الجمعة ٥ حزيران (يونيو) ٢٠١٥
بقلم غزالة الزهراء

ملكة الجمال

ترعرعت حليمة في أحضان قرية آمنة مستقرة، مروجها ندية مخضوضرة، وسماؤها المديدة شفافة في شفافية البلور، أحيانا تتجهم عندما يعبث الضباب الداكن بتقاسيم محياها البديع فينهمل الرذاذ متسابقا ليحنو على الثرى حنو الأم على رضيعها، وأحيانا أخرى تتحول تلك القطيرات المنسكبة في سلام إلى مطر عات يغسل كل شيء .

ككل طفلة تتشبث بعالمها القزحي الساحر كانت حليمة أشد ميولا إلى التسلية مع بنات جنسها، تمرح من غير اكتئاب ولا نفاق، وتعكف معهن في تشييد بيوت صغيرة من القش والطين، تضحك بعفوية تامة، وبين الفينة والفينة تناجي دميتها بأعذب الكلمات، ثم تغسلها بسيل جارف من القبلات الرحيمة.

تتسربل حليمة في ثوب الافتخار الزاهي قائلة لهن بصوت يتماوج عزة وعفة ودلالا: هذه هي ملكة الجمال.
امتعضت سلمى من تصريحها المتباهي المستفز، حز في نفسها كمنشار قاطع، اعتبرته إهانة واحتقارا لها وللصغيرات، اختطفت الدمية من يدها بقوة، رمتها على الأرض كما ترمى الزبالة وهي ترغد وتزبد وتخبط الأرض بقدميها الصغيرتين.
ــــ دميتك لم تكن ملكة الجمال قط، بل حثالة رخيصة، أنظري إلى حالها البائس، ماذا تفعلين بشأنها يا ترى؟
شعرت حليمة بلحظة إحباط مريرة رجت أوصالها، وبعثرتها أشلاء مشوهة متطايرة في مهب إعصار مميت.
تأملت دميتها الملقاة على الأرض بإهمال، انتحبت بشدة لا تخطر على بال، أيقنت تماما أنها تعرضت إلى اعتداء جبان من قبل سلمى.
هجمت على عدوتها اللدودة، طرحتها أرضا، واشتبكت الاثنتان في عراك قاس رهيب، ذرات الغبار تتطاير من حولهما، الصغيرات يصفقن بحرارة شديدة، ويهتفن ببراءة ناصعة في آن واحد: عاشت ملكة الجمال، عاشت ملكة الجمال.

تنتصب حليمة أمام المرآة المصقولة، تلقي نظرة فاحصة على نفسها، وتهمس في سرها متسائلة: ألا أفوق بنات حواء إشراقا ونضارة؟ ألا يمكنني أن أكون ملكة الجمال لأستقطب عيون المعجبين والمعجبات؟
لقد أخفقت سلمى في دراستها عدة مرات فاعتصمت بين جدران البيت تنتظر عريسا ليطير بها بعيدا، أما أنا تماديت في غروري واغتباطي بجمالي الآثم هذا، شبان القرية جميعهم لا يحظون مني ولو بالتفاتة طيبة، سأدعهم يتبخرون انتظارا ومعاناة، لن امنح قلبي لأحد منهم حتى ولو لعقوا بألسنتهم كعب حذائي، كيف لهؤلاء الأغبياء أن يحلموا بملكة الجمال مثلي؟

لاحقها أشرف مرارا وفي كل مكان تتواجد فيه، حاول قدر استطاعته التقرب منها ليفتح لها قلبه على مصراعيه لكنها أحبطت محاولته بصدها له ناعتة إياه بالجرثومة القذرة، وبالحشرة الحقيرة.

التحقت حليمة بالجامعة، تفاقم استعلاؤها وغرورها إلى درجة لا يتصورها عقل مخلوق، شاب آخر ينبثق فجأة في دنياها، جذاب ووسيم، لكنه غرير ولعوب، لأول وهلة انبهرت حليمة بحديثه، وانساقت عواطفها نحوه، صار محور سعادتها وهنائها حيث راحت تتسلق بشغف معارج أحلام لذيذة، بيت جميل منسق، وحديقة بهية غناء تشدو في جنباتها عصافير طروبة.

فرت معه تاركة مقاعد الدراسة، ولم تكترث آنذاك بما تحصده من نتائج سلبية مريضة.
ــــ أتظنين أن هذا البيت الذي يجمعنا هو ملك لي؟
ــــ ولمن يكون إذن؟
ــــ صاحبه الحقيقي سيأتي في الأيام القليلة القادمة لاستلامه، مالكه هو أشرف.
صرخت مفزوعة مستغربة: هل تعرفه !؟ إذن كنت تغشني طيلة الوقت، أليس كذلك؟
ــــ ............
ــــ لماذا اختبأت خلف لحاف الصمت دون أن ترد علي؟ واجهني بالحقيقة، ماذا تنتظر أيها الجبان؟
ــــ اخرسي وإلا.........
ثم تابع ليقول: عليك بالرحيل من هذا المكان، لا تعودي هنا ثانية.
تساءلت وهي تجر أذيال هزيمتها من شارع إلى شارع: ما نوع الصلة التي تربطهما ببعض حتى اتفقا على تدميري بحيلتهما الخسيسة البائسة؟
أخيرا انصاعت لواقعها المعيش، واعترفت بأن جمالها هذا لم يكن سوى نقمة عليها إلى يوم الدين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى