الأربعاء ١٠ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٤
في روايته بطعم الجمر أسعد الاسعد

يفتح البوابات على مصاريعها

نبيل الجولاني

كتب أسعد الاسعد عن حلم اجتهد وجاهد كي يغوص فيه بذاكرة ناعمة طالما أرقته.ولكنه رمى أحلامه القديمة في النيل كما كان يفعل المصريون القدماء عندما كانوا يلقون بأجمل العرائس في النيل حماية لانفسهم من فيضانه وغضبه , فرمى أحلامه في النيل خوفا وحماية لعجزه عن تحقيقها.بعدما تبددت وضاعت وذهبت بعيداً كمياه نهر النيل الجارية والتي لا تعود مرة أخرى لان مياه النهر لا تتكرر, وكذلك الفرص والزمن والتاريخ لا تعود الا الى مرحلة الاياب طالما أننا فقدنا الخطاب والصواب وركضنا وراء السراب.

ظل زيد في طريق شروده لا يلوي على شيئ سوى تكنيس واقعة القذر الذي انتهى اليه.حيث كان يأوي الى أُم العيال جالباً لها ما يتصدق به الاخرين كحد أدنى , والحد الادنى يحمل العجز والازمة في طياته.أجل انه تعميق للغياب والتنازل والتيه الذي تعودنا وعودونا عليه بفعل سذاجتنا ومكرهم ودهائهم ومكائدهم المستديمة.وركبنا الحافلة الى كافة المحافل حتى لا نضّيع فرصة الحل هكذا اعتقدنا وهكذا توهمنا...! وكان كل شيئ سراب في سراب.وحينما عَم الخراب أصبحنا نبحث عن راحة البال فقط راحة البال,عن المساحات الخضراء والبيوت الجميلة والمانحين متعددي الجنسيات عبر بوابة كامب ديفد.وبوابات أخرى ضيقة وهابطة .حتى أصبحنا عراة أمام أنفسنا لا نستطيع حمايتنا ولا أحد يحمينا أو يرغب في حمايتنا.
في الواقع كلنا نحب الوطن والحب سواء حب الوطن أو سواه حبا كليا لا يتجزأ, فالذي يحب وطنه يُحب كل مكوناته,والذي لم يمس حسه العصبي حالة حب والذي لا يحب امرأة ويعشقها بالتأكيد لا يحب وطنه وتفرعاته ,فالحب ليس كلاماً بل هو تاريخ وثقافة وانتماء وفكر وممارسة ,منهج وتطبيق,فعل وتفاعل وانفعال ومبدأ وقضية وموقف ينبغي أن نعيش فيه ولأجله ومعه وبه نحيا من أجل أن يحيا الوطن ,لا أن نموت عليه كما يقول المحب لمعشوقته (أموت فيك) بل يجب أن يقول لها أعيشك وأعيش فيك خاصة وأن الحب ليس (أعمى) كما يَدعي الجهلة بل هو مرئي وجَلي وواضح وضوح فهم وروح وثقافة وفكر وعاطفة المحبين لبعضهم البعض.

وفي رأيي , وان كَثُر التكرار في رواية أسعد الاسعد(بطعم الجمر) انما جاء بُرهاناَ لثبات الحدث والذاكرة بان الواقع ما زال كما هو, كما يقول منذ أن شاهدته آخر مرة قبل اثنى عشرَ عاماً أو خمسة عشر عاماً لم يتغير شيئاً في غزة أو في رام الله بقي كل شيئ على حاله سواء الزقاق أو الشارع أو المباني والاماكن بعناوينها أو شجرة الجميز أو شجر الصنوبر أو سلسلة الجدار قرب العريشة , لم يتغير شيئ ولم نتطور أو نُطَوِر شيئ ما زلنا كما كنا لم نبدع في شيئ والذي تغير انه مات من مات وانتشرت وتوسعت المستعمرات.حتى بتنا في حال مزرٍ الى حَد الاحباط والانهيار والانحطاط والشحوب والأُفول ووحشية الواقع الراهن .أجل ان التكرار الذي جاء به الكاتب انما يُضاعف المعنى-ليس استخفافاً بالقارئ-بقدر ما يُضاعف الفجيعة ,الفجيعة التي نعيشها وفي نفس الوقت تعبير عن الفضيحة التي تلفنا لاننا للآن لم نستطع انجاز أي شيئ في سبيل التغيير والتحرير, انه يضعنا عراة أمام أنفسنا وعجزنا أمام التاريخ لاننا ارتكبنا الخطايا والفحشاء والمنكر بحق الوطن بسعينا وراء المفاوضات السقيمة والعدمية .

فاذا كانت الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر...

فان المقاومة أيضاً تنهى عن الفحشاء والمنكر...

ورفض زيد العودة على هذا النحو (اي من خلال اتفاقية أوسلو) هذا الفخ المهين الذي نقل القضية الفلسطينية الى منعطف تاريخي خطير ومدمر آتى وسيأتي وقوض وسيقوض كل شيئ, قوض انجازات الماضي بما حملت من نضال وكفاح ومسيرة طويلة دفعنا فيها كل التضحيات,وقد أنهى أوسلو المستقبل المنشود, وكل ما تبقى لنا من أمن وأمان وآمال لنا في تحقيق ما نصبو اليه وتصبوا اليه الأجيال القادمة باقامة الدولة على كامل التراب الفلسطيني ودحر الاحتلال الرابض على أرضنا وطرده الى حيثُ أتى أو تكون جهنم ويكون الجحيم...

أجل ان أكبر خطرين تعرضنا لهما في التاريخ العربي المعاصر هما كامب ديفيد وأوسلو اللذان فتحا بوابات وطننا العربي وفلسطين للطير من كل جنس.

وكما ان للصورة أو للنص قراءات عديدة أخرى فان القراءة الجيدة للنص تُنتج نصاً جديداً آخر.

وان هذه الرواية (بطعم الجمر) تحمل شكل الرواية القصيرة لجمعها بين خصائص القصة والرواية في المبنى والمعنى، وان حضور المؤلف في نصه يُسعف القارئ على تبيان الجديد الذي جاء في هذا النص.ويُسعف الناقد في محاكاة النص عن طريق الصور المختلفة، سواء كانت صور شعرية أو درامية أو خيالية حالمة أو صور لغوية بلاغية ذهنية جذابة أو مُعبأة بالشعارات والهتافات المهرجانية سواء كانت تظاهرية أو بهلوانية تُعبر عن صور وفكر وموقف المهرج تارة والبهلوان والساذج الهزلي تارة أخرى.

يتساءل زيد كم هو قصير العمر ,قصير الى حد لا يسمح بتحقيق احلامنا ,نغرق في الحلم وحين نصحو ,نكتشف أن الحلم ذاته يُحاصرنا,ولا نملك فكاكاً من أسره. أجل يا زيد ان الحلم لا يتسع ولا يسمح بتحقيق أحلامنا الصغيرة ولا الكبيرة ,أحلامنا الخاصة والعامة الشخصية والوطنية بتحقيق الحرية وبناء كيان لنا وهوية وطنية فكرية وتَقَدُم وازدهار مع أن أحلامنا متداخلة وكل منها ينعكس ويتأثر ببعضه البعض يُؤثر ويتأثر, أغلبها يتعثر ويتعذر ويتغير ويتعرقل ويتبدل ويُهاجم ويُزاحم ويُحجم ويضيع ويتبعثر ويُدمر حتى يصير سراباً وخراباً وضباباً وغياباً.

وما سبب قصر العمر الذي تَحدث عنه زيد والذي أدى الى عدم استطاعته تحقيق أحلامه الا (أوسلو) أو ما دُعي بالسلام هذه الكذبة ...وهي المرة الاولى التي تَحدُث عبر التاريخ أن يُوقع طرفين على كذبة بشكل حقيقي ومتفق عليه - والموقعين يعرفون بانها كذبة سَلفاً ولكن كل واحد منهم في شأن ,أجل انه السلام والاستسلام ,والهش,والمدمر,والمضلل,والموهم والمنهار الى الحضيض ..

ولكن سالم أدرك أن لا جدوى من هذا الذي سموه سلاماً وأدرك أن ما أُخذ بالقوة لا يُسترد الا بالقوة وانه لا صُلح ولا مفاوضات مع اسرائيل ولا اعتراف بها كما قال جمال عبد الناصر قبل 47 عاماً, وانه لا يحرث الارض الا عُجولها وانه لا يفِل الحديد الا الحديد ,وان القوة فقط القوة هي المحرك الأساسي في زمن السلم وفي زمن الحرب وانه لا شيئ يُعادلها الا القوة.

القوة في كل شيئ وفي كل مناحي الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية والدينية والاقتصادية والفكرية والادبية والجمالية ,أليس العالم يُدار الآن من مركز قوة ؟ألم يكن هكذا ودائماً عبر العصور ومنذ الازل..!؟

حينها أدرك زيد أننا ما زلنا في نفق مُظلم وفي حقل من العُليق وأن الصراع قائم ودائم ما دام الكابتن روني ..وطالما بقي سالم..وأدرك أن هذا الصراع سيستمر على هذه الارض بشتى السُبل, وفي سبيل حُبنا للوطن وحرية الانسان والمكان والكيان ستتعاقب عليه الاجيال والآمال جيلاً بعد جيل الى أن يعقبه النصر والتحرير.

هذا وأُؤكد هنا أن لُغة الكاتب أسعد الاسعد في روايته كانت رقيقة بسيطة بساطة فلاح الارض الذي يُمسك بالمداميك يحرثها ويزرعها حبات قمحه وقلبه الذي يقطُرشعراً وغزلاً يغزل بمِغزله نصاً أدبياً متماسكاً متكاملاً مُتفائلاً مُتفاعلاً مُتداخلاً بكل تفاصيل محبوبته التي عَشقها عِشقاً خُرافياً مُفصلاً خارطة جسدها النابض قابضاً على الشيطان حتى لا يتدخل في التفاصيل الخاصة التي تُلوث وتُعهر العشق الحلال الحُر الوفير والسَخِي الكريم.

عندها تَجَرعَ وأَحَس أسعد الاسعد بطعم الجمر وتمنى على رباب أن لا تستعجل الرحيل.

حتى يُكملا حكاياتهما معاً ويقول لها (ليس عندي من أكملها معه...) فتخيلتهُ يُردد:

كم من وقت احتاج للتكلم عنك أيتها الحبيبة..

احتاج لسنوات كي أحكي ما بداخلي....

نبيل الجولاني

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى