الاثنين ٣٠ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٣
بقلم غزالة الزهراء

لحظة ضعف

أعماقك تصدأت بقزعات من الوجع الضاري المستبد، لم تنقع دواخلك بعد برذاذ الاطمئنان مادام ذلك الفراغ المارد يبذر بكل وقاحة في كواليس جسدك أنين الغربة، ومرارة الانفعال.

بالفعل تائهة أنت في منعرجات المجهول، ضائعة في شرايينه حتى الغرق، مشتتة الفكر، مهزوزة الروح، منقبضة المشاعر، تجهلين تماما ما تصنعين في سبيل تلك الغالية الحبيبة، والنادرة الوجود، هي مبعث شرودك، وانتكاساتك، ومعاناتك.

توارت عن ناظريك منذ شهر تخالينه دهرا أصم، في ذلك المساء الأكثر شحوبا كانت تنسحب بخطاها خارج البيت، تقبض بيدها الناعمة على بعض أغراض تخصها، فاجعة الفراق اللدود زلزلتك، وأحدثت فوضى عارمة مربكة في عالمك.

من غير انضباط رحت تنتحبين على أغلى جوهرة أنارت لك معالم الدرب، ومسالك الفرح.
أخيرا، ومن غير شك أيقنت بحدس حواء أن لا أحدا في هذا الكون يستطيع ملء الفراغ الذي طبعته لا إراديا خلفها، وأن لا أحدا يستحيل أن يعتلي عرشها في دقائق.
مهزوم ذلك الذي يحاول.

في هذا البيت الواسع الأرجاء كانت تتنقل بخطوات جريئة هنا وهناك، تؤدي واجبها العائلي بكل نزاهة، وشفافية، وحب، تنهمك في أعمالها البيتية من طبخ، وغسل، وكي، وتنظيف،
تدور كالمكوك دون أن تتأفف من شيء.

هكذا كانت على مدار السنوات يطفح قلبها الكبير بفيض المشاعر، والاحترام، والحب.
إلى أن حل الشؤم اللعين.

كلما انغرست عيناك المعذبتان في تلك الصورة يهيج الشوق بداخلك طوفانا مستترا، ويسيل لسانك يقول: عودي إلي يا أميرتي الغالية، لا تتركيني وحيدة في مهب الريح، عارية من كل دفء.

بفضولك ذاك تطلعت إلى محياها المستدير الذي امتزجت فيه الأنات بالدموع: لا ترحلي، تراجعي عن قرارك هذا، أتوسل إليك ألا تفعلي.

تهادى صوتها الأنثوي الحنون إلى أذنيك تعيسا، منهارا، مرهقا: سأبتعد عنه ليحلو له العيش.
ـــ تريثي قليلا، فكري على مهل، ولا تتسرعي.

تقتربين من النافذة الأرجوانية اللون، تفتحين دفتيها على مصراعيهما، وتمسحين بعينيك الموجعتين ذلك الدرب المترب الذي يقابلك وجها لوجه لعلك ترينها قادمة، مهللة.

سألك والدك وفي مقلتيه يصدح ألم كبير: ماذا تنتظرين؟ أتنتظرين عودة غائب؟
أجبت على الفور: أمي، غاليتي، حبيبتي، بدونها لن يكون لحياتي سحر وطعم.

تهالك على كرسي خشبي متهرئ الجوانب كان قابعا بمحاذاته، تململ كالمصاب، ثم زاغت نظراته الراجفة في اللاشيء.
ـــ اعتذر لها ثانية.
ـــ أنت تعرفين جيدا أنني قدمت لها اعتذاري، ولكنها......
وغاب بين طيات الصمت العميق.
ـــ ولكنها ماذا؟
تأفف وقال: لم تقبل أي اعتذار، لقد خيبت مسعاي.
ـــ اعتذر لها مرارا وتكرارا لعل قلبها العامر بالحب يصفح عنك ويلين.
ـــ لا أظن أن المياه ستعود إلى مجراها الطبيعي بعد الذي حدث.
ـــ من الواجب أن تبتر علاقتك بتلك المرأة التي......
ـــ لقد فعلت، صدقيني، كانت نزوة عابرة ملكت علي مشاعري، لم تكن سوى لحظة ضعف يا ابنتي.
برقت عيناك فرحة وانتصارا، وزغردت الكلمات بين شفتيك: أحبك يا أبي.

انتصب من مقعده، أمسكك من يدك، قال وشعاع الابتسامة يرتسم على شفتيه بوضوح: سأبذل قصارى جهدي لتكون عما قريب بجانبنا، البيت مقبرة مرعبة من دونها.

ها هي الدنيا تزهر في مقلتيك مجددا، وتتوهج كلمعان الذهب، القادم سيكون أجمل لا محالة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى