الأربعاء ١٤ آب (أغسطس) ٢٠١٣
بقلم عادل عامر

رؤية للمستقبل

إن الأمم لا تبني أمجادها إلا بقوتين متعاونتين: قوة من سلاح وقوة من روح.. وأنا لا أريد بالروح تلك الانهزامية الاتكالية الواهنة التي تفر من الحياة، ولا أريد بها تلك القوة المكذوبة التي نسجها الغرور أوهاماً تملأ أدمغة الشبان الأبرياء! كلا! إنما أعني بالروح: تلك القوة المبدعة الخلاقة التي تنشئ الحياة.. تلك الفضائل التي بنت بها أمتنا الممالك وشادت الحضارات، وخاضت بها معارك التحرير في القديم والحديث، إنها الروح المستمدة من الإيمان بالله وبشرائعه، وهي الروح التي تفقدها أمم الحضارات اليوم، فهي أبداً ما تزال تنقلب من جحيم إلى جحيم. ولن تعرف الاستقرار والسعادة إلا يوم تتعرف إلى روحنا نحن، وتتقدم لتأخذها من يدي محمد والمسيح عليهما السلام!.

إن أمتنا وهي على عتبة حياة مليئة بتكاليف الكفاح وأعباء النضال، في حاجة إلى هذه الروح التي تحبب لها الفداء، وترخص الأموال، وترغب في الصبر، وتربى على الإخلاص، وتبث في النفوس أنبل عواطف الحب والإخاء والوفاء. وإن الامتناع عن الاستفادة من هذه الروح خوفاً من الطائفية البغيضة ليس إلا جهلاً بطبيعة هذه الروح وبحقيقة أمراض هذه الأمة. : إن أمتنا شيء عظيم في عالم الفكر، وفي عالم الحضارة، وفي عالم السياسة، وفي عالم الاقتصاد، وفي عالم الحرب، وفي عالم السلم، وهي تستطيع أن تتوج كل فريق من المعسكرين المتصارعين اليوم بإكليل الهزيمة أو النصر إن شاءت، فلماذا نعطي إكليل النصر هدراً من غير ثمن؟ لماذا نصوغ من دماء شبابنا ومن ثروات بلادنا ومن حرية أمتنا تاجاً نضعه فوق رؤوس الأقوياء، وهم لا يزالون يجحدون حقنا في الكرامة، بل حقنا في العيش ببلادنا أحراراً؟

لماذا نذهب مع من يريد منا أن نذهب معه إلى حرب مدمرة لا تبقي ولا تذر قبل أن نقول له: اخرج من وادي النيل، ومن أرض الشمال الإفريقي العربي، ومن المحميات العربية على الخليج العربي، ومن كل أرض لنا لا يزال الغاصبون يحتلونها ويذلون كبرياءنا فيها؟!.إن كرامة أمتنا في أن تتحرر من الجهل والفقر والضعف والظلم والخوف والرذيلة.. فليحرر ملوكنا ورؤساؤنا شعوبهم من هذه القيود، تكن لهم كرامتهم وسلطانهم في الأفئدة والقلوب، وما دام في دنيا العرب شعب يخاف من الحاكم أن ينقده فيكبل بالأغلال، وحاكم يخاف من معارضيه في الرأي فيرى فيهم متآمرين على حكمه وحياته. فلن تستطيع الدنيا العربية أن تحطم قيود الأعداء من حولها..

إن الشعوب لا تساق إلى ميادين المجد بالنار والضغط والإكراه، وإنما تساق إليها بالعقيدة ولذة التضحية ورغبة الاستشهاد. والأمة في حاجة إلى سواعد قوية، وبطون ممتلئة، وأجسام مكسوة، وسعادة ترفرف فوق كل بيت.. فأين هي السواعد التي هيأتموها للنضال؟ وأين هي البطون التي درأتم عنها الجوع؟ وأين هي الأجسام التي أنقذتموها من العري؟ وأين هي السعادة التي أدخلتموها إلى كل بيت؟ ستذهلون من هذا الاتهام! ولكنا نطالبكم بأن تزوروا هذه الأحياء الفقيرة، وهذه الجموع العاملة، وهذه الكتائب "السائلة"، وهذه الآلاف من العجزة الذين يهيمون في الطرقات، وهذه الهياكل البشرية التي يسكن بعضها في القبور وهم أحياء!.. ونسألكم أن تنظروا في سجلات دوائر الصحة والمستشفيات العامة، بل نسألكم أن تسألوا بعض أنصاركم من عامة الشعب ليصدقوكم القول عما يعانيه الشعب من بؤس وشقاء، وعما تتخبط به الأمة من فوضى اقتصادية لا يرتضيها خلق ولا شرع ولا حكم ديمقراطي!.. اسألوا أنصاركم عن هذا لعلهم يصدقونكم ساعة في حياتهم! فقد يئسنا من أن تزوروا العامل في بيته، والفلاح في كوخه؛ والفقير في قبره..

وكيف يفرغ لهذا من يسهر الليل، ويدأب النهار؛ لتتم "الطبخة" الشهية التي تتحلب لها أفواه الراغبين في النيابات والزعامات!.. إن أول سلاح تحتاج إليه أمة كأمتنا هو سلاح العقيدة، أي سلاح الإيمان الذي مكن لعشرات الألوف من أبناء الجزيرة العربية أن يتغلبوا على أكبر دول العالم، وأن يحكموا شعوباً تعد بعشرات الملايين!.. هذا الإيمان بل هذه العقيدة، ماذا عملتم لها وأنتم ترون بأعينكم كيف تتحلل في نفوس الأمة، وكيف حاول المستعمرون خلال ربع قرن أن يقتلوها، ليقتلوا روح العزة والمقاومة في نفوسنا؟ لقد كنتم في الواقع حرباً عليها بتخليكم عن نصرتها ونصرة الداعين إليها، وبتشجيعكم من يحاربها من الدخلاء على هذه الأمة أو المنسلخين عن فضائلها، وكنتم حين يطالبكم المصلحون بأن تعملوا لتقوية هذه العقيدة؛ أجبتم بأنكم تخشون أن تتهموا بالرجعية!. فإذا تقدم للعمل لها فريق من شباب الأمة وقفتم في طريقهم كي لا يغلبوكم على هذه الجماهير فتضيع من أيديكم. ويفلت زمامها من نفوذكم. ليس هناك تفريق بين الدين والسياسة .. ولا أرى من الدين ترك السياسة ولا من السياسة ترك الدين .. بل إن المسلم الحق لا يكتمل إيمانه العملي حقاً إلا عندما تكون صلاته ونسكه ومحياه ومماته لله رب العالمين .. أي أن كل حياته تستحضر الدين وتعيشه وتلتزم تعاليمه.

وبالعموم فإن هذا هو موقف الإنسان المصري بالعموم، وهذا هو حال أغلب المصريين مسلمين ومسيحيين من الدين .. إنه جزء هام من هويتهم ومن حياتهم، ويشعرون بالفخر وهم يلتزمون دينهم ويقتدون بتعاليمه في حياتهم، فلا يقل أحداً أن أريد فصل الدين عن الحياة أو عن السياسة عندما أنادي بفكرة "سياسة بلا جماعات" فأنا أتحدث عن الوسائل ولا أتحدث هنا عن المبادئ أو الغايات. مبدئي الشخصي وغايتي أن تستكمل مصر السير في طريق تطبيق الشريعة بالشكل الصحيح والذي يحفظ كل حقوق المصريين. وبعد ذلك أعود فأقرر موقفي من فكرة "سياسة بلا جماعات"كان طبيعيا في المرحلة التالية للثورة مباشرة في حالة مصر تحديداً أن تكون القوات المسلحة هي الكيان الأقرب للحكم مباشرة بعد سقوط دولة الظلم، وأن تكون الجماعات الإسلامية هي الأقدر مرحلياً على توجيه الجموع وأن تملك ناصية الحشد لخدمة الثورة وأهدافها.

وجاحد من ينكر دور الجماعات في تلك المهام الحساسة والضرورية لاستقرار الثورة فور سقوط النظام. رأى الجيش أيضاً وهو من تولى السلطة مباشرة عقب سقوط النظام حاجته إلى أن يعمل مع كيانات منظمة قادرة للوصول إلى نسبة كبيرة من الشعب المصري، ومن هنا نشأت علاقة مصالح متبادلة بين الجماعات وبين الجيش من أجل صالح مصر كما رآه الطرفان، وتفهمه الكثيرون، واعترض عليه من كانوا يخشون من مآل مثل هذا التحالف على مستقبل الحياة. وحدث انشغال كبيرة للجماعات بالفرصة السياسية الجديدة المتاحة، وهو ما اعتبرته الجماعات فرصة جديدة لإيصال الدعوة عبر العمل السياسي، وفات الجماعات أن آليات عملها، وطبيعة تكوين كوادرها لا تتناسب مع متطلبات العمل السياسي، ولكن الفرصة كانت متاحة والخيارات نادرة وغير مقبولة، فبدأت الجماعات في تشكيل أحزاب سياسية تعمل بمثابة "الذراع السياسي للجماعة" وهنا بدأ الخلل في الظهور علنا وبشكل مباشر. أنشأت معظم الجماعات أحزاباً سياسية لا تعدو أن تكون بصورة أو بأخرى إدارات سياسية داخل الجماعة تتشكل من كوادرها، وتهتم فقط بأعضاء الجماعة، وترى الجماعة هي مركز الحق الرئيس .. رغم عبارات التعاون التي تكلم عنها الجميع، وللأسف أقول ..

استمرت الجماعات في رؤية كوادرها في مكانة أعلى ممن سواهم، والجماعة بالعموم أهم من مصر .. كان دائماً المبرر أن الاهتمام بالجماعة ليس إلا بهدف الاهتمام بمصر وقبل ذلك بالدين قطعاً، ولكن مسيرة العمل السياسي كانت تشير بوضوح أن تلك الجماعات انشغلت كثيراً بالجماعة فوق مصر .. وبأهداف الجماعة فوق مصالح الوطن، ولا أرى ذلك غريباً أو غير منطقي فالجماعة في النهاية لم تنشأ لتكون راعية لمصالح دولة بل حامية لرؤية ومعتقد، وبالتالي فإن الدور الجديد أن ترعى جماعة مصالح دولة هو دور لا يوجد في تاريخ الجماعات تأصيل له أو قدرة عملية على ممارسته والقيام به. لا نشك في النوايا الطيبة للكثيرين من قادة الجماعات ورغبتهم في خدمة الوطن بما هو متاح لهم، ولكن التفكير يجب أن ينصب على ما هو صحيح، وصالح لمصر المستقبل، ولضمان أن تنجح الحياة السياسية وتنضج لتحمل هموم أهل مصر وتنتقل بهم من واقع مؤلم إلى مستقبل أكثر إشراقا ونجاحا. الجماعات ليست بديلاً للأحزاب ولن تكون أبداً كذلك مهما طال عمر التجربة الحالية، فهما كيانان مختلفان تماما، ومصر بحاجة إلى كل منهما على حدة. الجماعات لن تنجح أبداً في تلبية طموحات المصريين السياسية ليس بسبب فساد نية، وإنما بسبب عدم ملائمة الوسيلة للغاية المرجوة. دعونا لا نقاتل طواحين الهواء .. ولنتعلم من تاريخنا قبل أن نتعلم من تجارب من حولنا. لقد نجحت هذه الأمة في سيادة العالم عندما كان الشيخ شيخاً يقوم بواجبه .. والقائد العسكري قائداً للمعارك يقوم بواجبه .. والحاكم أو السلطان .. يحكم أيضاً بقوة ويقوم بواجبه ..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى