الجمعة ٢٠ شباط (فبراير) ٢٠١٥

«عرفتهم» حسَن البُحيْريّ

غسان شحرور

لُقّبَ "حسَن البُحَيْريّ" بشاعر حيفا والكرمل، وهو بلاشك من أبرز شعراء الطبيعة في الأدب العربي المعاصر. ينتمي "البُحَيْريّ" إلى جيلٍ من عمالقة الشعر والأدب الفلسطيني. وُلِدَ في عام واحدٍ وعشرين وتسعمائة وألف من التاريخ الميلادي، في شارع الوادي من حي "النسناس" بمدينة حيفا عروس الساحل الفلسطيني، وقد جاءت ولادته بعد سبعة أشهر وعشرين يوما من وفاة والده حسن البحيري، فلم يرث الوليد اسم أبيه فقط، بل ورث الفقر المدقع وضيق الحال.

بدأ الطفل رحلته مع الشقاء والحرمان، وازدادت حياته سوءاً على سوء، فانقطع عن الدراسة عدة مرات باحثاً عن لقمة العيش ورغيف الخبز، وما أن اجتاز الصف الرابع الابتدائي حتى انقطع عن دراسته نهائياً، والتحق، وهو فتى يانع، بالعمل كعامل تنظيفات بمحطة السكة الحديد في حيفا.

قال "البُحَيْريّ" أن حياته كانت تعجُّ بالعمل والنشاط، فما أن يعود من عمله حتى يذهب إلى مواقع مختلفة من جبل الكرمل.. في سفوحه، وأوديته، وتحت ظلال أشجاره. كان في كل مرة يصطحب معه ما يستطيع الوصول إليه من كتب ثقافية متنوعة، ودفعه نهمُه الشديد للقراءة والمطالعة إلى التجول في صفحات التاريخ والآداب الجاهلية والإسلامية والمعاصرة، بل لقد امتدت قراءاتُه واهتماماتُه إلى الآداب الأجنبية؛ فنهل منها ما استطاع إليها سبيلا.

وهكذا استقى "البُحَيْريّ" من مدرسة الحياة، وتفتحت مداركُه الإنسانية والاجتماعية والثقافية في أحضان الطبيعة الخلابة؛ بين مرابع جبل الكرمل وشواطئ حيفا، وبساتينها، وشاهد بأُمِّ عينه الاحتلال الإنكليزي يكبّلُ وطنَه وشعبه، وموجات الاستيطان الصهيوني تجتاح أرضَه وتشرده إلى سورية بعيداً عن بيته وعمله ومجتمعه.

من أعماله الشعرية في حيفا: (الأصائل والأسحار)، في عام 1943، و(أفراح الربيع)، في عام1944، و(ابتسام الضحى) في عام 1946، وفي دمشق: (حيفا في سواد العيون)، في عام 1973، و(لفلسطين أغني)، في عام 1979، و(ظلال الجمال) ، في عام 1981، و(الأنهر الظمأى)، في عام 1982، و (تبارك الرحمن)، في عام 1983، و(جنة الورد) في عام 1989، و(رسالة في عيد) في عام 1990، و(لعيني بلادي) في 1991، و(سأرجع) في عام 1994، و(ألوان) في عام 1995، و(دعابة بين الجد والهزل)، في عام 1996، و(خمرة الشعر ..قصائد ومقدمات)، في عام 1997، وغيرها.

وترجم عن الإنجليزية (أوسكار وايلد..الأمير السعيد وأقاصيص أخرى)، طبع في دمشق عام 1953، ومختارات من القصص العالمية، بالإضافة إلى رواية (رجاء).

كتب عنه الكثيرون لاسيما طلاب الدراسات الجامعية في عدة دول عربية، بالإضافة إلى عدد من الكتاب والأدباء، لكن أول وأبرز ماكتب عنه كان (مدينة وشاعر: حيفا والبحيري)، للشاعر الكبير هارون هاشم رشيد، في عام 1975، ذلك الكتاب الموسوعي الذي أسهم وإلى حد كبير في التعريف بحياة وأعمال "البُحَيْريّ" على نطاق واسع.

عاودته طبيباً في عام 1989، بعد مروره بأزمة صحية قاسية، وخروجه من الاعتقال للتحقيق معه، وخلال تلك الفترة، كنت أشرف على ندوة جماهيرية للتوعية بحاجات وحقوق الأشخاص المعوقين الفلسطينيين في دمشق، فوجدت في دعوته للمشاركة ببعض قصائده مناسبة لخروجه من أزماته والتواصل مع جمهوره العريض، خاصة بعد انقطاعه عن ذلك لفترة طويلة، سرعان ما لبى دعوتي، وقدم في الندوة مختارات من قصائده التي تتغنى بحبيبتيه حيفا وفلسطين، فأضاف بعداً وطنياً لتلك الندوة الإنسانية الحقوقية الاجتماعية.

بعد ذلك، لم تنقطع الزيارات بيننا، واقتربت خلالها أكثر من "البُحَيْريّ" الإنسان، فقد أثار اهتمامي وإعجابي قدرته على تحدى الظروف القاسية الحالكة التي مر بها في مدينته حيفا، مروراً إلى حياة الشتات. نعم، أسأل نفسي، كيف استطاع هذا الإنسان رغم جحافل مصائب الدهر أن يواجه بمفرده حالة اليتم والفقر المدقع، والحرمان من الأسرة والتعليم، مروراً إلى كارثة الاقتلاع من بيته ومدينته ووطنه، انطلاقاً إلى عالم اللجوء والتشرد، والعيش وحيداً، دون شريكة حياة وأسرة تقف إلى جانبه في مسيرة حياته الشاقة. كيف استطاع في ظل هذه الظروف أن يشق طريقه في الحياة، ويعمل وينتج بجد وإخلاص ويثير إعجاب وتقدير كل من حوله، فإلى جانب عمله في إذاعة دمشق، كان يعمل في تدريس اللغة العربية في المعاهد الخاصة، وبفضل تعلمه وتحصيله الذاتي وتطوير معارفه بنفسه، أخذ العديد من الكتاب والأدباء يستعينون به في كتاباتهم وأطروحاتهم.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل استمر في كتابة قصائده الوطنية والإنسانية، معبراً وبقوة عن شوقه وحنينه، لوطنه وأرضه وكرمله ومدينته، وعن ألمه وحزنه لفراقهم، وعن أمله وعزمه للعودة إليهم مهما طال الزمن.

بادر المركز الثقافي العربي بالمعضمية قرب مدينة دمشق، وبالتعاون مع اتحاد الكتاب العرب إلى الإعداد لإقامة حفل تكريم للشاعر "حسَن البُحَيريّ"، يكون بمثابة تحية تقدير واعتزاز وعرفان للإسهامات الكبيرة والجليلة التي قدّمها هذا الرجل لشعبِه ووطنه وأمته في رحلة العطاء والإبداع على امتداد أكثر من نصف قرن. لقد كان من المقرّر أن يشارك في هذا الحفل نخبةٌ من الشعراء والكتاب، يقدّمُ كلٌّ منهم مختارات من روائع شعرِه، وقد استعد الأستاذ "حَسَن" لهذه المناسبة، وأخذ يلتقي مع منظّمي الحفل، وأعدَّ كلمة يلقيها في الحفل المذكور، زودني بها خلال زيارته الأخيرة لي، لكنه رحل قبل أيام معدودات من موعده (الأحد 25 تشرين أول أكتوبر 1998 الموافق 5 رجب 1419هـ)، وبقيت كلمته الأخيرة كما بقيَ إرثه حياً على مرِّ السنين.

دعاني منظمو الحفل إلى إلقاء هذه الكلمة، نيابة عنه، في الندوة التأبينية بمعضمية دمشق في 5 –12–1998 بالتعاون مع اتحاد الكتاب العرب في سورية، وتحدث فيها عددٌ من الأدباء والكتاب، أذكر منهم: الأستاذ نصر الدين البحرة، الأستاذ محمد قرانية، الدكتور يوسف البجيرمي، الأستاذ خليل خلايلي، الدكتور عزت السيد أحمد، الشاعر خالد أبو خالد، الأستاذ حسن حميد، الأستاذ مهند الشعبي وغيرهم.

جاء في كلمته التي ألقيتها: أشكر الأساتذة النبهاء الذين تكرّموا بكلماتهم التي تنبض بالحب والأخوة، والذين أحبوا أن يتموا جميلهم بأن تولّوا عني إلقاء ما اختاروه من شعري رأفة بهذا القلب الذي أصابه ما أصابه مما أعسر عليه النطق السليم بغير تلعثم، ودون تعثّر.. والله تعالى، وهو عالم الغيب والشهادة، يعلم كيف أصابت الجُزعة دم دماغي فتخثّر.. فأُنسيتُ كلَّ من أعرفه، وأُنسيتُ كلَّ ما أعرفه.. وبفضلٍ منه تعالى وإكرام عادت إليّ طبائع الأمور شيئا فشيئا إلى أن استقرت الحال بي إلى ما أحمده عليه وأشكره..

لَقد كنتَ يا قَلْبي على كُلِّ شِدَّةٍ
كأنَّ الحديدَ الصُلبَ في الصدْرِ كَوَّنكْ
فَكَمْ دَهِمَتكَ الحادثاتُ بِعُسرِها
فلمْ تَــهِ فـي عُـسْرٍ ولا الكــرْبُ ليَّنـكْ
ولكنَّ جُرحا في "القيامةِ" نازفا
وفي المسجِدِ الأقصى دَهاكَ فأوهنكْ

خلال السنوات القليلة التالية، ظلت تجربة "البُحَيْريّ" لاسيما الإنسانية تراودني ، فقمت رغم أنني مجرد هاو لبعض الأدب بإعداد كتاب صغير عنه سميته "قصة مدينتين في حياة البحيري"، شرفني فيه الأستاذ الدكتور "عبد الكريم اليافي" بكتابة المقدمة، حتى يتعرف إليه الناس على امتداد الوطن الكبير.

غسان شحرور

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى