السبت ٥ نيسان (أبريل) ٢٠١٤

بين المقاصد والدوافع

المقصد هو ما يسعى الإنسان للوصول إليه وتحقيقه، فهو إذن هدف ومبتغى لم يتحقق بعد، ويسعى الراغب فيه لإيجاده وتحقيقه. إنه إنجاز خارجي تسعى الذات لبلوغه والوصول إليه.
أما الدافع فهو الحافز والسبب الباعث على فعل الشيء. قالوا في المعجم الوسيط: «دفع فلانا إلى كذا: اضطره» و«اضطره إليه أحوجه وألجأه. وفي التنزيل العزيز (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه)». وقد جاء في تفسير الآية: «أي فمن ألجأته الضرورة إلى أكل شيء من المحرمات بشرط ألا يكون ساعيا في فساد، ولا متجاوزا مقدار الحاجة، فلا عقوبة عليه في الأكل»[1] لأنه لم يأكل المحرم مختارا، بل أكله لوجود حاجة ماسة أو دافع قوي دفعه لذلك. وفسر ابن كثير قوله تعالى (فمن اضطر) بقوله: «أي أكره على ذلك بغير اختياره»[2]، و"الإكراه على الشيء" بغير اختيار معناه وجود سبب قوي يُلجئ الشخصَ ويدفعه لارتكاب ما لا يريد.

ويُستفاد من ذلك كله أن الدافع هو السبب الباعث على فعل الشيء. وإذا كان الشرح المتقدم قد سار في اتجاه السبب الذي يجعل المرء يفعل ما لا يريد من المحرمات (وذاك ما يستنتج من تفسير الآية المذكورة)، فإن للكلمة مسيرا آخر تنفتح من خلاله على غير المكروه من القول والفعل. ولذلك تتردد على ألسنتنا عبارات من قبيل "دفعني لزيارة هذه المدينة حبي لها وسكانها الطيبون" و"دفعني لكتابة هذا البحث حبي لمدينة القصر الكبير". فهذان المثالان ورد فيهما الفعل "دفع" للدلالة على السبب المحرك لفعل ما تهواه النفس وترضاه.

تأسيسا على ذلك فإن الدافع هو الحاجة أو الرغبة الكامنة في النفس والتي تحرك صاحبها وتدفعه. ويظهر عند أول وهلة أن هذا التعريف للدافع يقف به على الضفة المناقضة لمعنى المقصد؛ ذلك أن الدافع موجود ومتحقق في نفس صاحبه، في حين أن المقصد معدوم يسعى الشخص لإيجاده، فالفرق بينهما –إذن- هو الفرق بين موجود ومعدوم.

غير أن هذا التضاد الظاهري سرعان ما يزول عند إمعان النظر في معنيي اللفظين. ولننطلق في سبيل رفع هذا "التضاد" من قول الشاعر:

إذا هَم ألقى بين عينيه عَزمَهُ ونكب عن ذكر العواقب جانبا

إن هذا البيت، وإن كان يرد عند عبد القاهر الجرجاني في سياق الاستدلال على قوة تأثير "التمثيل بالمشاهدة" مقارنة بـالتعبير المجرد[3] فإن فيه دليلا بينا على تهافت ما قد يبدو من تناقض بين "المقاصد" و"الدوافع".

يصور الشاعر في البيت علو همة من يتحدث عنه فيقول إنه "إذا هَم ألقى بين عينيه عزمه". وفي هذا الشطر وحده جمع الشاعر بين "الدافع" و"المقصد" عندما جعل الموصوف يُحَول ما يهم بفعله – مما يعد حافزا ودافعا نفسيا- إلى عزم مُلقَى نصب عينيه؛ أي إنه أخرج دافع العمل من أعماقه ودواخله وأَحَالَهُ هدفا ومقصدا يتراءى لعينيه ويسعى للوصول إليه. لقد حول الموصوفُ تلكَ الفكرةَ الكامنةَ التي كانت تراود خياله وتستحث نفسه إلى مقصد وَجهَ بصَرَهُ إليه. وفي تحويل هذه الفكرة إلى شيء مُبصَر إشارةٌ إلى وحدة الشيء الذي يستحيل من حال إلى حال في وقت سريع سُرعَةَ الانتقال من الشرط إلى جوابه داخل الشطر الأول من البيت الشعري. وفي استحالة هذا الشيء الواحد من حال إلى حال استحالةٌ له من اسم (دافع) إلى اسم آخر (مقصد)، وتلك طبيعةُ كثير من الأشياء التي تَأخُذُ مع الصيرورة تسمية جديدة لا تُلغي وحدة المُسَمى. ألسنا نسمي المهر حصانا بعد مرور مدة من الزمن؟ والطين حجرا بعد أن يصير صلبا؟ فهل غيرت التسمية جوهر المسمى؟

كذلك الشأن في "الدافع" و"المقصد"؛ فهما تغيير للتسمية لا تلغي وحدة المسمى. وأظن أن ما قد يقع من التباس بين الكلمتين إنما مرجعه لكونهما يجيبان عن سؤال واحد هو "لماذا؟".

فأنت إذا ما سئلت – مثلا- لماذا تزور غرناطة؟ قد تجيب قائلا "لأني أحبها" أو تجيب بالقول "أزورها للسياحة والتجوال بها"..

وعن محاولة الفصل بين هذين الجوابين ينشأ الفصل بين ما يعد دافعا للزيارة وما يعتبر مقصدا لها، فالذين يصرفون انتباههم إلى الجواب الأول سيرون في كلمة "الحب" دافعا نفسيا لفعل الزيارة. أما الذين سيركزون على الجواب الثاني فسيعدون "السياحة والتجوال" مقصدا ومبتغى من فعل الزيارة.

والحقيقة، في تقديري، أن الجوابين لا ينفصلان؛ ذلك أن هذا "الحب" المذكور في الجواب الأول لم ينشأ إلا عن "تجوال" سابق أو محلوم به في مدينة غرناطة، تماما كما أن "التجوال بهذه المدينة" دون غيرها لم ينشأ إلا عن ذاك "الحب" الكامن في أعماق الزائر. فالتعالق مكين بين الجوابين، بل إن كلا منهما يسكن في أعماق الآخر سكنا أصيلا. وإن بروز أحدهما على لسان المجيب عن السؤال هو بروز بالأصالة والنيابة، وليس بروزا ملغيا للآخر الذي يظل موجودا حتى ولو لم ينطق بلفظه.

والواقع أن هذا التناوب على الظهور والبروز أمر معتاد ومألوف، فقد وظف كثير من العلماء لفظي "الدافع" و"المقصد" فأحلوا أحدهما محل الثاني دونما شعور بحرج في هذا الاستبدال. ومن نماذج ذلك هذا المثال المأخوذ من كتاب "فهارس علماء المغرب" للدكتور عبد الله المرابط الترغي – حفظه الله تعالى-، فقد قال عند حديثه عن "رغبة مؤلف الفهرسة في تعليم أولاده وتوجيههم للرواية إن أبا زكرياء السراج النفزي «عبر عن نفس الدافع في مقدمة فهرسته بقوله: "..ولما كان الإسناد بهذه الفضيلة، ذا درجة رفيعة جليلة، ذكرت في هذا الكتاب أسماء شيوخي الذين أُعَول في الرواية عليهم، وأرجع في النقل إليهم، جاعلا المقصد الأول المعتمد إفادة ولدي أبي القاسم محمد أبلغ الله فيه غاية الأمل، ومنحه الحظ الأوفى من صالح القول والعمل"..»[4]. فقد سمى الدكتور عبد الله المرابط الترغي دافعا ما سماه صاحب الفهرسة مقصدا، ثم عاد فسماه غرضا في موضع آخر من كتابه[5]، ولا مشاحة في الاصطلاح.

وعليه فإني أرى أن بين الدافع والمقصد علاقة ترادف كما يتضح من التحليل أعلاه. والله أعلم.

[1] محمد علي الصابوني صفوة التفاسير، دار الفكر، بيروت، د.ت، الجزء01، ص115.

[2] ابن كثير، مختصر تفسير ابن كثير، اختصار وتحقيق محمد علي الصابوني، دار القرآن الكريم بيروت، الطبعة 07،1402ه/1981م، الجزء01، ص151.

[3] محمد مشبال، مقولات بلاغية في تحليل الشعر، مطبعة المعارف الجديدة بالرباط، ط01، 1993م، ص53 -54.

[4] عبد الله المرابط الترغي، فهارس علماء المغرب، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، ط01، 1999م، ص82.

[5] نفسه، ص83.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى