الاثنين ١٩ آب (أغسطس) ٢٠١٣
بقلم حسن توفيق

هل نستطيع نسيان محمود درويش؟

تُنسى كأنك لم تكن.. تُنسى كمصرعِ طائرٍ.. ككنيسةٍ مهجورةٍ تنسى.. كحُبّ عابرٍ وكوردةٍ في الليل تُنسى .. هذا ما استهل به الشاعر العظيم محمود درويش قصيدته الرائعة والمؤثرة التي سماها تُنسى كأنك لم تكن، وهي إحدى قصائد ديوانه لا تعتذر عما فعلت، وفي ثنايا هذه القصيدة يظل مبدعها يركز على نسيان الأحياء من الناس لمن يرحل منهم عن عالمنا، حتى وإن كان هذا الراحل إنسانا مرموقا ذائع الصيت، وهكذا تتكرر في القصيدة قضية النسيان.. تُنسى كأنك لم تكن شخصًا ولا نصّا.. وتُنسى- تُنسى كأنك لم تكن خبرًا ولا أثرًا.. وتُنسَى.
صدر ديوان لا تعتذر عما فعلت الذي يضم هذه القصيدة سنة2004 وبعد أربع سنوات من صدوره، وبالتحديد يوم السبت 9 أغسطس سنة 2008 رحل محمود درويش، وتم تشييع جسده في جنازة مهيبة بكل معنى الكلمة، واحتضنته أرض رام الله الفلسطينية وسط مشاعر الحزن والحسرة على فقد هذا الشاعر الفلسطيني- العربي العظيم، وها هي خمس سنوات تنقضي على هذا الفقد، وعلى الفور ينبثق سؤال محدد: هل تحققت نبوءة محمود درويش بأنه سينسى؟ وأبادر فأقول- نيابة عن سواي- إن كل محبي الشعر العربي، ومعهم كل من يرتبطون بقضايا الإنسان الجوهرية لم ينسوا هذا الشاعر العظيم، ولن يستطيعوا نسيانه إلا إذا فقدوا محبتهم للشعر وتخلوا عن قضاياهم التي يرتبطون بها، فكل ما في الأمر أن الجسد قد غاب، أما العطاء الشعري والنثري الرائع الذي أبدعه الشاعر على امتداد سنوات حياته فإنه سيظل باقيا ومتجددا، لأنه عطاء يستعصي على النسيان.

ارتبط محمود درويش ارتباطا حياتيا حميما بقضية فلسطين- الشعب والأرض، لكن شاعريته الخصبة منعته أو عصمته من أن يكون واحدا من شعراء المناسبات الذين يتلاشى تأثير قصائدهم بمجرد انتهاء المراحل التاريخية التي يكتبون في أجوائها الساخنة، وقد تعمقت شاعريته الخصبة بفضل حرصه على الارتواء من ينابيع الثقافة والمعرفة في الشرق والغرب على حد سواء، ومن هنا أتيح لصوته الشعري العربي الفلسطيني أن يتجاوز الرقعة الجغرافية للأرض العربية كلها، وأن ينطلق عبر الآفاق الرحبة الممتدة، ليصل إلى الإنسان في كل مكان وزمان، ولم تعد قضية فلسطين- بفضل هذا الصوت الشعري الصادق والواثق- مجرد قضية سياسية، وإنما أصبحت قضية إنسانية شاملة، تحظى بالتجاوب العالمي العميق، المستند إلى التقدير والاحترام، والبعيد كل البعد عن محاولة استدرار الدموع من العيون، وهي المحاولة التي لا يمل الصهاينة من تكرارها حين يتحدثون عن اضطهاد النازية لهم في زمن عنفوان أدولف هتلر، وبالطبع فإن محاولة استدرار الدموع من العيون لا تقتصر على الصهاينة وحدهم، إذ يلجأ إليها المتاجرون بالإسلام وهم يسعون لتحقيق مآربهم الدنيوية.

ما زال الناشرون بعد غياب محمود درويش يعيدون طبع دواوينه الشعرية وكتبه النثرية، وهذا يؤكد أنه شاعر غير قابل للنسيان، وما زلت أعيد قراءة كتابه النثري البديع أثر الفراشة بنفس المتعة التي تذوقتها حين قرأته أول مرة، وها هو يناجي حبيبته- مدينته حيفا العربية الفلسطينية على الرغم من احتلال الغرباء الصهاينة لها منذ سنة 1948 ها هو يناجي حيفا، هامسا: حيفا.. يحق للغرباء أن يحبوك، وأن ينافسوني على ما فيك، وأن ينسوا بلادهم في نواحيك، من فرط ما أنت حمامة تبني عشها على أنف غزال، وفي ذكرى انقضاء خمس سنوات على غياب هذا الشاعر العظيم يطيب لي أن أستعيد صوته في أثر الفراشة، حيث يقول: أثر الفراشة لا يُرى- أثر الفراشة لا يزول- هو جاذبية غامض، يستدرج المعنى، ويرحل حين يتضح السبيل- هو خفة الأبدي في اليومي.. أشواقٌ إلى أعلى، وإشراقٌ جميل- هو شامةٌ في الضوء توميء حين يرشدنا إلى الكلمات باطننا الدليل- هو مثل أغنيةٍ تحاول أن تقول وتكتفي بالاقتباس من الظلال ولا تقول- أثر الفراشة لا يُرى.. أثر الفراشة لا يزول.

وفي ذكرى الغياب يتردد في روحي بيت أمير الشعراء أحمد شوقي: الناس صنفان: موتى في حياتهمو- وآخرون ببطن الأرض أحياء، وتبقى تحية الحب لمحمود درويش الذي لا يمكن لأحد أن ينساه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى