الأحد ٢٨ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٤
بقلم سعيد مقدم أبو شروق

سهرت لأجلها

وأنت صائم والوقت هجير وبدأ يدنو إلى الأصيل والعطش يحرق قلبك، كم من الماء تتمنى أن تعبئ إلى جوفك؟
وأنت مهاجر إلى ديار الغربة، وطال بك الهجر سنين كثيرة، كم تشتاق إلى رؤية أمك، أبيك، ذويك؟
تصور فرحة يتيم محروم من الأب والأم يعيش عند خالته الفقيرة، يتبرع له غني بملابس العيد وسلة من الألعاب.
هكذا كانت فرحتي عندما أحضر لي أحد زملائي في المدرسة كتابا عربيا قال إنه لخاله وقد اشتراه من الكويت.
أردت أن أخطفه منه قبل أن يناولني إياه فأجذب حروفه مع أنفاسي، ثم ألتهم ما تبقى منها لتمتصها عروقي من ديباجته وحتى نهايته.

كنت مشتاقا إلى كتاب خُطت أحرفه بلغة الضاد ومتعطشا حيث أردت بعد أن استلمته من صديقي أن أعبئ سطوره في الحال إلى جوفي لتبلل عروقي التي جففها ظمأ امتد إلى سنين. ظمأ إلى لغة أحببتها دون أن أعثر على كتاب مطبوع بحروفها مهما التمست هنا وهناك.

كان الكتاب جديدا جميلا رائعا اسمه (أم كلثوم ، بعض خواطرها ومختارات من أغانيها).
سلمه لي بالسر وكأنه يدس في يدي ممنوعا من المحذورات.

همس بأذني وهو يتلفت حوله خوف أن يراه أحد الطلاب فيشي به إلى المدير:
تحضره غدا صباحا، وأياك أن تغيب بحجة أو بأخرى، لن أقبل منك الأعذار.
ثم أوصاني به حتى عجز لسانه: تصفحه بعناية تامة، لا تشرب الماء وأنت تقرأه، ابعد الأطفال عنه ...
فكرت بالهرب من المدرسة كي أوفر الوقت لهذا الكتاب الذي ضممته إلى صدري، وبين الآونة والأخرى أشم عبق حروفه المنضدة بين دفتيه.

ولكني انتظرت وعلى أحر من الجمر حتى رن الجرس. فركضت نحوالبيت حاملا معي حقيبتي وممسكها بقوة.
عندما وصلت إلى البيت كان أذان الظهر قد رفع، صليت، ثم أكلت على عجلة لقيمات، ثم أحضرت دفترًا وبدأت أنقل الكتاب؛ وشرعت من غلافه:

(أم كلثوم، بعض خواطرها ومختارات من أغانيها،

إعداد ثابت الحلبي المحتسب)

ثم انتقلت إلى الصفحة الأولى والثانية والثالثة، ولم أمر على حرف إلا كتبته بدقة وبخط حسن.
واستمريت أكتب حتى أغسق الليل... صليت وتعشيت مسرعا، ثم لم ألبث أن مضيت أخط - دون أن أسكن ساعة- حتى بلج الصبح؛ وعندها كنت قد بلغت كلمة (النهاية).

(فيا ظالمني) مررت تلك الليلة على (الأطلال) و (حياتي عذاب) و(دليلي احتار) وهذه (قصة حبي) لحبيبتي لغة الضاد.
اللغة التي أحببتها منذ صغري ولا ينفك حبها يسري في عروقي حتى سكن قلبي وتسلط.

وهكذا أصبح عندي كتاب مخطوط بلغتي العربية، وقد قرأته أكثر من عشر مرات حتى كدت أن أحفظ جمله وأشعاره.
لا أدري هل استطعت أن أعرب عن حرماني من الكتب العربية آنذاك، أم ينبغي أن أشرح بركان اشتياقي أكثر؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى