الأحد ٢٠ تموز (يوليو) ٢٠١٤
«دراسات أدبية وإسلامية»
بقلم أبو الخير الناصري

ساهمة في نقد أطروحة علمنة الأدب

قام الدكتور محمد الحافظ الروسي بانتخاب عدد من أبحاثه ودراساته وإصدارها في كتاب سماه «دراسات أدبية وإسلامية» تصدرته مقدمة بقلم الدكتور حسن الوراكلي.

وقد أشار د.الوراكلي في تقديمه للكتاب إلى اندراجه في دائرة المصنفات التي صدرت عن دافع تجميع المتفرق من الدراسات والأبحاث، مستحسنا تجميع ما نشرته «مجلات متخصصة أو دوريات أكاديمية عادة ما تكون دائرة توزيعها ضيقة مما يجد الباحثون، خاصة مع تقادم العهد على نشرها، عسرا في الوصول إليها والإفادة منها»، وشاكرا لعدد من الباحثين إقدامهم على جمع بحوث لهم أو لغيرهم، ممثلا لذلك بصنيع علماء وأدباء كالأساتذة عبد الله كنون، وإبراهيم بن الصديق، وإسماعيل الخطيب، وقطب الريسوني الذين جمعوا نخبا من كتاباتهم في مؤلفات، وكالأستاذين محمد محمود محمد الطناحي والبراء الوراكلي اللذين اهتما بجمع بحوث غيرهما، ملحقا الدكتور محمدا الحافظ الروسي بالفئة التي «تولت بنفسها، كلما توفر لديها قدر من أعمالها العلمية مما حاضرت به في ملتقيات أو نشرت في مجلات، جمعه بين دفتي كتاب».

ومع أن مقدمة د.حسن الوراكلي صنفت ما اشتمل عليه الكتاب من دراسات في ثلاثة محاور هي: المحور البلاغي الأسلوبي، والمحور الأدبي النقدي، والمحور الفكري الدعوي، فإنها لم تغفل الإشارة إلى أن دراساته، وإن اختلفت من حيث القضايا التي تناقشها، قد «اتفقت من حيث مقاصدها».

وتسعى هذه المقالة لبيان واحد من تلك المقاصد مما لم يُصرَّح به في مقدمة الكتاب ولا نُصَّ عليه في أيٍّ من بحوثه ودراساته، مسترشدةً في سبيل الكشف عن هذا المقصد بأسئلة من بينها: هل التسمية «دراسات أدبية وإسلامية» عنوان بسيط لا يتجاوز دائرة وصف مضامين محتويات الكتاب أم إنه عنوان حاملٌ لرسالة؟ وهل المقصد الوحيد من إصدار هذا الكتاب هو تجميع المفرق، مع ما فيه من حفظه وتوسيع دائرة قرائه، أم إن هناك مقصدا خفيا يستفاد من بعض دراسات الكتاب وإن لم يصرح به المؤلف تصريحا؟.

يذهب كاتب هذا المقال إلى أن من مقاصد د.محمد الحافظ الروسي في هذا العمل المساهمة في نقد أطروحة علمنة الأدب.
ويقصد بعلمنة الأدب الدعوة إلى الفصل بينه وبين الدين ومطالبة علماء الدين بعدم التدخل في مناقشة النصوص الأدبية. وهي دعوة تتعالى بها أصوات الكثيرين كلما نُشر نص أو صدر كتاب أدبي يتضمن ما يستفز مشاعر المسلمين أو يهاجم مقدسا من مقدساتهم. وتتخذ هذه الدعوة صيغا تعبيرية شتى من أوضحها قول أحد الشعراء المغاربة: «الأدب لا يُفتي في الدين، لا يُكفّر أحدا. والدين عليه ألا يفتي في الأدب، فهذان خطان متباينان».
تلك هي الأطروحة التي نرى أن «دراسات أدبية وإسلامية» ينخرط في نقدها وبيان تهافتها. ونستدل على هذا الانخراط بالأدلة الثلاثة الآتية.

 أولا: عنوان الكتاب

ليست هذه الصيغة (دراسات أدبية وإسلامية) وصفا لمضامين الدراسات والأبحاث المجموعة بين دفتي الكتاب فحسب، ولكنها عنوان دالٌّ، في تقديري، على موقف المؤلف من الدعوة إلى الفصل بين الأدب والدين؛ فهو بجمعه بين الدراسات الأدبية والإسلامية يشير بحرف الواو الذي لمطلق الجمع والاشتراك إلى أن من طبيعة ما يرغب دعاة علمنة الأدب في فصله الاجتماعُ والاتصالُ كما هو منصوص عليه في هذا العنوان.

وإذا نحن استحضرنا كون العنوان جملة اسمية حُذف مبتدؤها، إذ تقديرها كاملة: (هذه دراسات أدبية وإسلامية)، وأحببنا قراءتها بالنظر إلى المخاطبين بها من منكري الجمع بين الأدب والإسلام، جاز لنا أن نقول: إن عنوان هذا الكتاب ينزل هؤلاء المنكرين منزلة غير المنكرين، فيقدم لهم الخبر عاريا من أدوات التوكيد مع ما هم عليه من إنكار.
وبذلك يفيد العنوان أنه متلوٌّ – فيما سيأتي بعده من دراسات – بأدلة وحجج لو أمعن المنكرون نظرهم فيها لعدلوا عن الإنكار ولعادوا إلى جادة الإقرار بالصلة بين الأدب والإسلام.
 ثانيا: تأصيل الوصل بين الأدب والدين
ينخرط الكتاب، بعد عتبة العنوان، في تأكيد ما بين الأدب والدين من صلة، إسهاما منه في بيان أن العلاقة بين المجالين هي الاتصال لا الانفصال.

ومن أهم ما يكشف هذا الاتصال دراسة من دراسات الكتاب عنوانها «كلمة في التأصيل» خصصها المؤلف للحديث في نظرية الأدب الإسلامي، نبّه فيها على ستة أبواب للتأصيل لهذه النظرية نكتفي في هذا المقال بالإشارة إلى بابين منها هما:
1- القرآن الكريم، وهو «أول أبواب التأصيل ومداخله، واُسُّه وعموده». ولما كان المدخل إلى القرآن الكريم تفسيره فإن «من التفاسير ما يتضمن من المادة الأدبية والنقدية ما يعز وجود مثله في كتب النقد والأدب، مع خصيصة بارزة وهي أن هذه المادة مرتبطة بالنص القرآني، أو صادرة عنه، لذلك فهي مادةٌ الرؤيةُ فيها إسلامية».

2- «كتب الحديث وشروحِه، وكتب غريب الحديث، والكتب التي شرحت حديثا واحدا أو أحاديث بعينها، واقفة على فصاحة الحديث وبلاغته». وهي كتب ذات صلة وثقى بالأدب ونقده؛ لأن من فوائدها «الوقوف على الأصول الإسلامية لبعض المصطلحات النقدية، وذلك كالإقذاع والمعاظلة»، و«الوقوف على بعض النظرات التي لا نجد لها نظيرا في كتب النقد» و«بعض الأبواب النقدية التي لها علاقة بالأغراض الشعرية، أو مفهوم الشعر، أو البيان، والتي تتعرض لها كتب الحديث انطلاقا من نصوص حديثية، أي: انطلاقا من الوحي» و«الوقوف على فصاحة أفصح الخلق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخراج خصائصها وصفاتها وقواعدها، باعتبارها أرفع نموذج يمكن أن يوجد في الأدب الإسلامي بعد كلام الله عز وجل».

إن انطلاق المؤلف في تأصيل نظرية الأدب الإسلامي من القرآن الكريم والحديث الشريف – وأصول أخرى لم نذكرها اختصارا – يستبطن رسالة يمكننا صوغها على النحو الآتي: لما كان مصدرا هذا الدين نصين أدبيين، وكان الحديث الشريف « أرفع نموذج يمكن أن يوجد في الأدب الإسلامي بعد كلام الله عز وجل » فكيف تستقيم الدعوة إلى الفصل بين الأدب والدين في أمة تعتبر نصوصها المؤسسة لدينها قمة في الأدب والبيان؟

وبعبارة ثانية: إن المؤلف إذ يؤصّل نظرية الأدب الإسلامي اعتمادا على القرآن الكريم والحديث النبوي فإنه يبين لدعاة علمنة الأدب ألا سبيل للفصل بين المتصل لدى المسلمين (الأدب والإسلام).
 ثالثا: نقد الفصل بين الدين والأدب

ونقصد به ما تضمنه الكتاب من نقد لنصوص أدبية مثلت نماذج للفصل بين الأدب والقيم الدينية، وتنبيهٍ على خطورة ذاك الفصل.

ومن أبرز ما يجلي هذا النقد دراسة بعنوان «قوانين التخييل الشعري بين الخاص والعام» أفردها المؤلف لسد ثغرتين في بحث «التخييل الشعري عند عامة المناطقة والفلاسفة الأقدمين، وعند أكثر من أخذ بآرائهم من النقاد» تتمثلان في كونهم:
«1- لم يهتموا كثيرا في وضعهم لقوانين التخييل الشعري، باستثناء قلة منهم، بالتركيز على قوانين التخييل عند العرب،
2- ولم يميزوا في التخييل بين ما يناسب خيال البالغ وبين ما يناسب خيال الطفل، لعدم اهتمامهم بما نسميه الآن: أدب الطفل».

ففي هذه الدراسة التي من أهدافها «اكتشاف قوانين التخييل الخاصة بالشعر الموجه للطفل من خلال مطلق قوانين التخييل الشعري» يقف القارئ على تنبيهات عظيمة الفائدة على بعض المخاطر الناتجة عن تلقين الأطفال نصوصا تنفصل من حيث مضامينها عن مضامين القرآن والحديث ورسالتهما، بل وتقدم رسائل متعارضة مع مقاصد الدين في أحيان كثيرة.
ينطلق المؤلف، في محور من محاور هذه الدراسة، من تعريف التخييل عند ابن سينا ليخلص إلى أن قيام الشعر «على الانفعال النفساني أقوى من قيامه على الانفعال الفكري» مؤكدا أن «الغلبة للأول على الثاني في حالة تعارضهما. وهذه مسألة بُروزُها عند عامة الناس أقوى من بروزها عند خاصتهم، وبروزها عند الطفل أقوى من بروزها عند البالغ، وذلك بسبب استقواء الانفعالات النفسانية عند من تضعف عنده المنعة الفكرية».
وبناء على ذلك فإن الطفل يفتقد أمرين: أولهما: التَّنبُّه، ويراد به «تنبه المتلقي إلى مقاصد المخيِّلِ»، وثانيهما: التوحد والاندماج ومعناه «أن لا يكون الانفعال النفساني صادرا عن غير انفعال فكري».

من هنا ندرك أهمية العمل الأدبي وخطورته على الأطفال خاصة، كما ندرك «أهمية الأدب الإسلامي في توفير مادة يتوافق بها وفيها الانفعالان الفكري والنفساني عند الملتزمين بدينهم الحريصين على العمل به، والتمسك بما جاء به».
إن الأهمية البالغة للأدب الإسلامي تكمن في الحفاظ على حالة التوازن النفسي للطفل؛ لأنه «إذا كان الشيءُ المراد تخييله له موافقا لما يعهده ويعرفه ويتعلمه، اطمأنت نفسه، وانقاد له، وإذا كان هذا الشيء مخالفاً لما يعهده ويُعَلَّمُه، انقاد له مع اضطراب وعدم اطمئنان».

إن الطفل لا يفارق إحدى حالتين أمام العمل الأدبي:
 فهو إما منقاد لما يُخيّله له هذا العمل ونفسُه مطمئنة؛ لأن ما يخيله له متسق مع ما يتلقاه من تعاليم الدين. وهذه حالة تقود إلى التوازن النفسي لديه.
 وإما منقاد لما يخيله له النص ونفسُه مضطربةٌ غير مطمئنة؛ لإحساسه بعدم اتساق ما يتلقاه من خلال العمل الأدبي وما يدعوه إليه دينُه. وهذه حالة ينشأ عنها فقدان التوازن النفسي.
ويمكننا تصور خطورة هذا الاختلال النفسي بتصور عدد النصوص المفصولة عن الدين التي يتلقاها الأطفال في مرحلة الطفولة التي ينص كثير من العلماء على أنها المرحلة الحاسمة في تشكيل شخصية الإنسان.
ويمثل المؤلف للأعمال الأدبية التي تخيِّل للمتلقي عكس ما يدعوه إليه الإسلام؛ فتسهم بذلك في ترسيخ حالة التعارض بين الاقتناع والسلوك، بنصوص مختلفة من بينها قصيدة لنزار قباني يقول فيها:
«حين كنا..في الكتاتيب صغارَا
حقنونا...بسخيف القول...ليلا ونهارَا
درَّسونا:

"ركبة المرأة عورهْ..."
"ضحكة المرأة عورهْ..."
"صوتها...
من خلف ثقب الباب – عورهْ"
صوروا الجنس لنا...
غولاً...بأنيابٍ كبيرهْ...
يخنق الأطفالَ...
يقتات العذارى...
خوفونا...من عذاب الله إن نحن عشقنا...
هددونا...بالسكاكين...إذا نحن حلمنا...
فنشأنا كنباتات الصحارى...
نلعق الملح، ونستاف الغبارَا»

يقول المؤلف مستحضرا هذا النص الشعري باعتباره مخيلا للمتلقي صورة مخالفة لما تعلمه من دينه: «..ومثال ذلك أن نعلم الفتاة مثلا أن الحجاب من الشرع، وأنه لا يحق للمسلمة التبرجُ، حتى يحصل لها بذلك اقتناع فكري، ثم تقرأ بعض الأشعار الداعية إلى غير ذلك، فتنفعل لتخيلها فيصادم اقتناعها الفكري انفعالها النفساني، فكأن هذا الانفعال يقبضها عما انبسطت له أولاً، والنفس لا تستطيع أن تكون مرتاحة لاجتماع البسط والقبض في آن واحد، فيكون من ذلك اضطراب، وينشأ عن هذا الاضطراب ضرب من التعارض بين الاقتناع والسلوك» ؛ وبذلك تصير هذه الفتاة من بين أفراد كثيرين داخل المجتمع تتصرف بعكس ما هي مقتنعة به. وذاك وجه من أوجه خطورة هذه الأعمال الأدبية المفصولة عن الدين من حيث ما تخيله للمتلقي، ودورها في تكوين شخصيات غير متوازنة لا يستوي عندها الاقتناع والسلوك.
هذا، ومن الحق أن نقول إن المؤلف كان بعيد النظر وهو يُنَظر لأدب الطفل في هذه الدراسة؛ ذلك أن «النظرية التي لا تنطبق على الصغار، نظريةٌ ليس لها مستقبل لأن الصغار هم المستقبل».

تلكم، إذن، ثلاث حجج تؤكد أن من مقاصد كتاب «دراسات أدبية وإسلامية» نقد أطروحة علمنة الأدب وبيان خطورتها على المتلقي، خاصة إذا كان طفلا يُخاف عليه، وعلى المجتمع من بعده، أن ينشأ على "فصام نكد" بين ما يتلقاه من دينه وما يخيل له بواسطة نصوص أدبية تبينا – في العرض أعلاه – أنها تسهم في ترسيخ هذا الفصام في شخصية الفرد وداخل المجتمع.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى