الأحد ٢٨ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٤
بقلم فيصل سليم التلاوي

ذاكرة المكان والزمان

(كَرْمول) الذي حيرنا أمره صغارا و لا يزال

عَهْدُنا بذلك الضريحمنذ أيام طفولتنا الأولى، إنه ينتصب عاليامتميزا على ما حولهمن قبور في الطرف الشرقي من مقبرة قريتناالمحاذي للبيادر. وعندما كنا نؤخذ بهيبة الضريح وضخامته، فنسائل بعضنا بعضا:
 قبر من هذا ؟

فيصدمنا الجواب الذي يحيرنا أكثر من السؤال ذاته :

 قبر كَرْمول .

ولا ندري من هو كرمول هذا، إذ لم نسمع عن اسم شخصآخر، أوعائلة في قريتنا تحمل هذا الاسم، فيزيدنا الاسم حيرة، ونظن أن هذا الشخص مقطوع من شجرة، وأنه لا قريب له، ولا أحد يحمل اسمه في قريتنا.
ويظل القبر المهيب الشامخ يبعث الحيرة في نفوسنا، فنتمادى بالسؤال:

 وكيف مات ؟

فلا نحير جوابا سوى همهمات متقطعة،و نتفٍ من القول متضاربة :

 مات مقتولا.

 قتله شخص من قرية أخرى .

 ولم يأخذ أهله بثأره؟

 الله انتقم من القاتل، فقد أصيب بالأمراض والقروح التي أكلت معظم بدنه، حتى أن كامل جسده المتقيح كان ملفوفا بالقطن والشاش يوم وفاته- هكذا روى مـن شاهدوه — يستحقذلك وأكثر، فالقاتل جزاؤه القتل .

وكبرنا قليلا، وصرنا نتهجى الحروف، وقرأنا اسم صاحبالضريح كاملا، فعرفنا أنه ينتمي لعائلة من بلدتنا، وأن كرمولماهو إلا لقب قد التصق به .

وعندما عاودنا سؤال بعضنا بعضا هذه المرة عمن قتله، جاءناالجواب :

 لقد قتله الإنجليز،أعدموه رميا بالرصاص على صخرة الموت في عقبة الباذان شرقي نابلس، بعد أن وشى به جاسوس منالقرية الفلانية، ومن العائلة الفلانية، ودلهم على مكان اختبائه .

وأضاف زميل يكبرنا سنًا ومرحلة دراسية، يبدو أنه قد قرأشيئا عن تاريخ بريطانيا:

 واللقب الحقيقي ليس كرمول كما نلفظه ، بل إنه( كرِيمويل ) اسم الثائر الإنجليزي ، الذي ألغى النظام الملكي في بريطانيا، وأعلن الجمهورية عام ألف وستمئة وثمانية

وأربعين، ويبدو أنه قد لقب بذلك من قبل بعض رفاقه الثوار تشبيها له بالثائر الإنجليزي في محاولة لإغاظة الإنجليز .
 وبعضهم يقول بل لقبه بذلك بعض الضباط الإنجليز، تندرًاوسخرية في تشبيهه بالثائر الإنجليزي الذي انتهى أمره .
كان كرمول هو الشخص الوحيد الذي التحق بالثورة من بينجميع أبناء قريتنا، في سنوات الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، يوم كانت بلادنا فلسطين تخضع للانتداب البريطاني، الذي مهد لقيام الكيان الصهيوني على أرض بلادنا، بينما كان عشرات غيره يعملون جنودا وضباط صف في الجيش الإنجليزي،في وحداته وتشكيلاته المختلفة على مدى سـنواته الإحدى والثلاثين، التي هي طول المدة التي أمضاها الإنجليز محتلين لبلادنا،وحتى بعد مغادرتهم غير مأسوف عليهم عام ألف وتسعمئةوثمانية وأربعين، بعد تسليمهم البلاد لليهود، فقد بقي من أمضى الخدمة العسكرية الكاملة من آبائنا، واســتحق الراتب التقاعدي،يتقاضى راتبه بعد ذلك عشرات السنين: يتسلمه من السفار البريطانية في عمان أو من القنصلية البريطانية في القدس، حتىوفاة آخرهم قبل سنوات معدودة، للدلالة على عدل بريطانيا

العظمى، وزنتها بالقسطاس المستقيم،الذي يخطف الجمل ويبيعه،لكنه يحتفظ لصاحبه بالرسن حتى آخر يوم .
تسمية الوحدات التي خدموا فيها، والتي تواترت إلى أسماعناعبر حكايات جداتنا وأمهاتنا تسميات عجيبة مدهشة.
والدي كان أول أمره متطوعا، حاله حال غيره من أبناء قريتنا، فقد كان اسمهم ( المتطوعين )، بما تحمله كلمة التطوع من طهرٍوقداسةٍ وعملِ خيرٍ دون طمع في أجر، وتذكرك بصدقة التطوع، وصوم التطوع ، وقوله تعالى:- ( فمن تطوع خيرا فهو خير له )، فحتى الأسماء التي أطلقناها لاحقا على الانخراط في سلك الجندية، بعد أن صارت لنا دول وطنية مستقلة، مثل ( الخدمة الوطنية و خدمة العلم والجندي

المكلف )، كل هذه التسميات لا تقترب ولو قليلا في طهرهاو نقائها من كلمة التطوع، فتخيل نفسك متطوعا في الجيش الإنجليزي بملء إرادتك، لا تريد جزاء ولا شكورا، وهو الجيش الذي خطط ونفذ وسلم وطنك لليهود .

لقد تسللت كلمة المتطوع إلى نفوسنا، وانغرست في تراثنا الشعبي، و علقت بذاكرتنا، فأنا لازلت أذكر وأردد أحيانا بعض المقاطع الشجية،مما علق بذاكرتي من (ترنيمات) جدتي وأمي في أيام طفولتي الأولى في سـنوات الخمسينات من القرن الماضي، وحتى بعـد أن انفض المولد وولت بريطانيا وأيامها، وانحل عقد المتطوعين، وأمهاتنا لا زلن يُرنمن :

طاب الحنينِ، حننـــــي لـــي يَمّا
تعودوا ســـــالمينِ
صفي شجر خوخ يا طريق المتطوع
صفي شجر لبلاب يا طريق الغّياب

لقد تطوع آباؤنا، ولكن إلى أين؟ لقد تطوعوا جنودا في جيش بريطانيا العظمى، ليخوضوا حربها العالمية الثانية، فقد قاتل أبيفي معركة العلمين تحت قيادة الماريشال مونتغمري، وساهم في أول هزيمة للألمان في الحرب العالميةالثانية،وأسرغيره من أبناء قريتنا، وما عادوا من أسرهم إلا بعد سنوات من انتهاء الحرب،
وبعد أن يئس ذووهم من عودتهم .

وعندما لقيت والدي مرة في أواسط السبعينات، وحدثته عنسفري برا من ليبيا إلى مصر ومروري بالعلمين،استرسلت ذاكرته وراح يصف لي الأماكن والمعالم التي مررت بها قبل شهور فقط ،فيسألني عن ( برج العرب والضبعة وسيدي براني ) وكل تلك الأماكن التي عسكر بها قبل نيّف وثلاثين عاما من حديثنا ذاك،وكأنه مر بها بالأمس، وأحيانا كان يصف لنا ( عاليه ) في جبل لبنان وبرودة شتائها وغزارة تساقط ثلوجها، وقد عسكر فيها حينامن الدهر، متطوعا لنصرة حكومة فرنسا الحرة الديغولية، ضد حكومة فيشي الموالية للألمان .

وأنا لا ألوم أبي ولا أبناء جيله على ما فعلوا، فقد كان ذلك مبلغهم من العلم، وتلك كانت وسـيلة العيش الوحيدة المتاحة أمامهم، والتي ورثوها عن آبائهم .

ألم يكن جدي وأبناء جيله من قبل جميعا يساقون بالإكراه وليس بالتطوع، قرعة بعد قرعة كل عام من قبل قوات ( الأخذ عسكر )الانكشارية، ليخوضوا معارك السلطان في القرم والبلقان وترعة السويس، وفوق كل أرض وطأتها أقدام العثمانيين .
ولسنا في ذلك بدعا بين الشعوب،فشعب المليون ونصف المليون شهيد في الجزائر، خاض أبناؤه حروب الهند الصينية، وتجرعوا من هـزيمة ( ديان بيان فو ) على يدي الجنرال ( جياب ) أكثر مما تجرع الجنود الفرنسيون .
فقد كان معظم جنود الجيش الفرنسي من الجزائريين والمغاربة والسنغاليين وسائر الأفارقة، وحتى القوات التي حررت فرنسا من الغزو النازي كانت في معظمها من الأفارقة أبناء المستعمرات .

صحيح أنهم أبعدوهم عن الواجهة الأمامية ساعة اقتحام باريس، وقدموا عليهم الفرنسيين والأوروبيين والأمريكيين، حتى لا تظلسُبة في جباه الفرنسيين أن الأفارقة هم من حرر لهم باريس، فيطالبوهم بأن يتركوهم وشأنهم بعد الحرب، ويمنحوهم استقلالهم مقابل هذه التضحيات .

ذلك أمر هين وعادي بمقاييس ذلك الزمان، وكانت تسمياتهتتطورتبعا لتغير المهمات المنوطة بجنوده، فمن (المتطوع) إلى (الزُنارلِحمر ) إلى ( الإضافي ) فيقول الناس :

 فلان خدم في ( الزُنار لِحمر )،وهو فرع من فروع الشرطة،يميزهأهل بلادنا بالحزام الأحمر الذي يطوق منتسبيه ، ثم خدم( إضافي )، دون أن يفطنوا أن هذا الإضافي يعني قــوات الشرطة الإضافية، التي احتاجت بريطانيا لتجنيدها، لقمع ثورة أهل فلسطين احتجاجا على استمرار الهجرة اليهودية، فالقوات الإضافيةالتي كانت أمهاتنا يتباهين بانتساب أزواجهن لها ذات يوم، هي القوات التي جُندت خصيصا للقضاء على الثورة وإخمادها.

ثم تتطور القوات ليصبح اسم بعض وحداتها ( قِوِة لِحدود )، بترقيق القاف وقلبها كافا مع كسرها وكسر الواو بعدها، دون تحديد أية حدود هي المقصودة بذلك.

فقوة الحدود كلمة مجردة، تعني حماية حدود الوطن من أطماع الطامعين وكيد الكائدين.و فيما علمناه لاحقا، أن حدود بلادنا الغربية على طول شاطئ البحر المتوسط، هي التي كانت مستهدفة من قبل أعدائنا المهاجرين اليهود، الذين واصلوا الزحف عبرها كأسراب الجراد طيلة عهد الانتداب البريطاني. لكننا أدركنا لاحقا أن ( قوة لحدود) كان اسمها الكامل ( قوة حدود شرقي الأردن ).فما لنا ولحدود شرقي الأردن يومها؟ ونحن أعجز من أن نحميحدود فلسطين، بل ونخضع لنظام الانتداب والحماية، أليس لشرقي الأردن من يحمي حدودها ؟

فإذا تلك القوة كانت مهمتها حماية حدود فلسطين الطويلة مع شرقي الأردن، من بلدة الحمة بجوار بحيرة طبريا شمالا، وحتى أم الرشراش على شاطئ خليج العقبة جنوبا. وحمايتها ممن ؟حمايتها من مجاهد وهب نفسه للدفاع عن فلسطين ومسجدها

الأقصى، ربما باع أرضه وكل ما يملك، واشترى بها بندقية، وجاءعابرا البراري والفيافي من المغرب أو الجزائر أو اليمن أوالحجاز أو العراق، وربما أبعد من ذلك من الهند أو أندونيسيا أو البوسنة ، جاءباذلا نفسه وما يملك، مجاهدا في سبيل الله ملبيا دعوة الجهاد، لنصرة فلسطين ومسجدها الأقصى وأهلها، فإذا نحــن ( قِوِة لِحدود ) نقف له بالمرصاد لنحول بينه وبين مبتغاه، بصده أو أسره أو قتله.

كل ذلك كان مفهوما ومبررا، ويمكن استيعابه بمقاييس ذلك الزمان ومفاهيمه وسذاجة أهله، لكن ما يضع العقل في الكفهو تكرار تلك الحالة في أزمنة لاحقة ممتدة حتى زماننا،وبمسميات تتجدد كل آن .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى