الثلاثاء ٢١ آذار (مارس) ٢٠٠٦
حكايا الأنفلونزا (1)
بقلم محمد متبولي

أحلام داجنة

انه ليس يوم العيد أو أحد المناسبات التى تحتفل بها الأسرة، ومع ذلك فجو من السعادة والفرح كان يعم البيت، توزع بسماتها على الجميع والجميع يتبادل معها البسمات فالكل يعلم أن هذه البسمات سوف تتحول الى أمنية تتحقق أو حاجة تقضى له مع نهاية النهار، ذهبت إلى الحظيرة ألقت الطعام إلى الجاموسة والدجاج، وضعت ما جمعته من بيض طوال الأسبوع فى المشنة (السلة)، وانتقت من بين فرخاتها ما يصلح للأكل ثم غادرت.

تسير فى الطرقات رافعة رأسها تلقى السلام على كل من التقت به فى الطريق، والكل يقول فى سريرته (سبحان مغير الأحوال) فمنذ سنوات قليلة كانت تسير فى نفس الطرقات منخفضة الرأس، شاحبة الوجه، متجنبة الحديث مع الجميع، تلقى السلام على من صادفها بفتور وإحساس بالمرارة، فبعد موت زوجها لم تستطع العيش بتلك النقود القليلة التى كانت تحصل عليها من المعاش، فاضطرت أن تسد ما تبقى من حاجتها عن طريق مساعدات أهل الخير والاستدانة طويلة الأمد من كل معارفها، حتى نجحت فى إقامة مشروعها الخاص لتسدد ديونها وترد الحسنات وترفع رأسها بين الناس مرة أخرى.

تجلس فى ركنها المعتاد بالسوق، تنظر للمارة وتتساءل ترى من سيبدأ بالشراء اليوم، يمر بعض الوقت ولم يأت أحد، مازال الوقت مبكرا ومن المؤكد أن زبائنها المعتادين سيأتون، قلقت من طول الانتظار، قررت أن تغير مكانها لتجلس بجانب صديقتها بائعة الخضر، هبت فيها قائلة (ابتعدي عنى تريدين أن توقفي حالى كما وقف حالكم)، لم تفهم ما الأمر ولماذا هبت فيها بهذا الشكل، تعود حيث كانت وتنتظر، لاحظت أنه لا يوجد غيرها فى السوق يبيع الطيور والبيض، بدأ الخوف من بوار بضاعتها يتسرب إليها، وجدت إحدى زميلاتها تمر من أمامها، سألنها لماذا لم تعرض بضاعتها اليوم وأين الزبائن، هل تغير موعد السوق وهى لا تدرى، فاجأتها (لقد أضرب الناس عن أكل الدجاج والبيض)، لم تصدق ما قالت اعتقدت أنها مكيدة من البائعات الأخريات ليبعدوا عنها زبائنها ويمنعوها من منافستهن فى السوق.

ينتصف النهار، تتوجه نجو المقهى تاركة القفص مكانه عل أحد الزبائن يأتي فهى لم تعد تخشى عليه من السرقة، تذكرت نفس الوقت من نفس اليوم فى الأسبوع الماضى عندما كانت تشرب الشاى وتتسامر مع صاحبة المقهى وهى تستعد للرحيل بعد بيعها كل ما أحضرته معها من بضاعة، شعرت بازدراء الجميع لها وتجنبهم إياها كأنها وباءا يتحرك بينهم، حتى صبى المقهى الذى لم يتجاوز العاشرة من عمره واعتادت على مداعبته وتقديم الحلوى له، رفض أن يأخذ منها شيئا وفر من أمامها بعد تقديم الشاى لها من بعد، سمعت شخصا يتحدث فى التلفاز عن الطيور، تابعت باهتمام شديد فرأت أمامها مجموعة من الأنيقين ليس على ألسنتهم شيء سوى (اذبحوا، طيروا، ابتعدوا عن كل مريش)، ترى من هؤلاء إنها لم تسمعهم فى الإذاعة أو تراهم فى التلفاز قبل هذه الدقائق المعدودة التى ظهروا فيها، وربما يتقاضون عنها ما يفوق ما تحصل عليه هى فى زمن، بكلمات بسيطة وسهولة وجرأة يحسدوا عليها قطعوا مصدر رزقها الوحيد لأشهر، لكنها لم تيأس بعد، انتظرت حتى فرغ السوق من البائعين والمارة، لابد أن أبناءها عادوا من المدرسة وبدأوا فى القلق عليها فهى لم تعتد أن تتأخر حتى هذا الوقت، لكنها قررت مواصلة المشوار، كان الأمل مازال يداعبها فى أن تجد ما لم تجده فى السوق عند بيوت الزبائن، إلا أن شيئا لم يختلف فقد رفض الجميع أن يأخذ منها شيئا، عرضوا عليها المال دون مقابل لكن كرامتها وكبرياءها أبيا، تأكدت انه لا مفر من العودة.

كلما رأى أحد السائقين القفص والمشنة معها رفض أن تصعد السيارة، اضطرت لتركهما على الرصيف حتى تتمكن من العودة، تحركت السيارة وعينيها تتابعهما حتى اختفيا مع استدارة الطريق، أخذت تفكر فى حالها، كيف ستشترى كتب المدرسة ل (يس) وتدفع ثمن استمارات الامتحان ل(هناء)، وتشترى ملابس المدرسة ل (خديجة)، وتدفع قسط الجاموسة التى اشترتها مؤخرا لتستفيد من لبنها وربما لحمها فيما بعد، كيف ستشترى الأعلاف لها ولفرخاتها، وماذا ستفعل بتلك الدجاجات، وهل ستتمكن من كفاية حاجة البيت خلال الأسبوع المقبل، هل ستعود مرة أخرى للعيش على مساعدات الأخيار والاستدانة منهم، وأخذ الكتب والملابس القديمة لأبنائها من أمهات الأبناء الأكبر، وهل ستتحمل شعور أبناءها بأنهم اقل من أقرانهم، أيعود الزمن بها للخلف مرة أخرى، لم تتمالك نفسها وانفجرت فى البكاء لاحظ الركاب بكاءها وبدأوا فى مواساتها دون أن يعرفوا لماذا تبكى، أشارت لهم بأنها قد هدأت، فتحت نافذة السيارة بعد أن توقفت عن البكاء، قالت فى عقلها (إن من خلقنا لن ينسانا)،نظرت إلى السماء وقالت ربما تتغير الظروف الأسبوع المقبل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى