عن الوجود أمة ترضخ تحت الغيبيات و الماورائيات و بعيدة عن ذلك العالم القوي الذي انخرط فيه ابن جلون لهدا أراد أن يبني القلعة ليهدمها و هو الذي يرى الهوية العربية جثة"بن جلون يصر على أن جسد الهوية جيفة غير قابلة للحياة و لا بد من جسد أخر مصنع وفق النموذج الغربي"(15). و لعلنا بهذا نقول أن نكران الذات و تجريحها عنده كان نكرانا لذات الأمة و دلك هو سره المكشوف فهل تماهي أو ذوبان الأنا في الآخر يحقق لها وجودها.؟؟.
قائمة المصادر و المراجع:

1ـ taher ben jalloun: la prière de l’absent, éditions du seuil,1981. P: 20.

2ـ الطاهر بن جلون:صلاة الغائب،ص:09

3ـ المصدر السابق:ص:31.

4ـرجاء نعمة: صراع المقهور والسلطة:ص:39

5ـ6ـ الطاهر بن جلون:ص:31. 6-الطاهر بن جلون:ص:31.

7ـ الرواية: ص:204

8ـ علي زيعور: التحليل النفسي للذات العربية، ص 209

9ـ جورج طرابيشي: شرق غرب،رجولة انوثة، ص 60

10ـ 11ـ 12ـ الطاهر بن جلون: صلاة الغائب: ص 91.

13ـ الرواية: ص: 208.

14ـ الرواية: ص214

15ـ خالد زغريت: الطاهر بن جلون في رواية طفل من الرمل جدل الثقافة الفن،مجلة عمان، ص:87.

دلال عبابسية

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى