الاثنين ٢٣ شباط (فبراير) ٢٠١٥
بقلم غزالة الزهراء

لعنة الخيانة

في الآونة الأخيرة أهمل فاروق أفراد أسرته إهمالا كاملا، لم يعد يعبأ بمصالحهم كالسابق، صار شحيحا في التحدث إليهم، والإنفاق عليهم، سعادتهما الزوجية بدأت تتآكل بالتدريج، وتفقد لذتها السحرية الباهرة، هوة سحيقة حفرها الزمن العربيد بمخالبه بينهما، ألوان الحياة المتألقة استحالت إلى غربان سود ناعقة، شيء خفي غامض كالطلاسم يبعث على الملل، والركود، والنفور.

تدور ندى في عالم ضبابي خطير، أصواته المزعجة تلف دماغها لفا، تسقط في توهان غريب، تدور في حلقته المفرغة المريبة دون الوصول إلى مرفأ أمان تستكين فيه.

ينفرد فاروق في غرفته وحيدا منعزلا، متكمشا على نفسه، يعب دخان سجائره بشراهة غير معهودة، تدنو منه زوجته ندى مستلة إياه من جحيم تفكيره: عزيزي ما بك؟ ماذا حدث؟
يرمقها بنظرات يقطنها قلق سرمدي معتوه، ويرد بجملة ناقصة مبتورة، مثلوجة كالصقيع: لا شيء بي، لا شيء.
تتكمش في كواليس الصمت الأشد وعورة ورياح الخيبة تلكمها من كل جهة، تتهاوى في شواطئ الشكوك مغموسة من رأسها إلى أخمص قدميها، تتناوشها الحيرة في الأوج: هل ثمة امرأة لاحت كالبدر في أفق حياته، وطغت على تفكيره ومشاعره فاستحال إلى مقبرة صامتة مرعبة؟
ربتت على كتفه بهدوء وعيناها تنضحان بقلق كبير، سألته قصد اجتثاثه من دائرة التخمين التي ابتلعته: هل بإمكانك الإفصاح عما يبلبل تفكيرك، ويكدر فضاء حياتك؟
ـــ لا تكوني لحوحة بهذا الشكل.
وأشاح بوجهه عنها متهربا من أسئلتها الحرجة خوفا من أن يسقط عنه قناعه الكاذب.
تشابكت التساؤلات المحمومة في رأسها كألغاز دفينة، تماوجت، وتدافعت كالملأ، توشك ندى على الهروب من عالمها هذا الذي صار بمثابة الطيلسان.
التحمل فاق الحدود والتصورات، الصبر نفذ، وعندما تردت حالتها نحو الأسوأ ثارت في وجهه دون وعي: لماذا تعاقبني بصمتك هذا؟ أو تريد الانتقام مني وبأبشع طريقة؟
ـــ رجاء، لا أبغي أحدا يكلمني.
ـــ أمرك غريب حقا.
شيعها بنظرات مهزوزة غضوبة، وخرج.
تغيب عن البيت ثلاثة أيام متتالية.

جاءها صوت ناعم عبر أسلاك الهاتف موضحا: أنا فاعلة خير، إصغي إلي أيتها السيدة الكريمة، زوجك فاروق يلهث وراء واحدة من المستهترات العابثات، لا دين لها ولا حياء، حاولي إقناعه بألا يتشبث بوهم زائف سيدمره في النهاية، هذه المرأة خربت بيوتا عدة، وشردت أطفالا أبرياء، هدفها الوحيد الاستيلاء على أزواج غيرها.
وأقفلت الخط.
جن جنونها وهي تتلقى هذه المكالمة الجريئة، هل زوجها يمارس ضدها لعبة خيانة قذرة، ويطعنها عمدا في كرامتها وكبريائها؟ الواقع المرير يعلن هذا، وفاعلة خير تعترف علنا، قلبها الوفي ينشج تحت وطأة الوجع والمنفى، تتزايد ضرباته كهزات ارتدادية، تشعر أنها على حافة الانهيار الكلي، الأشياء الجميلة تفقد ماهيتها، تنزلق تحت رموش عينيها بسرعة فائقة، السقف يتهاوى، الجدران تتصدع وتنهار، تغيم الرؤية أمامها، تسقط على الأرض.

لا تعلم كم مضى من الوقت آنذاك، فتحت عينيها بجهد جهيد، غمغمت وهي تعوم في بركة آسنة من اليأس: أين أنا؟ وماذا حدث لي؟
هدأها الطبيب: لا تنفعلي بهذا الشكل، أصبت بانهيار عصبي حاد.
لقد نقلها زوجها على جناح السرعة إلى المشفى بعدما تفاجأ بها وهي مغمى عليها، من اليوم فصاعدا ستحاول بشتى السبل منع صرح رباطها المقدس من الانهيار حيث تتجنب إزعاجه بأسئلتها اللحوحة لعلها تفوز بقلبه في النهاية، ويكون الانتصار الأكيد بجانبها، ربما ما حصل له ما هو إلا نزوة عابرة أججت مشاعره، ثم يعود إلى ما كان عليه قبلا، ستصبر عليه بعض الوقت لأن الصبر مفتاح الفرج.

تفاجأت ندى ذات أمسية بشابة غريبة تطرق بابها، تبدو في الخامسة والعشرين عاما أو أقل بقليل، يغسلها جمال غابر تخالها تحفة أسطورية خالدة.
ـــ ألست الكاتبة المتألقة ندى؟
ـــ أجل، تفضلي بالدخول.
جلست على الأريكة الفاخرة، ثم استأنفت تقول باعتزاز كبير: أنا معجبة أشد الإعجاب بقصصك ورواياتك.
ـــ ماهي آخر مجموعة قصصية قرأتها؟
ـــ لعنة الخيانة.
هذا الصوت الأنثوي لم يكن غريبا عن ندى، إنه قريب منها جدا كأنفاسها الطرية، وكدقات قلبها، في مقدورها تمييزه بحاستها السادسة من بين ملايين الأصوات البشرية.
سألتها بلهفة شديدة الوقع: ألست فاعلة خير التي اتصلت بي عبر الهاتف منذ بضعة أشهر؟
هزت رأسها علامة الإيجاب.
ـــ هل من أخبار أخرى عن زوجي فاروق؟
ـــ زوجك يا سيدتي واقع فيها حتى أذنيه، ستدمره بلا ريب، سبق لها وأن دمرت زوجي وآخرين معه، تلاعبت بعواطفه ومستقبله ثم رمته صفر اليدين كالعظام المنخورة، هذا هو جزاء الطمع يا سيدتي.
صمتت برهة ثم راحت تفتش عن شيء معين داخل حقيبتها، أخرجت صورة وهي تقول: أتعرفين من هذه؟
ـــ لا، أبدا، لم يسبق لي أن رأيتها.
ـــ هذه هيفاء، أخت زوجك.
ـــ هيفاء؟ أله أخت وأنا ليس لي علم بذلك؟
ـــ يخفي عنك حقيقتها.
ـــ ولم يخفيها عني؟
ـــ ربما لأنها مرغت سمعته في الوحل، ولكنها ليست مذنبة يا سيدتي، إنها ضحية شاب ماكر غدر بشرفها، لذا تبرأ منها أخوها إلى يوم الدين.
كانت هيفاء صديقتي الوحيدة في الثانوية، شبت بيني وبينها علاقة نقية كعلاقة الأخت بأختها، اعتبرتها حبيبتي المثلى التي أعتز بها على الدوام، وهي بدورها كانت تبوح لي بكل أسرارها، هو أول سر أطلعتني عليه، استولى ذلك الشاب على عقلها ومشاعرها، أضحى اسمه لا يفارق لسانها، أوهمها بالحب الخالد، والسعادة اللامتناهية، والجنة المخضوضرة الأبدية، مارس عليها كل أنماط الزيف، وأشكال الخداع ليلطخ سمعتها بأفظع ما لديه، وحين انسدت الأبواب في وجهها شقت طريقا مجهولا لا يعرفه سواها.

ترقرقت الدموع في مقلتيها كفصوص الماس تحت ضوء القمر، قالت متنهدة: هذه الصورة منحتني إياها ونحن على أبواب الامتحانات وكأن إحساسها أنبأها بنهاية وخيمة ستحدث في قريب الآجال،كما أنها أعطتني رقم هاتف البيت.

اجتمعت ندى بزوجها مساء خاصة عندما ازداد الوضع تأزما بينهما، وتسوست حياتها بالشك والريبة، ثارت في وجهه بعدما فقدت كل ذرة صبر: أنت تخدعني، تخونني مع امرأة ساقطة، ماذا جرى لعقلك يا رجل؟
ـــ التي تنعتينها بأبشع النعوت هي زوجتي.
ـــ زوجتك !؟ ، أنت طماع وشره.
ـــ كفاك طعنا في كرامتي.
ـــ لماذا غدرت بي؟ كنت تقول لي بأن الزواج تفاهم، انسجام، ترابط حميمي مقدس، الزواج ليس بالأمر الهين كما يتصوره البعض، أنسيت ذلك؟
أجابها باستخفاف واضح: كنت أقول، وكنت فعل ماض ناقص، شتان بين الماضي والحاضر.
ـــ لم أخطئ في حقك أبدا، كنت أعتبرك عشقي الأبدي، وسمفونيتي الر ائعة.
ـــ دعيني من هذه الرومانسية الزائدة عن حدها، وليشق كل منا طريقه الصحيح بعيدا عن الآخر.
فشلت كل محاولاتها التي بذلتها بغية الحفاظ على بيتها من التصدعات، كما أن الحوار معه لم يعد يجدي نفعا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى