الاثنين ٣ نيسان (أبريل) ٢٠٠٦
بقلم ليلى بورصاص

بعـــــــد الرحـــيل

... رأتهما لأول مرة بعد رحيلها... بديا هرمين... يا الهي كم تغيرا... خط الزمن في وجهيهما خطوطا بارزة... وتبدى في عيونهما حزن.. دفين.. عميق عمق الهوة التي أضحت بينها وبينهما... داهمتها رغبة جامحة في البكاء... كيف استطعت أن أتخلى عنهما؟... بل كيف تمكنت من العيش دونهما؟... كيف استطاعت نفسي وروحي أن تضعهما في كفة ميزان معه؟... هو.. إنه الذي قضى على مستقبلي...هو من جعلني أفكر بلا لب... هو من جعلني أقرر بلا ضمير...

بديا يتحديان الكبر و يكابدان ليستمرا بالعيش... كم اشتاقت لهما... ما هذا الإحساس الذي تحسه الآن... حب لهما؟ لطالما نصحت بأن حب الوالدين لا يعوض... إنه الذي لا يفن ولا يفتر؟.. ذلك الحب الذي يقوى ويكبر مع كل نبضة قلب... مع كل نسمة هواء... مع كل ورقة تنمو... مع كل موجة بحر تخبو... يا إلهي كيف فعلت ما فعلت؟... رأت نفسها في حضنهما طفلة صغيرة... كانا يريان فيها حياتهما... كانت شغل أمها الشاغل... كانت ترمقها بعين مراقبة دائما... تراقب أكلها... إن لم تأكل كثيرا فلأنها مريضة... وتعمل كمجس حراري... تراقب تقلب الأجواء الطبيعية لتختار لها ما يصلح للباس فلا تصاب ببرد ولا زكام... أما والدها فكانت تشعر أنه لا يملك في هذه الدنيا شيئا آخر غيرها... كان يعدها دميته... ألهيته... كان يصطحبها إلى أي مكان وإلى كل مكان... إلى عمله... إلى المقهى... إلى حوانيت الحارة...

التفتت صوب تلك الحوانيت العتيقة... رأت في ذاكرتها تزاحم الناس على لبن عمي مسعود... إنهما لا يزاحمان... لان والدها أوصاه أن يترك لهما نصيبا منه... وفي انتظار أن يخلو المكان من الزبائن كانا يذهبان إما للوقوف على دكان الحاج أحمد ليتفرجا على طريقته الرائعة في صنع الزلابية... كانت تعجب لتلك الخطوط الغريبة التي تصير إلى شيء لذيذ يؤكل... أو يأخذها إلى هناك حيث شجرة اللبلاب الكبيرة... يصنع لها أرجوحة... وتظل تلعب حتى تتعب... أما هو فلا يمل التفرج عليها... ونسمات الهواء تلفح وجنتيها وتلعب بخصل شعرها... أين كل ذلك؟ إنه ذنبها... أرادت التحرر... من تقاليد تراها بالية... زواج دون سابق لقاء بالعريس... هذه بدائية... الإسراع و الاختباء عندما يأت الغريب... واختلاس النظر من خلف الستار... في لحظة رحبت فيها بالفرار... انتشلت نفسها من جذورها... في ليل سرمدي بارد برودة نفذت إلى أعماقها... ولفت قلبها... فأصبح حجرا... استقبلت المجهول... ضاربة بدموع أعز الناس عرض الحائط... أصبحا حبيسا البيت...لا يغادرانه إلا للضرورة الشديدة... لا يريان النور إلا من خلال شق الباب...

مهانة و حزن صبغ وجهيهما... حتى أضحيا في عزلة عن هذا العالم... ماذا جنت بعد كل ذلك؟... لقد فقدت متعة النظر عندما أتاحت لنفسها النظر دون ستار... ولن يرض أي عريس التقدم لطلب يدها... اقتربا منها... إنهما يتعاونان على حمل قفة المؤونة... تدلى الزمن من أخاديد رسمت سنون الغياب... هل تهتك حجاب السنين وترتمي في أحضانهما؟... هل تسجد عند قدميهما وتبللهما بدموع الندم؟... كيف سيستقبلان عودتها بعد أن داستهما بقدم القسوة واللامبالاة؟... هل سيفرحان و ينسيان الماضي؟... هل يسامحانها؟.. هل يرحمان دموعها؟ كيف وهي التي لم ترحم دموعهما؟... استجدت جرأتها... تلك التي أسعفتها في ليلة باردة لتتركهما... استجمعت قوتها... لم يعد بينها وبينهما... سوى بضع خطوات... مرا أمامها كأنهما لم يعرفانها يوما... لا قلب ينبض... ولا دموع تسيل... ولتستمر في الطريق المجهول الذي اختارته يوما...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى