الثلاثاء ٢٧ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٥
بقلم مادونا عسكر

محور الأدب- ميخائيل نعيمة

"وما شرف الأديب إلّا أنّه أبداً يشاطر العالم اكتشافاته في عوالم نفسه. حتّى إذا ما وجد آخر بعضاً من نفسه في تلك الاكتشافات، كان في ذلك للأديب أطيب تعزية وأكبر ثواب. إذن فالأدب الّذي هو أدب، ليس إلّا رسولاً بين نفس الكاتب ونفس سواه." (*)
كذا يمنح الأديب اللّبنانيّ "ميخائيل نعيمة" الأدب رتبة الرّسوليّة، إذ إنّ الأديب رسول يشاطر الآخر ما يجول في نفسه من تأمّلات وخواطر ومشاعر. وكلمة رسول تعني اصطلاحاً، الموفد بمهمة عليه تأديتها مكتوبة أو شفهية، كما أنّها تعني في (الشّرع)، من يبلّغ عن الله.
ولا بدّ أنّ "ميخائيل نعيمه" يرفع الأديب إلى هذا المقام لأنّه مؤتمن على الكلمة الّتي يخرجها للنّاس ويبثّها في نفوسهم وعقولهم، ومهمّته طرح بذورها في الذّات الإنسانيّة لتنبت فكراً أصيلاً يرتقي إلى كمال الإنسانيّة. والأديب في إبداعه يؤسّس لفكر متجدّد وخاص يترك من خلاله بصمة في عالم الإبداع والفنّ.
كما يعتبر "نعيمة" الإنسان محور الأدب، فحوله تدور علومه وفلسفته وتجارته وصناعته وفنونه وآدابه. فالإنسان في رحلة بحث عن نفسه في شتّى مراحل حياته وفي كلّ حالة يمرّ بها من حزن أو فرح، انتصار أو انكسار...، كما يضيف أنّه لا قيمة لأيّ عمل إلّا بمقدار ما يدنيه ذاك العمل من معرفة نفسه أو يقصيه عنها. وبالتّالي فإنّ أي عمل يقوم به الإنسان لا بدّ أن يدلّه على ذاته بشكل أو بآخر، ومن هنا أهميّة الأديب والأدب في أن يكون الإنسان محورهما.
الأديب وفي غوصه في جوهر الحياة يتأمّل ذاته أوّلاً من خلال هذا الجوهر، فهو يبحث عن ذاته بالدّرجة الأولى. كما أنّه يضع ذاته في أدبه، فإن كتب رواية جسّد بعضاً من خبرته أو حلمه. وإن نظم شعراً لامس الأنا المستترة في داخله وأظهرها للقارئ، فيوقظ فيه مشاعر لم يكن يدركها من قبل. وإن كتب مقالة فجّر القوى الكامنة في النّفس. وكلّما ارتقى سلّم النّفس وانكشف له سرّها منح الإنسان فرصة أن يدنو من ذاته أكثر ليسافر فيها ويتواصل معها ويتعرّف إليها.
ولمّا كان محور الأدب الإنسان، أغنى فكره وساهم في ترتيبه وصقله، ورفع النّفس من أودية الجهل إلى جبال المعرفة. وتبدأ المعرفة من حسن إيصال الكلمة وذلك باستخدامها بشكل فنّيّ وأخلاقيّ، لترفع القارئ إلى مستوى الإنسانيّة، فتدفعه للتّفكير والتّأمّل. ولا تصيب الكلمة أهدافها بالابتذال وإنّما بالرّقيّ. فلا يجوز الاستخفاف والاستهانة بها، كما لا يجوز طرحها كيفما كان كي لا تقلّل من مستوى من يتلقّفها. فالقارئ أشبه بالأرض يبذر فيها الأديب بذور الكلمة لتطرح أشجار فكر عميق ينير الإنسانيّة.
إنّ حضور الكلمة في حضرة الرّسول أي الأديب، قويّ وفاعل وهو مؤتمن عليها كما هو مؤتمن على الإنسان الّذي يتلقّاها، فإن كان الزّرع طيّباً نتج عنه حصاد غنيّ ووافر. ولا يستحقّ الأديب لقبه ما لم ينحت في صخرة الإنسانيّة تمثالاً ناطقاً وما لم يبدع من خفايا النّفس لوحة تترجم العمق الإنسانيّ، وما لم ينقّب في مناجمها ليفجّر كلّ طاقاتها في سبيل التفاتة إلى "سرّ الأسرار ولغز الألغاز"، على حدّ قول " ميخائيل نعيمة"، ألا وهو الإنسان.


(*) ميخائيل نعيمة، الغربال ط 17. (بيروت: دار نوفل، 2009)، ص 23.
في كتاب الغربال فصل عنوانه "محور الأدب"، وهو مقدمة كتبها نعيمة لكتاب آخر عنوانه "مجموعة الرابطة القلمية"، أي الرابطة التي تأسست في الولايات المتحدة عام 1920، وكان أحد أعمدتها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى