الخميس ٢٠ نيسان (أبريل) ٢٠٠٦
بقلم أحمد دعدوش

من الذي لا يدري؟!

في مقاله الأخير، يطرح الكاتب الكويتي خليل علي حيدر في مجلة العربي الكويتية (العدد 559 الصادر في يونيو 2005) أحد جوانب النقص في العقلية العربية، والذي لا يتبدى إلا بالمقارنة مع الغرب، عندما يستهل المقال بالحديث عن "فضائل الغربيين، وبخاصة الأمريكان" مادحا فضيلتهم في التواضع والإقرار بالجهل، حيث تكاد تكون عبارة "لا أدري" شائعة جدا في المجتمع الأمريكي حتى بين أهل الاختصاص، في الوقت الذي لا نتردد فيه "نحن أهل ثقافة الحفظ والارتجال وإفحام المجادل بأي ثمن" بالخوض في الحديث اعتمادا على مبدأ "قيل هذا وقيل غيره" و"من أخطأ فله أجر ومن أصاب فله أجران".

كما يأخذ الكاتب على رجال الفقه والفتوى الذين يستقبلون الأسئلة على شاشة التلفاز، ولا يترددون في الإجابة عن أي سؤال يرِد دون أن يتفوه أحدهم يوما بالاعتذار قائلا "لا أدري"، أو"أمهلوني لأراجع كتب الفقه" مثلا. والأمر نفسه ينطبق على المثقفين والساسة والفنانين الذين يستعرضون قدراتهم الحوارية في الإجابة عن أي سؤال يطرح عليهم في المقابلات التليفزيونية، وحتى لو خرج ذلك عن مجال اختصاصهم.

أظن شخصيا أن الكاتب لم يجانب الصواب في نقد عقليتنا العربية المعاصرة، والتي تنزع إلى المكابرة وادعاء المعرفة في كل شيء، إذ نادرا ما نجد أحدا مهما قل نصيبه من المعرفة يعترف بخطئه، أو يضع لنفسه حدودا لا يتخطاها في حواره، وهذا السلوك يفصح عن نفسه في الكثير من مجالسنا التي يخوض أصحابها في كل شيء، لتنتهي غالبا بالخصومات والمشاحنات التي لا تصدر إلا عن ضيق في الصدر، وضحالة في المعرفة، وعجز عن تقبل الآخر أياً كان رأيه.

إلا أن العجيب في مقال الكاتب، هو استشهاده بمقطع من كتاب (قضايا الفكر) للكاتب وديع فلسطين الصادر عام 1959، والذي يقارن فيه بين كاتب الأمس وكاتب اليوم، إذ يرى أن عصر السرعة قد أثر على عقلية الكتّاب مما أدى بهم إلى التعجل في الكتابة والنشر لعرض أفكارهم غير الناضجة على القراء، حتى غلب على الكاتبِ الحديثِ طابعُ الادعاء العريض وادعاء المعرفة بكل شيء. ثم يتسرع كاتب المقال على الفور في البحث عن مصدر تاريخي لهذه الظاهرة، ليجد في شعر التفاخر الذي كان ذائعا في التاريخ العربي الإسلامي مبررا لتأصيل الثقافة الاستعلائية ذات الأفق الضيق في العقل العربي منذ تشكله في جذور التاريخ. وقد كان من الأحرى به عدم التسرع في الاستشهاد بالتاريخ كي لا يقع في فخ النقد الذي أعده لغيره من الكتاب المتسرعين في الفقرة السابقة، إذ من غير المنطقي أن يستشهد برأي الكاتب وديع فلسطين الذي يرى أن ادعاء المعرفة بكل شيء أحد سمات الكاتب الحديث، ثم يثبت أن هذه الثقافة الاستعلائية كانت شائعة منذ عصر الجاهلية الأولى!

كما أن استشهاد الكاتب بالحوار الذي شاهده على إحدى الفضائيات بين مجموعتين من الطلبة الخليجيين والأمريكان، لا يمكن أن يفي بالغرض. إذ يدعي أن الطلاب الخليجيين لم يترددوا في "ترديد الاتهامات التي يسمعونها في أجهزة الإعلام وأشرطة الإسلاميين ومانشيتات الصحف حول أهداف السياسة الأمريكية والنفط والمؤامرة الدولية واحتلال المنطقة" ثم يطلق حكمه المؤكد: "بالطبع لم يطالع هؤلاء الطلبة على الأرجح أي كتاب في هذه المواضيع خارج إطار الكتاب المقرر وبرامج التلفيزيون الإخبارية".

وعجبي هنا لا يقتصر على اقتران كلمتي (بالطبع) و(على الأرجح) في حكم واحد، فهو يؤكد في البداية ثم يرجح فيما بعد. بل الأعجب من ذلك إعجابه الشديد بحصر الأمريكان أنفسهم في حدود ما يعرفون ويدرسون ويدركون، في مقابل نقده لخوض الخليجيين في ما لا يحسنون - في رأيه-، وأتساءل هنا عن معرفة الكاتب بطبيعة مصادر المعلومات التي يستقي منها هؤلاء الأمريكان معرفتهم بما يجري في العالم الواقع خلف أسوار أمريكا، وبما يدبره قادتهم من سياسات السيطرة على العالم، وبما يعدّون من احتلال ثقافي للعقول التي تتلذذ بتبجيل العدو. مما يجعل من قصرهم الحديث على حدود معرفتهم ناشئا عن جهلهم وليس تواضعا، فالفضيلة هنا إن وجدت فإنها لا تزيد على اعترافهم بالجهل، وهو عذر أقبح من ذنب!

أما الموقف الذي ينتقد فيه الطلبة الخليجيين فليس نابعا في رأيي من ادعائهم المعرفة في كل شيء، بل هو نتيجة لنقدهم الجريء لسياسة الاحتلال الأمريكي الوقحة والمطبقة على بلادهم وثقافتهم، وليت شعري ما الذي ينتقده الكاتب في "برامج التلفيزيون الإخبارية" التي لا يرى فيها مصدرا جيدا للمعلومات، فهل هناك ما هو أصدق من الأخبار المصورة التي تنقل لنا كل يوم مشاهد الدمار الذي يحل بأرض هؤلاء الطلبة؟ وهل يحتاج أي عربي أو مسلم يعتز بعقله وحريته واستقلال فكره إلى الاستماع إلى "أشرطة الإسلاميين" كي يتعرف على عدوه الذي لم يخجل من التعريف بنفسه؟

أغلب الظن أن المشكلة ليست مقصورة على ثقافتنا الاستعلائية، ولا على حميتنا الجاهلية، بل في عقدة النقص والاستلاب التي تنهب عقول هذه الجماعة من الكتاب والمثقفين، فبأي منطق يبرر الكاتب استشهاده بشعر الكميت وكعب بن زهير في المفاخرة للتأكيد على تأصل هذه الثقافة في مجتمعنا؟ وأين هو من الإسلام الذي زرع في النفوس فضيلة التواضع في طلب العلم، حتى عجز في بحثه عن الوقوع على شيء من تورع الفقهاء عن الفتوى فيما يخشون؟

يروى عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما قولهما: "من أفتى عن كل ما يُسأل فهو مجنون"، وعن عطاء بن السائب قال: "أدركت أقواما يُسأل أحدهم عن الشيء فيتكلم وهو يرعد". وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "أدركت عشرين ومئة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول".

ويروى أن الشافعي سئل عن مسألة فلم يجب، فقيل له فقال: "حتى أدري أن الفضل في السكوت أو في الجواب"، كما يقول الأثرم – أحد تلاميذ ابن حنبل- : "سمعت أحمد بن حنبل يكثر أن يقول لا أدري، وذلك فيما عرف الأقاويل فيه"، وعن الهيثم بن جميل: "شهدت مالكا - أي الإمام مالك- سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري"، كما يروى عن الإمام مالك أيضا أنه ربما كان يُسأل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها، وكان يقول: من أجاب في مسألة ينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف خلاصه ثم يجيب. وسئل يوما عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل: هي مسألة خفيفة سهلة، فغضب وقال: ليس في العلم شيء خفيف. وقال أبو حنيفة: "لو لا الفرق - أي الخوف- من الله تعالى أن يضع العلم ما أفتيت، يكون لهم المهنأ وعليّ الوزر". [انظر مقدمة كتاب المجموع للإمام النووي].

هذه هي ثقافة الإسلام التي رسخت مقولة "لا أدري" في نفوس العلماء فضلا عن العامة، وربطت هذه الفضيلة بضمير المسلم الحي الذي لا يحتاج إلى رقيب آخر يحصي عليه أخطاءه، فهل يحسن مثقفونا الظن يوما بهذه الثقافة؟ وهل يجدون فيها ما يغنيهم عن النظر في فضائل الأمريكان؟ وهل سيبرؤون بعد قراءة هذا المقال من عقدة الاستلاب؟

أما أنا يا سيدي فلا أدري!

أغسطس/ آب 2005


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى