الاثنين ٢٣ آذار (مارس) ٢٠١٥

زيد الشهيد في تراجيديا السماوة 1

هـاتف بشبــــوش

حينما أقرأ للروائي زيد الشهيد، أجدني مشدودا في مواجهة أعباء الماضي المتجذر، وأنْ أكون مستعدا لرؤيا الأسوأ منه في القادم الذي نعيشُ جزءا منه الآن

وأنا أفتحُ الرواية ( تراجيديا مدينة) موضوعة بحثنا هذا، أجدُ الصفحة الأولى فارغة، سوى سطر درامي موحش للمبدع محمد سعيد الصكار، يختزل تأريخ العراق الدموي، والذي يقول فيه (حبري أسود فلاتطلبوا مني أنْ أرسم قوس قزح ) . منذ البداية الروائي يريد أنْ ينقل لنا رسالة مفادها، هو أنّ العراق عبارة عن دم وهلاك وجرائم، فما الذي نتوقعه من روائي عراقي عاصر كل هذا الدمار على مدى عمره غير أنْ يعطيك رواية تحمل نكهة السياسة والقتل والاجتماعيات التي يتخللها شخوص عاشوا معنا وارتحلوا وحفروا أسماءهم في هذا الفلم التأريخي الذي أخرجه لنا مجازاً هو ( التأريخ) حسب ماقالته الرواية، (التاريخ سجل من الجرائم وسوء الحظ ... فولتير). التأريخ أخرجَ لنا فلماً ضمنياً في الرواية إسمه (حرب الضغائن وبانوراما الهلع) وهو يصلح أنْ يكون الأسم الثاني للرواية، حيث نشاهد فيه الويلات إبتداءاً من الصراع الدائر بين القوميين والشيوعيين، مرورا بأحداث 1963 الدموية، وتقلبات الشعب العراقي، حيث نراهم كيف كانوا يصفقون لعبد الكريم قاسم ( عمال وفلح فدوة لابن قاسم )، ما إن مات عبد الكريم نراهم يهتفون ( مخبّل والله مخبل، عايف دينة ورايح لستالين ) . أما مصور الفلم فهو( ناصر الجبلاوي مصور السماوة الشهير)، حيث نرى كيف التأريخ يجبر ناصر الجبلاوي في (أنْ لايترك شاردة أو واردة الاّ ويسحبها بعين عدسته) . فكرة جميلة من قبل الروائي، حيث جعل منا وكأننا نقرأ رواية ونرى فيلما في آنٍ واحد . ورغم كلّ تلك السياسة، والقتل والسجون والعنف في تلك الحقبة الزمنية، إستطاع زيد أنْ يعطينا رسالة أخرى أيضا بأنّ هناك من الحب الذي يتماهى في كلّ الأزمنة والعصور مع كل ذلك الدمار، الحب الذي يعطينا الدفق لكي نستطيع أنْ نستمر ونستمر ونعطي للحياة بهجتها التي يجب أنْ تكونها . ولذلك رسم لنا ذلك الحب الصامت من طرف يوسف لشميران الطالبة بنت لازار المسيحية القادمة من مدن الأقليات مع أبيها وعائلتها ليستقر بهما المقام في السماوة . الرواية صورت لنا المجتمع العراقي بكونه لا يخلو من مظاهر المرح والغناء، اذ هناك الكثير من المبدعين المطربين الذين أثروا الحركة الفنية والغنائية وتركوا بصمتهم في التأريخ، وقبل أشهر مات عباقرة ذلك الفن الرفيع مخلفين شواهدهم أمامنا (محمد جواد أموري، طالب القرغولي) . هذا يعني أننا نجد مظاهر الألفة والطرب بين العراقيين، للترويح عن أنفسهم بين الفينة والأخرى، وأعطاء الحياة ديمومتها وصيانتها من خلال ذلك، حيث نجد في مقهى عطية حذاف ، المطرب ناصر حكيم بأبوذياته وأغنية نخل السماوة، بينما الرجال تتطوّح رؤوسهم من الخمرة (التي دفعت بهم الى النهوض يتمايلون ويرقصون). وهذه ميزة أستطيع أنْ أسميها (بروفايل عراقي)، حيثُ أنّ هذا البروفايل يسمحُ لي، أنْ أكونً هاربا،ً مشرّداً، سجيناً مهاجراً، جاهلاً، شاعرا، مثقفاً قطيعياً، مطرباً، سخيفاً، وأخيراً في هذا الزمن الردئ والفوضى داعشياً قاتلاً، وقاتلاً، وقاتلاً .

تعرج الرواية على واقع المرأة المرير، إذا ماقورنت بما حصلت عليه المرأة الصينية واليابانية والأوربية وسائر الدول المتحضرة، فلايمكن لنا أنْ نجد نسبة تؤهلها لتدخل هذه المقارنة . المرأة في ذلك الوقت لاتستطيع أنْ تقف وترى معرض الصور المزجج الذي يضعه المصور ناصر الجبلاوي في واجهة دكانه، لشخصيات من أهالي السماوة، وشخصيات عراقية سياسية وأدبية، ومغنيات ومطربات، ومعالم أخرى متنوعة، لأنّ ذلك يمس التقاليد التي سار عليها المجتمع بأكمله . حتى اليوم المرأة تهان وتحتقر بل تقتل بطريقة بشعة، كما حصل قبل أيام لقتل أكثر من عشرين إمرأة في بغداد/ زيونة، على أيدي المجرمين الأصوليين المتطرفين، ولانعرف متى يخطو المجتمع خطوة تستطيع أنْ توقف مثل هكذا نظرة دونية إتجاه المرأة .

تراجيديا مدينة رواية من النوع التي لها عدة بانورامات، كتبت على شكل فلم، رواية حركية سريعة التنقل في أحداثها، لاتقف الكاميرا عند شخصية معينة أو بطلٍ يصول ويجول على مدار الفلم، الفلم له بطله ( يوسف) الشخصية المحورية في الرواية بالرغم من كونه ليس بالبطل المطلق الذي يأخذ تلك المساحة الزمنية الأكبر من بقية الكومبارس، ولكنه ذلك البطل، عند غيابه من أحداث الرواية في بعض فصولها، يجعلنا نتلهف لمعرفة ماذا سيحل به، وهذه الميزة لايمكن أنْ يمتلكها أي روائي الاّ إذا كان على مستوى عالي من الحذلكة والفبركة لرسم أحداثه، زيد يعرفُ جيدا أنّ الرواية البطولية هي التي تشد القارئ وتعطي مذاق خاص عند قراءتها، ولذلك إلتجأ الى جعل الرواية تبدأ بيوسف وتنتهي بنهايته، لكي يبقى عنصر التشويق مستمرا من البداية حتى النهاية . الرواية فيها الكثير من عناصر الجذب لتشكيلة الشاشة السينمائية لا التلفزيونية، لما فيها من أساسيات المساحة المكانية والزمانية اللتين تؤهلانها كي تندرج في مجال الصناعة السينمائية وشبّاك التذاكر، كما وأنها تحتوي على عدد الشخوص الذين يشكلون فريقا تمثيلياً مبدعا ضمن إطار الرواية وأحداثها المثيرة والشائكة،والتي صورت لنا الشخصيات على إختلاف سلوكياتها، صورت لنا الأمكنة الرسمية والعشوائية، الحرس القومي ورشاشاته البورسعيد، المقاهي، المدارس، الدكاكين، المكاتب، البوليس ورجال الأمن و الأسواق، ومحطة القطار، المدن والعاصمة بغداد، الفنادق، الشوارع الشهيرة في السماوة على غرار شارع مصيوي، باتا، ثم الأزقة الكثيرة ومنها ،العرايا، السبوسة، اليهود، المعمل، الداحرة، النجارين .

الأفلام متعددة الأغراض والأنواع، وفلم ( حرب الضغائن وبانوراما الهلع ) ضمن رواية زيد هذه هو سياسي إجتماعي تثقيفي بأمتياز، إذا ماقورن مع الأنواع الأخرى: الدرامية،الأجتماعية، الوثائقية، أكشن، كوميديا، بوليسية، رعاة بقر، هندي ومايحتويه من عناصر الصدفة والأجواء الموسيقية الخلابة، فلم خيال علمي، أطفال،....الخ . رواية زيد الشهيد بالضبط هي كما الفلم العالمي Crash)... تحطم) إنتاج 2014، من أخراج باول هاكس، وأداء كلاً من الممثلة الحسناء ساندرا بولاك والممثل الصاعد مات ديلون( إبن الممثل الشهير في الستينيات والسبعينيات،،ألان ديلون) إذ نشاهد في الفيلم، الجريمة، العدل، الحب، الأسرة وعلاقة الأباء مع أبنائهم، بوليس، سياسة، عنصرية ( سود وبيض)، فلم لايشتمل على البطولة المطلقة، بل جميع الممثلين هم أبطال الفلم الذي حصد العديد من الأوسكارات في التمثيل والأخراج .

الرواية السينمائية هي من أهم الوسائل التي تحقق الأتصال بعامة الناس على أختلاف وعيهم ومداركهم، لكن العقبة الكأداء في إنجاح الرواية السينمائية في بلد مثل العراق هي الميزانية،التي تعد العنصر الأول في إنتاجها وإيصالها الى الجمهور، فهل ياترى روايات زيد الشهيد سترى النور في الآفاق القريبة.

رواية كتبت بأسلوب لغوي قدير، مثلما رأيناه في أغلب رواياته، وبنفس الوقت كتبت بالأسلوب الذي يفتح شهية القارئ، ومن النوع الذي حالما تبدأ بقراءتها، فأنك تنذهل لمجريات أحداثها، تظل مدهوشا، تتمنى لو أنّ لكَ القدرة في التواصل على قراءتها حتى تنهيها، لكنّ المقدرة البشرية على القراءة هي التي تحدد المدة الزمنية لشعور المرء بالتعب والاِعياء، وهذه تجبره على أنْ يأخذ إستراحة على أمل أنْ يكملها في اليوم التالي أو بعد ساعات استراحة كافية.

الرواية إتخذت من السماوة نقطة الأنطلاق لتعرفة القارئ بالواقع الأجتماعي والسياسي لمجمل العراق، وهي الرواية الثانية لزيد الشهيد التي تدور أحداثها في السماوة، مثلما روايته السابقة(أفراس الأعوام)، كما وأنّ السماوة معروفة للقاصي والداني على نطاق العراق بكونها المدينة التي بدأت منها الشرارة الأولى لثورة العشرين، معروفة لدى الثوريين والشيوعيين العراقيين لكونها المدينة التي تجرأت وأوقفت قطار الموت المعروف حتى اليوم، والذي تطرقت الرواية له في أحد فصولها، القطار الذي زُجّ فيه خيرة العناصر الوطنية أنذاك لغرض قتلهم جوعاوعطشا وهم في طريقهم الى نقرة السلمان، وهذه واحدة من جرائم البعث، لكن جرأة السائق الشريف الذي أوصل القطار بأسرع مايمكن في إختزاله للوقت، وشجاعة أبناء السماوة، أنقذوا مافيه من الرجال الأخيار

الأبداع الروائي العراقي بشكل عام يكاد لايخلو من السياسة، لأوضاع العراق التي لم تستقر حتى اليوم، فيجد الروائي أو الكاتب نفسه ملجما بهذه الدائرة المغلقة التي لايمكن أنْ يخرج منها، وهذا حصل مع الكثير من الروائيين العالميين الكبار، ومنهم غوركي وهمنغواي، حيث أخذت السياسة والصحافة المساحة الكبيرة في أعمالهم الأدبية، أما ديستويفسكي فهو الوحيد تقريبا من الروائيين الكبار إبتعد عن السياسة . رواية (تراجيديا مدينة )أيضا هي الأخرى منذ بدايتها، حينما يقتل (سلطان الشاهر) بشناعة، هي بداية جريمة لغرض سرقة مال رجل ثري، ولكن الجريمة هذه تتحول الى الشعبة السياسية لألصاقها بأبن (سلطان شاهر) المدعو (يوسف وهو بطل هذه الرواية) . يوسف سلطان كان شابا يافعا مثقفا طموحا، ومتهما بالشيوعية . الروائي زيد كان مذهلا في السرد الروائي الذي يجعل من القارئ متلهفا لمعرفة أسباب الجريمة التي لم نستطع أن نعرف دوافعها الأساسية في البداية . لكننا بعد مجريات أحداث الرواية( الفلم) نعرف بأنّ السلطة الحاكمة وجرائمها تريد أنْ تشوه سمعة الثوريين أنذاك فتلصق تهمة الجريمة بيوسف إبن (سلطان شاهر الضحية )، لغرض إبعاد التهمة عن المشتركين الرئيسيين في إرتكاب الجريمة ( شرّاد هديب، شتيوي الياور، رشاش جاسب المفوض في الشرطة )، وفي نفس الوقت التخلص من شاب مثقف شيوعي أو ملحد أو من هذا القبيل حسب ماتدعي السلطة البوليسية البعثية المجرمة أنذاك، فهنا أشتركت الجريمة المنظمة والسياسة في بلدٍ مريض لايمكن له الشفاء الأ بقدرة المستحيل . ثم في نهاية الفلم(الرواية) نرى الحال المأسواي المبكي ليوسف المثقف الشيوعي الطيب الذي سُرقت حياته منه ظلماً وعدواناً، وعندها يكون الواحد منا يريد أنْ يصرخ صرخته المدوية لكي يلعن السياسة والسياسيين العراقيين، لكونهم هم المسؤولون عن هذا المآل العراقي المتردي.

ماتقدم أعلاه عن الفن السابع، أريد أن أقول من خلاله أنّ السينما أخذت نصيبها الكبير في رواية (تراجيديا مدينة)، وكيف كانت أيام زمان، أيام الثقافة والأطلاع حول مايدور في العالم من صناعة الفن الصوري والسمعي، تلك الأيام التي كانت يُخصص فيها عاملاً لحمل اللوحة الكبيرة للفلم، هذا العامل يدور في الشوارع والأسواق، كي تعرف الناس عن الفلم الجديد الذي سوف يُعرض اليوم وللأيام القادمة، بينما الآن وفي حكم الأسلام السياسي، لانجد أية صالة سينما في عموم العراق، لنقرأ في الثيمة أدناه كيف كان حال السينما وأجوائها التي تبهج الذائقة .........

(حامل لافتة لفيلم اليوم، يحملها على كتفه ويصيح، فلم اليوم، أحدث ما أنتجته السينما الهندية،أم الهند، بطولة الممثلة المسلمة نرجس، صراع من أجل الحياة، ثلاث ساعات، فيلم شاهده عبد الكريم قاسم ،وأعجبه، وأحزنته أحداثه).

أفلام كثيرة ذات نوعية رائعة بحيث أنها ظلّت محفورة في الذاكرة العراقية الذوقية حتى اليوم، كأفلام هتشكوك المرعبة التي تصور ذلك الطير رمز السلام لكنه يظهر لنا بهيئته المخيفة، وفلم ذهب مع الريح لكلارك كيبل وسكارليت أوهارا، وكيف يُظهر لنا النضال لتحرير العبيد أيام ابراهام لنكولن، وسقوط الامبراطورية الرومانية لصوفيا لورين وعمر الشريف، فلم الفراشة للمثل الراحل ستيف ماكوين، إضافة الى العديد من أفلام الكاوبوي( رعاة البقر) ومنها ترنتي، وعودة ترنتي للمثل الشهير الذي مات في هذا العام عن عمر تجاوز السبعين ( جوليانا جيما)، او فلم ( كيوما) للمثل الأيطالي القدير فرانكو نيرو، أو الفارس الأبيض لكلنت إيستوود . هذه هي أيام السينما والتي كانت تجذب الجميع للمشاهدة، أنها أيام رغم ما بها من الألم لكنها من الناحية الثقافية أفضل بكثير من حال اليوم، حيث نرى القطيع الذي لايفقه من الحياة شئ سوى النظر الى السماء.

كاميرا الفلم ومخرجه التأريخ، تتنقل بين الكثير من المشاهد المختلفة والمترابطة التي تشكل عصب الرواية أوالفلم السينمائي الذي يصوره ناصر الجبلاوي ً، فنقرأ عن شتيوي الياور(شخصية مجرمة) كيف كان يجلس في مكتب المقاولات الخاص به، ويضع خلفه صورة تتبدل في كل مرة، فتارة لعبد الكريم قاسم، ثم عبد السلام عارف، ثم عبد الرحمن عارف، وهناك لوحة خط عليه ( الخدمة غايتنا ... الأخلاص طريقنا)، بينما هو الشخص المرائي، الكذاب، السكير المعربد،والمتمايل حيث تميل الريح والمجرم مع سبق الأصرار، وبه من الشر لايفوق شرّاد هديب، وهناك علاقة ترابط لايعرفها الناس بينه وبين شرّاد هديب ورشاش جاسب الشرطي، الذي ينطبق عليه قول لينين ( اذا سقط المرء أصبح شرطيا).

تنقلنا الكاميرا الى يوسف وكيف كان متعلقا بشميران، والتي أصبحت فيما بعد مديرة مدرسة إعدادية السماوة للبنات، وهي معروفة بطيبتها وذكائها لدى أهالي السماوة، حتى أنّ أبي أنا كاتب هذا المقال( بشبوش حسين )، كان سائقاً معروفا في السماوة كان يقوم بتوصيلها هي وطبيبة معروفة أيضا ( نبأ الهنداوي ) من البيت وإلى مكان عملهنّ يوميا على مدار السنة،،وكنتّ أنا صغيرا في عمر العاشرة أرافق أبي في سيارته، فأنال منهنّ كل المحبة التي أتذكرها وأشعر بها حتى اليوم .
يوسف سلطان شاهر، كان يمر في الزقاق التي تسكن فيه شميران، يراها بوجهها الأبيض الطافح، والباسم، عند باب البيت، فتناديه (عيني يوسف) شيفرة المحبة والأعتزاز اللا أخوي، هل تستطيع أنْ ترجع لي هذا الكتاب الذي استعرته من المكتبة المركزيه، وبكل أدب يوسف يأخذ الكتاب ( مقدمة إبن خلدون )، وكان مسرورا جدا، لأنه كان ينتظر هذه الفرصة لكي يرى هذا القمر الطالع من بين مصراعي الباب عن كثب، أنه حلم يوسف أنْ يحظى بنظرة واحدة من شميران (كل ما أبتغيه تبديد الحياة بالتكاسل، حزمة كتب، حزمة أحلام، حزمة عاهرات... الروائي الأمريكي هنري ميلر) . يوسف يقرأ مقدمة إبن خلدون لأنّ شميران قرأتها، فيشغف بها، رغم أنّ بعض فصولها عصيّة على الفهم، ولكنه يفهم أنّ إبن خلدون له نظرة رمادية إتجاه العرب،حيث يقول (كلّما اسرع العرب الى الأوطان حل بهم الخراب والدمار) . يوسف تشده الخوالج بين الفترة والأخرى في التفكير بشميران، فيجد نفسه حاشراً في حوارية معها ومع الشيخ إبن خلدون، حيث أنّ شميران ويوسف كلاهما قد عرفوا رأي إبن خلدون بالأنثى، ينتشي يوسف بالجلوس بالقرب من شميران، وهذا هو تفكير أي رجلٍ شرقي، لكونه متعطشا الى صدر إمرأة، الى لمس لحمها الطري، الى مجاهيلها الخفية تحت طيات الثياب، الى الشعور بأنّ الحب هو السعادة المنشودة التي يسّرتها الطبيعة بين الجنسين، الى الأحساس بحرارة الكفين عند إشتباكهما، الى معرفة السر الكامن وراء العناق، الى النظر للشفاه التي يُحرَم لمسها قبل أنْ يصبح الحبيب رسمياً في الدفاتر والقوانين، كل ذلك كان يجعل من يوسف أن يكون على أحساسٍ بالخدر وهو على مقربةٍ من شميران، لكنّ ذلك سرعان مايتبدد ويجد نفسه، في بيته متعرقا منهكاً ولم يكن سوى حلم اليقظة، فلا شميران بجانبه لتغرقهُ بحنانها وقولتها له (عيني يوسف) كلمتي الود والأعجاب، ولا الشيخ إبن خلدون يربت على كتفيه، كما نقرأ في الثيمة أدناه من الرواية .... .

(مرّرت شميران أصابعها على وجهه، متعرقُ يايوسف، أمحموم؟ ..لا..لا..الحضور معكِ ومجئ الشيخ على غير ما أتوقع رفعا حرارتي، هيا لنعد، سنعود مرة أخرى ..قالت ورفعت رأسها الى الطريق ... لحقها،كانت حديقة نادي الموظفين داكنة، أشجار الكالبتوس خضراء تلمع هاماتها من أثر سطوع شمس الضحى).

تدور بنا الكاميرا الى تلك الأيام والتظاهرات التي يقيمها عمال السكك في السماوة، وهم يرددون النشيد الأممي (هبوا ضحايا الأضطهادِ. ضحايا جوع الأضطرار..بركان فكر في أنذار...هذا آخر إنفجار) ) الذي كتبه الشاعر الفرنسي (يوجين بوفير) 1871 بعد فترة وجيزة من كومونة باريس . التظاهرات تشارك فيها شميران وأختها وبنت المؤمن ونخبة من المثقفين التقدميين في السماوة، وكان يوسف لو يعرف أنّ شميران كانت هناك لشارك فيها، وبذلك يكون قد حقق الهدفين، هدف الوطنية وهدف الحب المنشود.

تنتقل الكاميرا لتصور لنا شخصية ألهمت الكثيرين من الأدباء في السماوة وهو (مجيد المجنون) وكيف كان مجيد متعلقاً بأفلام الويسترن الامريكي، حيث يُسخّر الروائي زيد حوالي إثني عشر صفحة يكتب فيها عن مجيد وكيف كان يمثل أبطال رعاة البقر، لنر هذه الشذرة أدناه من الرواية بخصوص مجيد وتمثيله لأفلام الويسترن .....................
(ومن أجل أنْ يبدو ككاري كوبر، وجون واين، وغريغوري بك،إستعان بالبنطلون والقميص والحذاء الذي يرتديه، في المدرسة، واحتاج لقبعة تشبه قبعة كاري كوبر، ولما شكلت القبعة عائقا لتحقيق كامل الحلم، والظهور بمظهر راعي بقر لاتنقصه ناقصة، جذبته تسريحة جيمس دين في فيلمه ( ثائر دون سبب ) وأعجب بها مقرراً أن تكون بديلة للقبعة) . ثم نراه يصعد فوق سياج مدرسة سومر العريض ليقوم بتمثيله المذهل عن أبطال رعاة البقركما نقرأ أدناه .........

( يصل مدرسة سومر، يتسلّق جدارها الحجري، ويروح يتهادى، يطالع الأرجاء بحثا عن منافسين بالمسدسات الريفولفر ذي البكرة المتحركة، يبغون مقارعته أو هنود حمر يكمنون لحيان الفرصة والهجوم عليه، بين لحظة وأخرى يستدير فيستل بسرعة خارقة، فكي خروف من غمدين هما كيسا جلد ربطهما بحزامه حول خصره، الفكان استخرجهما من مخلفات بائع باجة وكوارع وجعلهما مسدسين تدرب كثيرا على إستخدامهما).

تلك هي أيام الطفولة العراقية البسيطة والزاهية في بعض أحيانها، وذاك هو مجيد الذي تنبأت له الناس بأنه سيفقد خيوط الذاكرة، سينتهي دونما ذكرى لرعاة البقر ومدى حبه لهم، سينتهي ويخلف لنا حزننا عليه، سيكمل بقية حياته فاقداّ خيوط العقل المتواشجة والتي رسمت لنا من إبداعها أجمل مجيد كاوبوي الذي لايتكررأبداً، مثلما أفلام الكاوبوي التي لاتتكرر هي الأخرى.وإنتهى بالفعل الى جنونه الأبدي الذي جعل منه غريبا عن إبداعات العقل . ومن العجيب جدا أنّ مجيد مات بالقرب من سياج مدرسة سومر ملقىً على قارعة طريقها، تلك المدرسة التي كان فيها قد مارس بطولاته فوق سياجها العريض، وآه من هذه الحياة التي تتلاعب بنا حسب أهوائها وما بأيدينا أية حيلةٍ كي نبتزها ونحصل على ما هو أفضل لنا منها، تبقى تفرض علينا قساوتها و تجعلنا مسيرين لامخيرين، تجرنا من ياقاتنا الى جبابرة الموت كي يلقون بنا في أمكنة الطفولة التي كنا نلهو فيها ونسطر أعذب ذاكرةٍ خلابةٍ، تجرنا كي نموت على أعتاب طفولتنا التي ليس لها حول في إرجاعنا كما كنا، فنموت مع حسرتنا، مثلما مات مجيد، قرب سياج طفولته الذي أصبح نعشه فسار به الى الفناء، ولكنّ مجيد مات دونما حسرةٍ تذكر .

ثم تنتقل الكاميرا الى شخصية أخرى من السماوة وهو( نجم) وكيف كان يحلم أن يكون له جسما كجسم الممثل وبطل العالم في الكمال الجسماني ستيف ريفز، بطل أفلام ( هرقل الجبار، وحصان طروادة ) تلك الأفلام التي أخذت منا أشواطا في عقل طفولتنا طائرين على أمل أنْ نشاهد يوما أنفسنا أبطالاً مثل ستيف ريفز، وما كل ماتتمنى الطفولة تدركها، لنر ماقالته الرواية عن أحلام نجم ....

(ظلّ سحر قامة وبناء جسم ستيف ريفز الجميل بالعضلات المنتفخة، يتنامى في مخيلة نجم، وظل نجم لأيام متتالية يدخل فلم هرقل الجبار، يطالع الصدر الممتلئ وعضلات البطن الست تبرز بتناسق يشبه تناسق رخامات على صفين، لكل صف ثلاث عضلات يكون ترتيبها عموديا) .
( لكن نجم لم يستمر طويلا، إذ أنّ التمرين لم يعد ينفع معه، ولم يعد يطيق صبرا طويلا على تنامي عضلات جسمه، فخابت أحلامه وذهبت أدراج الريح ).

زيد الشهيد كاتب الرواية نفسه كان مولعا بكمال الأجسام أيأم السبعينيات، تدرّب كثيرا، وحتى اليوم تبدو مظاهر الكمال الجسماني بادية على مظهره بشكل جلي وواضح للناظر، حيث أنه مازال محافظا على جسمه الذي بذل عليه أيام زمان الكثير من التدريب بهذا الخصوص، ولذلك يندهش المرء حين ينظر الى الروائي زيد، على هذه النقلة النوعية من كمال الأجسام ولغة الجسد والعضلات وإبراز المفاتن اللماعة عن طريق طلائها بالدهون، الى الأدب ولغة الأحاسيس والألم .
يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع في الجزء الثاني

هـاتف بشبــــوش

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى