السبت ٣١ آب (أغسطس) ٢٠١٣
بقلم حسن توفيق

نجيب محفوظ أمام تمثال الشحاذ

ذات صباح من أيام سنة 2003 انطلق نجيب محفوظ- مشيا على الأقدام- ليرى تمثاله الذي قيل له إنه قد تم وضعه في أحد ميادين القاهرة، تكريما له وتقديرا لأدبه. بعد طول تأمل وتمعن، سأل نفسه: أهذا هو أنا يا ترى، أم أن هذا الذي أراه يمثل رجلا بائسا ومسكينا، يتوكأ على عصاه، وقد انحنى ظهره، لكي يستعطف الناس، طالبا منهم أن يعطوه مما أعطاه الله لهم؟! ولم يفكر نجيب محفوظ في إجابة كافية ووافية على سؤاله، بقدر ما أحس أن الفنان الذي نحت تمثاله قد نحته بقدر كبير من التسرع، كأنه موظف روتيني يريد أن ينجز ما تم تكليفه به، لكي يتسنى له أن يقبض مكافأته دون تأخير أو إبطاء. وفي إحدى الأمسيات سأله أحد الأدباء المتحلقين حوله عما إذا كان قد رأى تمثاله، وعن رأيه فيه إن كان رآه، فما كان من نجيب محفوظ إلا أن أطلق ضحكة مجلجلة، وهو يقول لمن سأله ولمن حوله: يبدو أن الفنان الذي قام بنحت تمثالي لم يقرأ لي من أعمالي غير رواية واحدة، هي رواية الشحاذ!
لم يكن نجيب محفوظ هو وحده الذي أقيم له تمثال، ففي إطار مشروع لم يكتمل لتجميل بعض ميادين القاهرة، تم وضع تماثيل لكل من طه حسين وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، كما تم وضع تمثال للفريق الشهيد عبد المنعم رياض، وأتذكر أن مجلة وجهات نظر قد استكتبت- في عدد أغسطس2003- كلا من رجاء النقاش وأحمد فؤاد سليم لإبداء الرأي فيما تم، فأبدى رجاء النقاش تحمسه الفائق لمشروع التجميل، بينما أكد أحمد فؤاد سليم- وهو فنان تشكيلي- أن تلك التماثيل التي نصبت أخيرا ما هي إلا نكبة ثقيلة لفن النحت، ولا بد من محاسبة الذين ارتكبوا تلك النكبة!

سبع سنوات تنقضي الآن على رحيل نجيب محفوظ عن عالمنا يوم 30 أغسطس سنة 2006 وفي هذه الأجواء قررت أن أستعيد هذا الكاتب المصري- العربي- العالمي بطريقتي الخاصة في استعادة الأدباء العمالقة الذين أحبهم، وهكذا انطلقت- متحمسا ومستمتعا- لإعادة قراءة رواياته ميرامار التي أبدعها سنة 1967 وثرثرة فوق النيل التي أبدعها سنة1966والشحاذ التي أبدعها سنة1965 ومع استكمال إعادة قراءة تلك الروائع زاد يقيني بأن الحياة تكرر ما يطفو على سطحها من شخصيات سلبية أو إيجابية، بصرف النظر عن اختلاف الأسماء والوجوه، فعلى سبيل المثال، رأيت سرحان البحيري- الانتهازي الحقير في ميرامار يتكرر أمامي في أسماء ووجوه كثيرين آخرين، من الانتهازيين الوصوليين الذين يحاولون أن يرتفعوا على ظهر أية موجة يرون أنها أصبحت أكثر ارتفاعا من سواها، حتى لو تطلب الأمر أن يقوموا بإغراق أحبائهم وأصدقائهم، ورأيت أنيس زكي الغائب عن الوعي في ثرثرة فوق النيل يتكرر هو أيضا، ورأيت سمارة بهجت الصحفية الجادة تتكرر كذلك، كما رأيت من يسمون أنفسهم بالنخبة أو الصفوة أو المثقفين وهم يجاهدون لكي تتحقق لهم المتع العابرة، ولكي يقتنصوا ما يستطيعون أن يقتنصوه من مصالح شخصية على حساب الأغلبية المسحوقة التي يزعمون أنهم يعبرون عن آلامها، ويدافعون عن قضاياها، ويناصرون مطالبها الإنسانية المشروعة في حياة كريمة، تتسع للجميع، أما في الشحاذ فقد رأيت عمر حمزاوي- المحامي الشهير الذي فقد اليقين تجاه كل ما كان يؤمن به، فاندفع- بلا تردد- وراء العبث واللاجدوى، وقد تكرر عمر حمزاوي في شخصبات آخرين كثيرين، ممن تغلغل اليأس في أعماقهم، ولم يعد أمامهم إلا أن يهربوا من الحاضر، وأن يزيحوا من أذهانهم فكرة الأمل في الزمن الآتي على جناحي الحرية والعدل.

هكذا استعدت متحمسا ومستمتعا بعض ما أبدعه نجيب محفوظ، كما استعدت نوادره ودعاباته التي لا تنتهي، ومنها ما يتعلق بذلك الفنان الذي نحت تمثاله، حيث اتهمه- من باب الدعابة- بأنه لم يقرأ من رواياته غير رواية الشحاذ، وبعيدا عن دعابات نجيب محفوظ الإنسان، فإن هذا االعملاق الذي انقضت سبع سنوات على رحيله، كان يتعامل مع الحياة ومع إبداعه الأدبي بأقصى قدر من الجدية ومن الإحساس العميق بأمانة الكلمة ومسؤولية الكاتب تجاه مجتمعه الذي ينتمي إليه، وتجاه الإنسان في كل مكان.


مشاركة منتدى

  • مقال متميّز أستاذ حسن، ولكن أتعلم لماذا يبدو التاريخ كما لو أنه يعيد نفسه، ونظلّ نعيد إنتاج نفس الشخصيات بنفس القوة والعنفوان؟ السبب هو أننا لا نقرأ، وأنا أتحدث عن الأغلبية الساحقة في المجتمع العربي، فقد هيمنت متطلبات الحياة على معظم االناس، لدرجة أنه لم يعد لهم من الوقت ما يسمح
    بالإصغاء إلى الأدب، والتعلّم منه. ولكن ما أعجبني حقيقة في مقالك، هو صدقه الذي يتدفّق من بين السطور، في لحظة ساد فيه التزلّف وأخرست كلّ الألسنة.
    لك كلّ المحبة والتقدير
    د.خالد أقلعي/ كاتب مغربي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى