الخميس ٥ شباط (فبراير) ٢٠١٥
بقلم غزالة الزهراء

امرأة فاضلة

فكرت جهيدة في الترفيه عن نفسها بعض الشيء، اصطحبت معها ابنها عزيز وابنتها شهد إلى البحر، راحت تتمشى الهوينا على الشاطئ، توزع نظراتها على صفحته الشديدة الزرقة، تتأمل تلك الأمواج المصطخبة التي تصفع الصخور الناتئة بصورة مثيرة للغاية، شاب وسيم الملامح يفور عزما وقوة، يبدو في العقد الثالث من عمره، أثار اهتمامها حيث انهمك في رسم صورة، اقترب منه ابنها سائلا إياه: ماذا ترسم يا سيدي؟
جذبته من ذراعه قائلة له في نوع من العتاب الرقيق: لا تتدخل في أمور الكبار يا صغيري، أفهمت؟
ـــ أرجوك سيدتي، دعيه يتكلم، طفلك هذا يمثل البراءة الناصعة بمعناها الحقيقي، يمثل الصفاء في أعلى درجاته.
ثم صوب نظره نحو ابنتها وهو يحوطها بعينيه الدافئتين قائلا: وأنت أيتها الصغيرة ما اسمك؟
ـــ شهد.
ـــ اسم جميل جدا، أنت أشد روعة من هذا البحر.
اغتبطت الطفلة اغتباطا شديدا، وصفقت بحرارة.

وعد والدتهما بأن يرسم لهما صورتين شريطة أن يأتيا صباح غد، ويجلسا أمامه حتى يتمكن من رسم ملامحهما بكل دقة ووضوح، اتفقا على الموعد، لا شيء يعرقل حضورهم، علاقته بعزيز وشهد توطدت أكثر فأكثر.
حين أتم إنجاز الصورتين قال بتفاؤل كبير: الآن أشعر بارتياح عميق يغمرني.
وتنفس الصعداء.
هتفت مبتسمة: أنت رسام بارع.
ـــ الرسم يا سيدتي الكريمة فن جميل ورائع، ويكون أروع حين يوليه صاحبه العناية والاهتمام.
وقدم لها الصورتين.
ـــ لساني عاجز عن التعبير، أشكرك كثيرا يا.......
ـــ اسمي نبيل، نبيل يا سيدتي.

لقد نشأ في أسرة متواضعة، يسعى أفرادها إلى التلاحم والوفاق، الرسم هوايته المفضلة التي ليس لها بديل، الكل كانوا يشدون على يده مشجعين إياه، والدته، والده، إخوته، وأساتذته، وكم من مرة شارك في مسابقات عدة، وحصد جوائز.
نصحه والده: لو اغتررت بنفسك فلن تسمو إلى العلا أبدا، ستبقى قزما تشيعك الأعين بنظرة أسف، وستندم على ذلك حيث لا ينفعك الندم، التواضع يا عزيزي سمة من سمات التفوق والنجاح، إذا أراد المرء الوصول إلى الذروة فما عليه إلا أن يحفر في الصخر الأصم.

زفر بحرقة بالغة وقال: حياتنا انقلبت رأسا على عقب، أضحت مملة وسقيمة لا تومئ أبدا بالاستقرار والدفء، تغير والدي جذريا، لم نفهم سر انقلابه المفاجئ، خلافات كثيرة عششت في بيتنا وتناسلت، طعم الحياة أضحى غير مستساغ، عثرنا على رسالة في حوزته تقول صاحبتها: أنا امرأة عفيفة، شديدة الإباء،لا يجدر بي تفكيك أسرتك وتشريدها، لا يمكنني أن أقدم على فعل سيئ كهذا، كنت مخطئا حين طلبتني للارتباط بك، رفضت اقتراحك حتى لا أتسبب في تحطيمك وتحطيم عائلتك على صخرة الواقع. لو وافقتك الرأي فهذه تعتبر أنانية مفرطة مني، لن أكون لك، سأكون لغيرك عندما تأتيني الفرصة المواتية.
لحد الساعة لم نعثر لها على صورة فوتوغرافية، لو كانت متوفرة لاجتهدت في البحث عن هذه المرأة، ولشكرتها على ما فعلته من أجلنا، إنها امرأة فاضلة وعظيمة.
سألته باهتمام أكثر تفاعلا: وماذا كان موقف والدتك إزاء والدك؟
تنهد وقال: لسوء الحظ لم تعد تمنحه كل ثقتها.

بعد شهور عدة يتجدد لقاؤها بنبيل ذلك الرسام البارع، تملكتها لحظات قصيرة من السعادة، طلب منها في إلحاح زيارة المعرض، والتطلع إلى لوحاته، وافقت دون تردد.
جالت ببصرها هنا وهناك متأملة تلك اللوحات الرائعة التي تنطق بالصدق والواقعية، فجأة أحست بيد تمسك كتفها بلطف، استدارت، وسرعان ما أرجفتها المفاجأة.
هتف رؤوف وشوق السنين يغازل صوته: كيف حالك؟ وأين كنت طيلة هذه المدة؟ ودت من أعماقها أن تحكي له عن أشياء كثيرة حدثت في حياتها، وعن زوجها الذي يحبها كثيرا، ولكنها أحجمت عن ذلك،ولم تنبس ببنت شفة.
ـــ حدثيني عن صحتك، وحياتك الشخصية و..........
ماكاد رؤوف يتمم قوله حتى اندمج نبيل معهما قائلا: أظن أن لكما معرفة سابقة ببعضكما.
وجاءه الجواب سريعا:ظنك في محله يا ولدي، هذه المرأة لا ترحب بالسعادة على حساب تعاسة الآخرين.
هز نبيل رأسه قائلا: الآن فهمت، فهمت كل شيء.
انسحبت جهيدة من المعرض وكلها تحد وعزم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى