الخميس ٥ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٣
بقلم مادونا عسكر

حصاد الهشيم العربي

لعلّ الحديث عن حصاد لما سُمّي بالرّبيع العربي، ونسمّيه اقتباساً عن المازني "الهشيم العربيّ" مبكر، إلّا أنّه لا بدّ من قراءة واقعيّة وموضوعيّة لما نعيشه اليوم من أحداث على الرّغم من تسارعها وعلى الرّغم من الإحباط المشتّت لعقولنا والمتمكّن من حياتنا على المستويين الرّوحي والنّفسي.

في ظلّ هذه الغوغائيّة والفوضى العارمة الّتي تنعكس في داخلنا اضطراباً وقلقاً، من الأفضل أن نلقي بنظرة نحو المستقبل، نستخلص من خلالها نتائج سنخلص إليها، ونتبيّن ملامح غدٍ قد يكون أشدّ صعوبة من حاضر نحياه. فخطورة الغد تكمن في صراعات الحاضر الّذي يؤثّر عميقاً في إنسانية الإنسان على المستوى الرّوحي والنّفسي كما على مستوى منهجيّة التّفكير وسلوك التّعايش الاجتماعي. إن نتائج الغد مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بأسباب اليوم الّتي هي امتداد لظروف الماضي، وبالتّالي ندور في حلقة مفرغة حول صراعاتنا واختلافاتنا دون أن نعي حقيقة أنّ هذه الصراعات تشبه مستنقعاً عظيماً نغرق أنفسنا فيه، متيحين الفرص لأيّ كان باستباحة حياتنا وأمننا وسلامنا.

 دعوة لوقفة صمت وتأمّل:
في الأزمات والصّعوبات فلنتحلّ بالصّمت. فالصّمت نعمة عظيمة لمن يدرك أهمّيتها وقدرتها على فيض الحكمة ليستنير العقل، وينفتح القلب، فلا نبقى نجادل عبثاً، ونغذّي غرائزنا حتّى تستحكم فينا وتحوّلنا إلى أشخاص يسلكون بردّات فعل غير عقلانيّة.
قوّة الإنسان تكمن في قدرته على الصّمت حتّى يتيح المجال لعقله أن يزن الأمور بحد أدنى من الوعي والإدراك كي ينتقل من سلوك ردّة الفعل إلى التّفكير العميق قبل أيّ تصرّف عشوائيّ. والتّصرّفات العشوائيّة والمرتكزة على ردّات الفعل كثيرة هذه الأيّام وتظهر مدى حقد الإنسان على الإنسان الآخر المختلف عنه، إن فكريّاً أو حزبيّاً أو عقائديّاً أو اجتماعيّاً. والمطالبة بالحرّيّة واحترام الاختلاف تبقى رهينة النّظريّات ما لم تتجسّد عملاً في الواقع، من خلال العيش مع الآخر بكلّ ما يحمل كيانه من اختلاف فكريّ وعقائديّ. بالمقابل ما نشهده اليوم ليس سوى فوضى عارمة، يسمح فيها كلّ واحد لنفسه أن يمتلك الحقيقة والحقّ في تقييم الآخر وانتقاده على حسب ما يتوافق وفكره الشّخصي وليس على حسب حقيقة الآخر الفكريّة.

إنّ دعوة الصّمت هذه ليست موجّهة لمن هم تحت نير القصف العشوائيّ ولا لمن هم يبحثون عن لقمة تسند جوع أطفالهم ولا لمن هم ينازعون منتظرين الموت ولا لمن هم مرتحلون من مكان إلى آخر هاربون من شبح الموت. وإنّما هي موجّهة إلى من هم جالسون في بيوتهم خلف أجهزتهم أو خلف شاشات التّلفزة وإلى الّذين يدّعون الثّقافة، ويدخلون عن وعي أو عن غير وعي، في حوارات مقيتة لا تفيد إلّا في إشعال المزيد من الفتن، بحجّة حرّيّة الرّأي، وبحجّة الدّفاع عن الوطن.

إنّ الأوطان لا تبنى في وسائل التّواصل الاجتماعي، ولا على شاشات التّلفزة، وإن كان بالإمكان تسخيرها لهذا الغرض، وإنّما الأوطان تبنى بثقافة أبنائها وحرص بعضهم على بعض ومحبّتهم بعضهم بعضاً، وتبنى بالحكمة والمعرفة وليس بالجهل والعبوديّة، ولا تخلد الأوطان في الدّفاع عن أشخاص أو قادة بل تخلد في عمل أبنائها وتعبهم ووعيهم أنّ القائد ليس إلّا موظّفاً بخدمة الشّعب. وإنّ من تساور له نفسه أنّه بالإمكان تحديد الحقيقة وتبيانها في هذه الظّروف فهو مخطئ، لأنّ الحقائق لا تتجلّى في الفوضى ولا يمكن تبيانها من خلال ردّات الفعل.

هي دعوة بسيطة لعدم إضاعة الوقت في الأخذ والرّد والجدال غير المفيد وغير البنّاء، والاستفادة من كلّ لحظة لتثقيف الذّات عقليّاً وروحيّاً، حتّى إذا ما انتهى هذا " الرّبيع"، نكون مستعدّين للبناء من جديد ولكن على أسس غير تلك الّتي بنينا عليها وأثبتت فشلها.

 أيّ غد نواجه في ظلّ أحداث اليوم؟
كي نتمكّن من قراءة الغد واجتناب صعوباته الجمّة وانعكاساته على إنسانيّتنا قدر الإمكان، لا بدّ من استعراض الواقع الحالي وتبيان سلبيّاته، وتقييم أنفسنا بصدق حتّى نخلص إلى ثورة حقيقيّة ألا وهي ثورة على الذّات أوّلاً، نتجرّد فيها من كلّ موروثاتنا المعقّدة سياسيّاً، واجتماعيّاً ودينيّاً. وهذه الثّورة على الذّات ستمكّننا من بناء أوطان متحضّرة وإنسانيّة خالية من الصّراعات السّخيفة، ومن النّزاعات الّتي لا تجرّنا إلأ إلى الموت. هي ثورة لا يمكن لأحد أن يستغلّها في سبيل تحقيق المصالح وبثّ الفتن وتحريض الأخ على قتل أخيه وتبرير قتله في سبيل الوطن!.
الواقع الحالي هو الجحيم مفتوح على مصراعيه، يبتلع أمواتاً أحياء لا يمكنهم أن يضعوا أهدافاً ويناضلوا من أجلها. وهذا الجحيم تجسّده عدّة عوامل منها الذّهنيّة القبليّة ووسائل الإعلام والتّحريض المذهبي والدّيني.

 الذّهنيّة القبليّة:
لن يختلف الغد عن الحاضر ما لم نتخلَّ عن الذّهنيّة القبليّة الّتي تساهم في قوقعتنا وانغلاقنا وتحول دوننا والانفتاح على الآخر وتقبّله كما هو ومناقشته إنسانيّاً وحضاريّاً في سبيل العيش معاً بكرامة وسلام. والذّهنيّة القبليّة تشمل فكرنا الدّيني والاجتماعي والسّياسي والتّربوي، لذلك كلّما انغلقنا على ذواتنا غذّينا هذه الذّهنيّة وأورثناها أولادنا الّذين سيتصارعون غداً، وكأنّنا نهيئهم للموت لا للحياة.
من يشهد اليوم موت أهله وأقاربه بأبشع الوسائل، ومن يتعرّض للاغتصاب والتّعذيب والاعتقال لن يتمتّع غداً بصفاء ذهني وروحي وقلب منفتح، وإنّما سينغلق على نفسه أكثر فأكثر وسيبحث عن كيفيّة للانتقام بل سيُستخدم في سبيل ذلك. ودورنا احتضان هؤلاء الأشخاص ومساعدتهم على تخطّي أزماتهم وليس استغلال حالاتهم المأساويّة استغلالاً عاطفيّاً وإعلاميّاً وسياسيّاً.

 وسائل الإعلام:
أقلّ ما يقال اليوم في الوسائل الإعلاميّة بشكل عام، أنّها تعيش عصر انحطاط إنسانيّ، لأنّها تحوّلت من رسالة إلى عنصر أساسيّ في الحروب الدّائرة اليوم. هذه الوسائل الموجّهة سياسيّاً ودينيّاً لتدمير الكيان الإنساني بسلبه القدرة على كيفيّة التّفكير أوّلاً، ثمّ استفزاز عنصريّته وتعصّبه الأعمى واستخدامه كسلعة تُعرض بمنتهى اللّاإنسانيّة بحجّة نقل الواقع كما هو. فلم نعد نرى على الشّاشات إلّا جثثاً مشوّهة ومحروقة لا هدف من رؤيتها إلّا المزيد من قلّة الاحترام للقيمة الإنسانيّة. ولمن يظنّ أنّ هذه الصّور أو المشاهد تثير الرّأي العام فربّما لا يعلم أنّ السّياسات العالميّة لا تثار حفيظتها إلّا بما يتوافق ومصالحها الشّخصيّة وأنّ فكرة الرّأي العام هي أكبر كذبة في العالم. ناهيك عن الوسائل الإعلاميّة المخصّصة للحركات التّكفيريّة التي، بدل أن تكون وسائل لتثقيف النّاس وإرشادهم، باتت امتداداً للحركات المنبثقة من الفكر التّلمودي الأشدّ عنصريّة، والّذي لا يعتبر المختلف عنه إلّا حيواناً خُلق لخدمته. وبهذا النّمط الإعلاميّ المنحطّ والمهين للكرامة الإنسانيّة تزيد وسائل الإعلام من اشتعال الأزمات ومن انحدار المستوى الأخلاقي وتحوّل الإنسان إلى شخص يجترّ الخبر دون التّحقّق منه فينتفض ويثور بشكل عبثيّ، فيخرّب ويدمّر ماديّاً ومعنويّاً. كما أنّها تهيّئ لجيل يحمل في داخله ثقافة العنف والدّمّ. وبما أنّ توجّه الوسائل الإعلامية سياسيّ ودينيّ، فهي ليست مستقلّة بذاتها وإنّما تابعة لجهات سياسيّة ودينيّة تديرها وتدعمها وبالتّالي تفقد هذه الوسائل مصداقيّتها وحرّيّتها ولا تكون محلّ ثقة ولا تنقل الحقيقة وإنّما تشكّلها كما ينبغي أن تكون.

 التّحريض المذهبي والدّيني:
إنّ السّبب الأول والمباشر في تخلّف الشّعوب هو اقتتالهم لأسباب دينيّة وعقائديّة. فيكرّسون وقتهم وطاقتهم العقلية والنّفسيّة لحروب تحول بينهم وبين التّقدّم الإنسانيّ وتشدّهم أبداً إلى الوراء حيث التّاريخ يغذّي خلافاتهم وتعصّبهم.
إنّ التّاريخ لا يكشف لنا كلّ الحقيقة، لأنّ المنتصر يكتب التّاريخ كما يريد، فلو أتيح لهتلر أن يكتب التّاريخ بنفسه لأظهر ذاته قدّيساً ومخلّصاً للعالم. ولمّا كان التّاريخ لا يبيّن إلّا جزءاً من الحقيقة، ولمّا كنّا لا نقرأ تاريخنا إلّا قراءة سطحيّة معتدّين بأمجادٍ قد تكون زائفة، دون البحث عن الحقيقة بشكل جدّي وعلميّ، حيينا معه ومع أحداث ماضية وأشخاص رحلوا عن عالمنا وتقاتلنا من أجلهم. أليس جهلاً أن نتقاتل من أجل أموات؟؟ أليس تخلّفاً ألّا نتعلّم شيئاً من التّاريخ إلّا ما هو مطلوب منّا أن نتعلّمه؟؟
إنّ التّحريض المذهبي والدّيني جزء كبير من الخدعة الكبرى المسمّاة " ربيعاً عربيّاً "، الّتي قادت أهل الوطن الواحد إلى الاقتتال، ممّا يدلّ على عدم أهليّتنا وجهوزيّتنا للحفاظ على أوطاننا وبالتّالي كلّ منّا يبحث عن وطنه الشّخصي في زواريب الدّين والطّائفيّة الضّيّقة. وما يظهر لنا على أنّه صراع مذهبيّ دينيّ ليس سوى حجاب يخفي وراءه السّبب الحقيقيّ الّذي يهدف إليه هذا الصّراع. وهذا التّحريض المقيت الّذي سينتج المزيد من المتعصّبين والمتشدّدين وذوي الإيمان الهشّ والجاهل، والّذي سيغذّي فكرة الاضطهاد سيقودنا لاحقاً إلى حروب أهليّة متتالية حتى يفني بعضنا بعضاً. ولا يخفى على أحد أنّ السّياسات الدّوليّة هي الّتي تدير الرّبيع العربيّ، فتدعم هذا وتعارض ذلك، وفقاً لمصالحها، ولكن ماذا نحن فاعلون؟
لقد بنوا لنا هولوكوستاً جديداً ونفونا فيه فأشعلنا فيه نيران حقدنا وعنصريّتنا الدّينيّة وجهلنا المقدّس وإيماننا الأعمى، وها إنّ رائحة الجثث تفوح منه، دون أن يتكلّفوا ثمن عقاب كبريت واحد، ولا ندري كم من العقود ستبقى منفيّين حتّى يأتي السّلام المرجو.
لا بدّ أنّ السلام آت، ولكنّه سلام تسويات، وسنرضى بأيّة تسوية حقناً للدّماء، وبعد سنين لا بأس بها، سنعود ونتقاتل من جديد، فأرضنا خصبة وعقلنا مغيّب، وروحنا مخدّرة.

 امنحوا المحبّة فرصة:
يقول غاندي: نحن لا نسامح لننسى الماضي وإنّما نسامح لنبني مستقبلاً أفضل. ويقول سماحة السّيّد محمد حسين فضل الله: " أنت حرّ حتّى لو كنت داخل الزّنزانة، لأنّك تملك أن تريد أو لا تريد، تملك أن ترفض أو توافق، تملك أن تقول: لا، وأن تقول: نعم. حرّيّتك هي في حرّيّة عقلك وقلبك وفي حرّيّة إرادتك الّتي تنطلق منها حرية موقفك." وبالتّالي إنّ الحلّ الوحيد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في المستقبل هو أن نقف الآن وقفة ضمير حيّ وسط هذا الآتون المضطرم، ونتطلّع إلى وطن نعدّه لأولادنا. وطن حقيقيّ، يعيش الكلّ فيه بكرامة، نابذين الحقد والمورثات الّتي حملناها والّتي لم تسهم إلّا بانتهاك كرامتنا الإنسانيّة. ولنقرّر اليوم ومعاً أنّنا نريد غداً نصنعه نحن بالمحبّة والجهد وباحترام إنسانيّة الإنسان.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى