الخميس ١٦ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٤
بقلم حلمي الزواتي

هكذا تورد الإبل وهكذا ننتصر

كما النارُ تكشفُ خَبَثَ الحديد، كشف العدوان الأخيرعلى غزة خَبَثَ الأعاريب، وأظهر زيفهم أكثر من كل مرة تُمتَحنُ فيها غزة وتخرج منتصرة بدم أطفالها ونسائها وشيوخها. لقد كشفت نارُغزة خَبَثَ أؤلئك الذين إذا لقوا الذين قاوموا قالوا إنا معكم، وإذا خلوا إلى أسيادهم قالوا إنما نحن مستهزئون. كما كشفت أيضا عن أؤلئك الذين اصطفوا مع دولة الاحتلال للتخلص من المقاومة، الظاهرة "النشاز" في المنطقة، أولئك الذين اتخذوا "السلام" خيارا استراتيجيا لهم، فلم يثمر سوى المزيد من الاستيطان والتهويد والقتل.

وبعيدا عن هذا الوجه الكريه، كشفت نار غزة عن وجه صبوح مشرق تجلى فيه الإيثار والتضحية، والوحدة الوطنية، والتلاحم بين الغزيين على اختلاف مشاربهم. ومن أجمل لوحات هذا التلاحم الوطني إطلالة الأب منويل مسلم من نافذة إحدى الفضائيات العربية، في أوج العدوان على غزة، معلنا وحدة الدم والمصير بين جميع فئات الشعب الفلسطيني. لقد ظهر الأب مسلم على تلك الفضائية للتعليق على قصف طائرات الاحتلال لبيت عائلة عيّاد المسيحية في غزة، حيث شطر صاروخ طائرة أف 16 جليلة عيّاد ذات الأعوام الثمانين إلى نصفين، أحدهما بقي تحت ركام المنزل، والآخر شيع إلى المقبرة مع ساق ولدها التي بترها الصاروخ أيضا. أرأيتم لوحة عجيبة كهذه: نصف أم مع ساق ولدها يحملان إلى مثواهما الأخير، ونصف آخر تحت الركام، وولد يصارع الموت في ردهات إحدى مشافي غزة، والتي بقيت تعاني نقصا حادا بالمواد الطبية والاسعافات الأولية بسبب الحصار. نعم، لقد أظهر العدوان الأخير على غزة أن الفلسطيني هو الإنسان الوحيد في العالم الذي يقتل بعبثية كاملة، ويكون من الترف أيضا أن يدفن بأعضائه الكاملة! وجليلة عيّاد، كما وصفها الأب مسلم، سيدة فلسطينية فقيرة، عملت معه سنوات طويلة في مدارس دير اللاتين في غزة، وكانت امرأة طيبة تحب الخير والناس!
وعندما سألت المذيعة الأب مسلم عن فتح كنائس غزة أبوابها في رمضان للمسلمين الغزيين؛ تقدم لهم الفطور والسحور، وتفسح لهم مكانا لأداء الصلاة وقراءة القرآن، وقيام الليل، أجاب:

"افرح إذن أنت تقاوم!
صل إذن أنت تقاوم!
ازرع العدالة إذن أنت تقاوم!
ازرع السلام والمحبة من حولك إذن أنت تقاوم!
اطعم الجائع والفقير، واسق العطشان إذن أنت تقاوم!

كل عام (يا أهل غزة) وأنتم صاعدون إلى التحرير، تحرير أرضكم وإنسانكم".
وأضاف الأب مسلم: "نعم، إذا قصف المسجد، وهدمت البيوت، فليأت المسلمون إلى بيتهم الثاني، إلى الكنيسة. المسجد بيت الله والكنيسة هي بيت الله أيضا. إن هذا التراحم بيننا مسيحيين ومسلمين يعود إلى العهدة العمرية التي كتبها الخليفة عمر بن الخطاب ورعاها المسلمون والمسيحييون الفلسطينييون من بعده على مدى القرون الماضية".

إن هذه الصورة المشرقة التي رسمها الأب مسلم في حديثه المقتضب أثلجت صدور أهلنا في فلسطين وفي الشتات. بلسمت جراحهم، ومسحت على رؤوس أيتامهم، ولطمت وجوه المرجفين والمفسدين وأصحاب العقول السوداء والقلوب المريضة. إن دعوة الأب مسلم مسلمي غزة للصلاة في الكنائس ليست جديدة، بل هي تأصيل لكل ما هو نقي ومشرف في تأريخنا وتراثنا المشترك. ألم يدع صفرونيوس بطريرك القدس الخليفة العادل عمر بن الخطاب إلى الصلاة في كنيسة القيامة، وذلك عندما دخل القدس فاتحأ عام 15هـ/636 م دون إراقة قطرة دم واحدة. ألم يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام الوفود لوفد نصارى نجران، وقوامه ستون راكبا، لأداء صلاة عيد الفصح، بصلبانهم وأمتعهم، في مسجده الشريف، وهو ثاني أقدس بقعة عند المسلمين بعد الحرم المكي والكعبة المشرفة؟ ألم يزل أهلنا في جنوب الأردن يتداولون قصة ذلك المسيحي العجوز الذي طلب من الحبر الأعظم، عندما زار قريتهم في مطلع القرن الماضي، أن يرسل لهم نسخة من الكتاب المقدس. وعندما سأله الحبر الأعظم إن كان بينهم من يحسن القراءة، قال العجوز: نعم، شيخ القرية!

وفي الماضي القريب، عندما رحل الصديق إبراهيم وهاب في مدينة مونتريال، وهو من أهلنا مسيحيي مدينة الرملة المنكوبة، أبّنته، ومشيت في جنازته إلى مثواه الأخير. وما أن انتهت مراسم الجنازة حتى مالت الشمس إلى الغروب، وعندئذ خفت أن أضيّع صلاة العصر إذا أجلتُها لحين عودتي إلى المنزل، فحاولت أن أجد لي مكانا أصلي فيه بعيدا في إحدى زوايا حديقة الكنيسة، فلحظتني الدكتورة دانيال وهاب، وأصرت عليّ أن أصلي في إحدى غرف الكنيسة بعد تجهيزها، فشكرتها وصليت خاشعا مطمئنا. ومما أود أن أضيفه في هذه العجالة، أن إبراهيم وهاب استقر في مدينة بيت جالا بعد النكبة، حيث افتتح مطعما للوجبات السريعة في مركز المدينة قرب مرآب السيارات العام، وكان يبدأ عمله في الخامسة والنصف صباحا مع بداية برامج إذاعة صوت العرب من القاهرة، حيث تفتتح البرامج يوميا بتلاوة من القرآن الكريم لمدة نصف ساعة بصوت الشيخ عبدالباسط عبد الصمد، فيسمعها كل من في الحي من مذياع إبراهيم وهاب، وجلهم مسيحيون. وفي أواخر أيامه تلقى مكالمة هاتفية من شخص ادعى أنه يحمل الاسم نفسه (إبراهيم وهاب) مسلم من فلسطين، فرد عليه ابراهيم قائلا: أنت إبراهيم وهاب وأنا إبراهيم وهاب. أنت مسلم وأنا مسيحي، وكلانا مشرد سُرقت أرضُه وأحلامُه. إنني أدعوك لزيارتي لنتقاسم الطعام والذكريات. ألا تكفينا نكبة واحدة لتجمعنا.

هذه صور مشرقة من الصور الحقيقية لحاضرنا القريب وماضينا البعيد الجميل، سيحملها أبناؤنا وأحفادنا بكل اعتزاز للإنسانية جمعاء حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها. نعم هكذا تورد الإبل وهكذا ننتصر!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى