الأربعاء ١١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٣
بقلم مهند النابلسي

قراءة في كتاب «ثورة المايجي أيشين»

الحل الإبداعي أمام ثورات الربيع العربي!

الخروج من متاهات التخلف إلى آفاق التقدم والحضارة

يقول أدو نيس في بيان 5 حزيران 1967: من أنا؟ هل اعرف نفسي؟ دخل غيري عصر الكهرباء والآلة والإلكترون والذرة، يصلون للقمر ، (ويحاولون الآن اكتشاف المريخ!)، يفتحون صفحات في سفر الحضارة والتكوين الإنساني....ثم يتابع: هل تعلمت الهندسة حقا؟ أم أني أخذت شهادة تزينت بها كالوسام؟

هكذا جرتني كلمات أدو نيس الصريحة والمؤثرة وتداعيات ثورات الربيع العربي لإعادة قراءة كتاب "ثورة المايجي ايشين" (نهضة اليابان) ن ومحاولة فك طلاسمه، وذلك بعد أن أصبح الاقتداء بالنموذج الياباني، أو بالأصح " الحديث عن الاقتداء " هاجسا عربيا متكررا، وخاصة بعد أن خبرنا الفشل الذر يع الذي آلت إليه معظم مشاريع التنمية والنهوض العربية بفعل التواطؤ المشبوه مابين الدكتاتوريات العربية والفساد الكاسح ونوايا الغرب الاستعماري الطامع!

يتحدث هذا الكتاب بموضوعية عن تجربة النهضة اليابانية التي اطلق عليها اسم "المايجي ايشين"، وقد فسرتها الأدبيات اللغوية بالإصلاح المايجي (نسبة للأمبرطور الذي تمت النهضة في عهده)، وحيث يفضل الكثير من المفكرين اليابانيين كلمة الثورة بدلا من الإصلاح. لقد وقعت هذه الثورة الهادئة عام 1868 بعد 215 عاما من العزلة الاختيارية التي هيمن عليها الإقطاع، وكما يقول شارل عيسوي فالإقطاع الياباني نجح بعد أربعة قرون من التمزق والمشاحنات ، في التحول إلى إقطاع مركزي أخذت فيه الإقطاعيات الكبيرة والفعالة تضم تدريجيا الإقطاعيات الصغر منها...بحيث اقتربت اليابان تدريجيا من مشروع واقعي قائم على الأرض للوحدة القومية. هكذا وفي العام 1868 شهدت اليابان تجربة استثنائية: فقد تفجرت الطاقات اليابانية وكانت تلك عملية أشبه بتحطيم زجاج غرفة مضغوطة وإفلات الطاقات من عقالها!

لقد استطاع المصلحون في عهد المايجي وخلال عقدين من الزمان أن يرموا جانبا قرونا من المسلمات، وان يحلوا مكانها أفكارا وتصورات جديدة (فهل نملك نحن الجرأة والإبداع على فعل ذلك؟). لقد تميزت التجربة اليابانية بنجاحها الباهر، دونما حاجة لتمزيق المؤسسات والتقاليد ن وربما هذه هي السمة التي جعلت من اليابان نموذجا رائدا تسعى الدول النامية للاقتداء به، وأنها تعجز دوما عن مجاراته. فمنذ مطلع الخمسينات والعقود تمضي دونما تنمية حقيقية ن فالغرب الساعي لتطبيق تجربته في الدول النامية كان يعرف مسبقا بأنه فاشل لن التنمية يجب أن تنبع من صميم تجارب الشعوب ن حيث تستنبط الأنماط المناسبة لكل مجتمع، ويتم التخلي عن اسلوب التقليد الأعمى والوصفات السحرية الجاهزة.

يعبر هذا الكتاب عن أراء مجموعة كبيرة من الباحثين، ومن الصعب تفسير حيثيات التجربة اليابانية بشكل قاطع ونهائي نظرا لتداخلها وتعقيدها ن ولكن يمكن تلخيص العناصر والمكونات الهامة التي أدت لنجاحها:

* الموقع الجغرافي النائي لليابان الذي وفر لها الحماية ضد الغزو الخارجي والطماع الاستعمارية الغربية، وبالتالي سهل لها بعد الثورة مواصلة سياسة الانعزال النسبي والنمو الهادئ بلا معيقات ومنغصات، وهذا ما نفتقده تماما كعرب حيث جذب النفط والموقع الاستراتيجي الفريد الأطماع الغربية الاستعمارية على مر العقود (وما زال) ناهيك عن الدور التخريبي الهائل الذي تلعبه إسرائيل كمحطة للنفوذ الغربي والصهيوني، وكرأس حربة للعدوان والتوسع والاستيطان!

قيام عملية التحديث بمبادرة ذاتية وباستقلال تام عن أية سلطة خارجية. *
التجانس الديني والثقافي للمجتمع الياباني ، علما بأننا كعرب نملك تجانسا عرقيا و لغويا ودينيا وثقافيا يؤهلنا لنهضة مماثلة.

امتداد سلام شامل في اليابان على مدى 250 عاما قبل قيام المايجي. *
التربية الشعبية والنسبة العالية للمتعلمين (43 بالمائة للرجال و5 بالمائة للنساء ) عند قيام الثورة، وهذا ما نفتقده كعرب مع انتشار ألامية والتخلف!

* القدرة على التكيف مما ساعد على نمو روح صناعية متقدمة وديناميكية تختلف كليا عن الروح الزراعية المتخلفة.

* غياب العامل الديني عن السياسة وضعف النظام الطبقي بالمقارنة مع البلدان الصناعية المتقدمة (مقارنة مع تغول الإسلام السياسي في معظم البلدان العربية ).
ويستطيع أي باحث متنور أن يكتشف البون الشاسع بين عوامل التوحيد والنهضة اليابانية وبين مثيلاتها العربية التي تتلخص في ثلاثة عناصر هي الدين واللغة والتراث وحتى في معظم العادات والتقاليد والممارسات السلوكية الفردية.

بينما نلاحظ أن العرب قد افتقدوا للعناصر الأخرى: حيث سيطر الاستعمار لعقود وأعاقت إسرائيل وما تزال حركة التنمية العربية ن واستنفذت قدرات الامة، وخلقت أجواء من الحرب والتوتر لا تساعد على الاستقرار والتنمية، وللمفارقة فقد كان افتقاد اليابان للثروات الطبيعية عنصرا مساعدا للعزلة اللازمة للنهضة بالإضافة للعزلة الجغرافية. وحيث نرى عكس ذلك تماما عندنا، فالموقع الجغرافي الاستراتيجي للبلاد العربية جعلها بؤرة للأطماع الغربية الاستعمارية بالإضافة للثروة النفطية الهائلة التي تحولت لنقمة بسبب الأطماع وتكالب الشركات النفطية عدا عن الأنانية والقطرية والتعالي وانعدام الحس القومي، وكل ذلك عرض المنطقة لويلات الحروب والغزو، كما إننا يجب أن لا نغفل عن عوامل التفرقة والخلافات الحدودية والنعرات الطائفية والإقليمية، ولانتشار الجهل والامية والافتقاد لحس وذوق تربوي عام، وعدم وجود إستراتيجية مشتركة، بالإضافة للنزعة الدائمة للتناحر والفرقة والخصام، والتي كادت أن تصبح سمة عامة للعمل العربي المشترك (كمثال الدور السياسي المشبوه الذي تقوم به الجامعة العربية والذي يحقق في أحيان كثيرة الأجندات الغربية !).

اعتماد الموسيقى والأدب والفن والطب والمحاسبة والهندسة الغربية
(اطلبوا العلم ولو في الصين!)

*. أن أول من قام بالدراسات الفولكلورية اليابانية كان نفسه عالما متنورا يحترم الفكر العلمي.

*. يؤكد مفهوم "الأيشين" على ضرورة طلب العلم والمعرفة من كل أنحاء العالم (اطلبوا العلم ولو في الصين!).

*. يتصف المجتمع الياباني بالقدرة على التسامح وتفادي المواجهات مما سهل القدرة على إلغاء نظام الطبقات.

*. إقامة نظام تربوي شامل لتدريب المواهب على استخدام احدث منجزات العصر.

*. الدمج المنتظم للمعرفة العلمية والتكنولوجية كأدوات علمية لرفع مستوى فعالية نظم الاتصالات وتوزيع السلع.

*. تشجيع الاستكشافات العلمية للحقائق الجيوفيزيائية خارج الجزر اليابانية ورسم خطوط إستراتيجية دفاعية لمواجهة الغرب.

*. يعترف المفكر "يوشيدا شونين" أن مدفعية البرابرة وفنهم في بناء السفن ومعرفتهم للطب والعلوم الفيزيائية هي مصدر فائدة لليابان ويجب تقليدهم في هذه المجالات.
*. تم اعتماد الموسيقى والدب والمحاسبة الغربية، كما تم تأسيس المصارف والمصانع وقد انجزت هذه الأهداف بسرعة قياسية، بجانب تأسيس جيش حديث ووضع دستور وإقامة نظام سياسي متطور.

زعماء بمواهب خارقة وكتاب استثنائيين!

ولعل أكثر الأمور إثارة للدهشة في ثورة المايجي زعماؤها أنفسهم، فقد كان عددهم يقل عن الخمسين ويتمتع معظمهم بمواهب خارقة ، وكانوا يملكون قدرة مدهشة على التعبير عن أفكارهم ن وكان معظمهم كتابا استثنائيين! إذن لنعقد مقارنة "غير عادلة " هنا مع (معظم ) زعماؤنا البائدين والحاليين من حيث قدرات القيادة والخطابة والكتابة ناهيك عن انعدام المواهب وضحالة القدرات!

لذا فقد واكب الأدب النهضة وحفزها بطريقة مدهشة ، فالأعمال الأدبية كانت تمثل بنية فنية بالغة التنظيم، وتمتاز بطاقتها الهائلة على ممارسة تأثير عاطفي كبير على مشاعر وأراء القراء، وبالتالي إيقاظ قدراتهم الخلاقة وتطوير الذوق العام والحس الجمالي ، وهذا ما نفتقده في عالمنا العربي من حيث الجمود ومحاربة الإبداع والأدب والفن والقراءة ( فالعربي —إحصائيا — لا يقرأ إلا ما معدله صفحة سنويا على أبعد تقدير!).

كذلك فقد تمت دعوة المفكرين للعمل بجدية على تنمية الحس النقدي وعلى تحرير طرق التفكير، وعلى بناء عقلية جديدة متحررة تسمح بنظرة موضوعية لكافة شؤون السياسة والحياة والمجتمع والبيئة، وهذا ما نفتقده في معظم الأحيان حيث تسعى النخبة المفكرة في معظمها لإظهار وتلميع قدراتها وللتزلف والنفاق سعيا للمكاسب الأنانية النرجسية، ولنأخذ مثالا من بعض المفكرين والمثقفين العرب المقيمين في الغرب اللذين يسعون جاهدين لإعادة استعمار بلدانهم بثمن بخس طلبا للشهرة وللجلوس على كراسي الحكم الجديدة والغريب أنهم يتفقون في هذه النقطة فقط مع اختلاف أيدلوجياتهم (اليسارية أو الليبرالية أو العلمانية أو الدينية)، كذلك فلا مانع لديهم من إقامة علاقات سلمية مع إسرائيل لضمان مراكزهم وإقناع الغرب بهم!

البعثات الدراسية ومراحل بناء الاستقلال الحقيقي في العام 1860 تم إيفاد بعثة دراسية يابانية إلى الولايات المتحدة مؤلفة من 77 عضوا، وقد وضع أعضاء هذه البعثة تقارير عن مشاهدتهم للحضارة الأمريكية، لنقارن هنا هذا التوجه مع مصير البعثات العربية الكثيرة لأمريكا والغرب ولأصقاع العالم المختلفة ولنقيم مردود هذه البعثات المتواضع حتى إن بعضهم لا يتكرم بكتابة تقرير متواضع لعكس انطباعاته ومشاهداته!

وفي العام 1860 انشئت وزارة الأشغال العامة اليابانية وكان من أهدافها القيام بأبحاث هندسية وتشجيع التصنيع وتأميم المناجم وإدارتها، وصنع السفن وتجهيزها وإصلاحها وكذلك بناء وتشغيل السكك الحديدية والشبكات التلغرافية، وكان الغرب طبعا هو المثال المحتذى في جميع هذه المحاولات، وما زلنا عاجزين بالرغم من أموال النفط الضخمة عن بناء أو حتى إحياء سكة حديد واحدة تربط بعض الدول العربية، ومعظم المشاريع العربية الإستراتيجية الضخمة ما زالت تراوح مكانها لافتقاد النوايا الحسنة والجدية في العمل العربي المشترك.

وعت اليابان بأن العمال العصريين يأخذون فترات طويلة من الزمن ليظهروا! فالعامل الذي يعمل في قطع الأشجار اليوم لا يمكن أن يتحول إلى صانع للسفن غدا، وكذلك المزارع لا يمكن أن يصبح خراطا بين ليلة وضحاها!

كذلك وعت اليابان ومنذ البداية إلى أن الاستقلال التكنولوجي يمر بخمسة مراحل: اكتساب التقنيات العملياتية، تجميع المهارات الميكانيكية ومهارات الصيانة، بناء تقنيات التصليح والتحسينات، القدرة على الإنتاج الكمي وإدارة الأنظمة الجديدة والتصميم، وبلا هذه المراحل المنطقية المضنية لا يمكن توقع الانجاز والاستقلال وبناء الحضارة والمستقبل.

الانصهار في بوتقة وطنية – قومية واحدة!

هكذا نلاحظ ان الانتفاضة السياسية لعام 1868 لم تكن "مفاجئة" ومن دون سابق إنذار، بل كانت محصلة للنمو والتطور المستمر لعدة عقود سابقة، وقد شكلت نواة الثورة الثقافية الكبرى، بالإضافة لكونها اول محاولة ناجحة لثورة شاملة في العصور الحديثة ن فقد واكب الفكر التنويري النهضة في كافة مناحيها بدون استثناء. أما التطور الحقيقي فيكون عادة متجانسا و شاملا: فاليابان مثلا تتقدم على الصعيد العالمي في نسبة العلماء والمهندسين (60 ألف لكل مليون نسمة )، فيما نجد دولة كرواندا مثلا (والتي اقتتل سكانها في حرب اثنيه –عشائرية أزهقت أرواح مليون نسمة على الأقل) هي الأقل نسبة في العالم من حيث عدد العلماء والمهندسين مقارنة بعدد السكان.

لقد شملت الثورة عدة تيارات فكرية-سياسية-اجتماعية وصهرتها في بوتقة قومية واحدة، فهناك تيار يستوحي النماذج الغربية وآخر يمثل العقلانية البيروقراطية، وهناك فكر اجتماعي يساري حديث بجانب فكر اجتماعي يميني حديث، بالإضافة لتيار يمثل الحداثة الأسيوية وآخر يمثل الفكر المعارض للطبقة الدنيا. لنقارن ذلك مع أنماط التكفير والإلغاء والاجتثاث التي نعاني منها كعرب والتي تمثلت في الممارسات القمعية والإجرامية والارهابية والاغتيالات والتي يبدو وكأنها سمة جينية للشخصية العربية لا يمكن الخلاص منها!

هكذا يمكن أن نستقي عبرا ودروسا قيمة من هذه الثورة الثقافية، فهي تعلمنا كيف يمكن لمختلف التيارات والأيديولوجيات والأفكار أن تعمل معا بهدف تحقيق التنمية وبناء الحضارة التي هي هدف الجميع بلا استثناء ويستفيد من ثمارها الجميع، وحيث يكتشف أفراد المجتمع على اختلاف توجهاتهم وأفكارهم متعة العمل البناء المشترك الهادف بعيدا عن ممارسات الحقد والائرة والمصلحة الذاتية.

(الكتاب الذي بين أيدينا هو حصيلة مؤتمر دولي انعقد عام 1983 بهدف تقويم الحدث الهام في تاريخ اليابان وهو تجربتها في التحديث. ويعتبر أحدث مرجع تقويمي لهذه التجربة الفريدة التي تستأثر باهتمام جميع المعنيين بالتنمية خاصة في العالم النامي
وتشكل بحوث الكتاب مجموعة لمختلف نواحي الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتربوية التي تواجه بلداً يسعى إلى النمو، والمصاعب التي واجهها كما قام بتحليلها خبراء ينتمون إلى عقائد سياسية مختلفة.)

دراسات وأبحاث في التجربة الإنمائية اليابانية

الجذور التاريخية والأيديولوجية والحضارية لهذه النهضة

تحرير: ناغاي ميتشيو و ميغال أوروتشيا

ترجمة: نديم عبده وفواز خوري

أشرف على الطبعة العربية: أنطوان بطرس

تقديم: هشام الشرابي

صدر هذا الكتاب بالتعاون بين: مركز بحوث التجربة الإنمائية اليابانية/بيروت
و جامعة الأمم المتحدة/طوكيو

الناشر: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر/بيروت

حجم الكتاب: 345 صفحة من الحجم (أكبر من المتوسط)


مشاركة منتدى

  • مشكور يا استاذ مهند على هذه المراجعة القيمة للتجربة اليابانية ولكنها حركت مواجعي. بعد قراءتها زاد إحباطي. أين نحن من تجربة نبذت الطائفية والعشائرية والطبقية؟ نحن نعود الى الوراء وما كنا نراه عيبا في خمسينات القرن (الطائفية) نجاهر به مفاخرين.

    لقد فقدت ايماني بنهوض هذه الأمة وأنتظر معجزة تعيد هذا الإيمان

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى