الاثنين ٢٣ آذار (مارس) ٢٠١٥
بقلم فيصل سليم التلاوي

صعود السلالم

السُلَّمُ لغة: ما يُصعد عليه إلى الأمكنة العالية، وما يُتوصل به إلى شيء ما، وجمعه سلالم وسلاليم.
أما في دنيا الناس فقد ابتدع الخلق سلالم معنوية، يرتقون بها إلى الدرجات العلى في ميادين الوجاهة والسياسة ولرآسة، ليَبُزَّ بعضهم بعضا، ولينازع المرء أخاه، ويسابقه على تبوأ المنصب والمركز والثروة. فابتدعوا لذلك أفانين وألاعيب، تساعدهم على بلوغ غاياتهم القريبة والبعيدة. ومن تلك الأفانين والوسائل ما هو من أبواب المنافسة الشريفة المشروعة، ومنها ما هو دون ذلك من ألوان الغش والخداع والتزوير، وكل هذه وتلك سلالم يستعان بها على الارتقاء والصعود. وذلك كله أمر مفهوم ومفروغ منه ومبرر في عالم يعج بالطموح والتدافع والمنافسة.

وطبيعي في مثل مجتمعنا العربي، ذي الثقافة البدوية العشائرية أن يكون من أهم مقومات الصعود ودعاماته النسب والحسب والعشيرة، فابن الشيخ شيخ وابن الوزير وزير وابن السفير سفير، ويندر أن يتخطى الصفوف شخص فرد بمهاراته وقدراته ليبلغ مكانة مرموقة، فإن حدث ذلك في التاريخ مرة ضرب الناس به الأمثال مثلما قالوا: -

نفس عصامٍ سوَّدت عصاما
وعلمته الكــــرَّ الإقداما
وصيَّــــــــرته ملكا هماما
حتى علا وجاوز الأقواما

و إليه نُسب كل مثابر مجتهد معتمد على نفسه لا على غيره، حتى سموا كل من على شاكلته عصاميًا، و كأن ذلك أمر مستغرب عجيب، مع أن أصل الأمور و طبيعة الأشياء أن تكون هكذا، و أن يصل الإنسان إلى مكانته بجده و اجتهاده، و ليس بحسبه و نسبه، و أن يكون عصاميا لا عظاميا، و هذا هو الحال في جميع المجتمعات المتقدمة المتحضرة في زماننا. تذهب إليها فردا مهاجرا لا نصير لك سوى جهدك و ما تتقنه يداك، فترتقي إلى أعلى المراتب إن كنت تستحقها، و التي لا تبلغ عشر معشارها لو بقيت في بلدك الذي أنجبك و ضيَّعك، حين صدَّرك للخارج بثمن بخس أو بدون ثمن، و كان الأجدى له أن يرعاك و يحتفظ بك، ليقطف ثمار نجاحك الذي هو أولى به من الآخرين، و لسان حالك ينشد:

أضاعوني و أيُّ فتًى أضاعوا
ليوم كريهةٍ و سَداد ثغرِ

سلالم الأدب:

لكن الأمر المُحير أن ينتقل استخدام السلالم من عالم الحياة إلى عالم الأدب و الثقافة، و أن يصطنع الناس سلالم و عكاكيز يرتقون عليها للصعود في عالم الشعر و الفن و الإبداع بكافة أشكاله، و هو أمر مستغرب و مستهجن، حيث تعتمد هذه الفنون على مواهب أصيلة مغروسة في طبيعة المرء منذ نشأته، لا تُكتسب و لا تُتعلم، و إن كانت تٌهذب و يُعتنى بها، فأي سلالم عجيبة تلك التي يرُتقى بها في هذا الميدان الفريد من نوعه؟!
فمنذ أقدم العصور كان الشعر الذي هو ديوان العرب، و فنهم الإبداعي الأول، يعتمد على الموهبة الفطرية، التي تتفتق عنها قريحة الشاعر الفذ، فينشد قصائده في أسواق العرب ( عكاظ و مجنة و ذي المجاز و غيرها ) فيطير ذكرها بين القبائل، و كانت القبيلة لا تفتخر إلا بشاعر نبغ، أو فارس بزَّ أقرانه، حتى قال قائلهم بعد أن أنشد عمرو بن كلثوم التغلبي معلقته، و لكثرة ما تغنت تغلب و فاخرت بهذه القصيدة:

ألهى بني تغلبٍ عن كل مكرمةٍ
قصيدةٌ قالها عمرو بن كلثومِ

و استمر الحال على ذلك في عصر صدر الإسلام، و ما تلاه من عصر بني أمية، خاصة في ميدان شعر النقائض الذي خاض غماره مئات من الشعراء، و لم يصمد في ميدانه إلا أبرز ثلاثة شعراء، و هم جرير و الفرزدق و الأخطل، و لم يتقدم أحدهم إلا بموهبته و قدراته الفائقة، و ليس استنادا إلى أي سُلم أو دعامة أو عكاز يتوكأ عليه. و لم يستطع الجاه و السلطان أن يرتقيا بصاحبهما درجة واحدة في سلم الشعر و الأدب، و لا حَطَّت المنزلة الاجتماعية غير ذات الشأن من مكانة صاحبها، إن كان يمتلك الموهبة و البيان و النبوغ، و لعل الشاعر الأموي جرير بن عطية الخطفي خير مثال على ذلك، فقد ذكر أبو الفرج الأصفهاني في كتاب ( الأغاني ) في ترجمة جرير أن رجلا قال لجرير: من أشعر الناس؟ فقال له: قم حتى أعرفك الجواب، فأخذ بيده و جاء به إلى أبيه عطية، و قد اخذ عنزا له فاعتقلها، و جعل يَمُصُّ ضرعها، فصاح به: اخرج يا أبتِ، فخرج شيخ دميم رث الهيئة، و قد سال لبن العنز على لحيته، فقال: أترى هذا؟ قال: نعم، قال: أو تعرفه؟ قال: لا، قال: هذا أبي، أفتدري لم كان يشرب من ضرع العنز؟ قال: لا، قال: مخافة أن يُسمع صوت الحليب فيطلب منه لبن، ثم قال:

- ( أشعر الناس من فاخر بمثل هذا الأب ثمانين شاعرا و قارعهم به فغلبهم جميعا.)
و استمر الحال على ذلك طيلة العصر العباسي على امتداد حقبته، و ما تلاه من عصور، لا يتقدم الصفوف و لا يحظى بصحبة الخلفاء و السلاطين و من دونهما من الوزراء و القادة إلا الشاعر الفحل، الذي يتميز بأدائه على سائر شعراء زمانه. ما كانت الواسطة تجدي نفعا، و لا اعتماد السلالم يدفع بمتسلقها خطوة إلى الأمام حتى جاء زمن السلالم العجيب.

زمن السلالم:

لما حلَّ عصرنا الحديث و ما رافقه من تطور وسائل التقنية الحديثة، بدءًا بالصحافة فالإذاعة فالتلفاز فوسائل الاتصالات الإلكترونية، و شبكات التواصل الاجتماعي، و ما فرضته من سطوة و سيطرة إعلامية و ثقافية، شملت أركان الكون الفسيح، فصيرته قرية كونية صغيرة متواصلة مترابطة. عندها انبرت عصائب من المتثاقفين و المتأدبين و مُدّعي ذلك، تتصدر الصفوف بخطبها الطنانة الرنانة، و قصائدها الحماسية الصاخبة، التي تكيل المديح للسلطان و بطانته و حاشيته، فأوسعت لها الصحف صدور صفحاتها، و الإذاعات و التلفزيونات أثيرها و شاشاتها. و كل مضمون هذه النصوص أنها تمجد القائد الفرد و الزعيم الملهم و الضرورة التاريخية. فقد عرفت من أين تؤكل الكتف، و كيف تنفتح لها دون سواها الأبواب الموصدة، فإذا أصحاب هذه الخطابات الفجة، التي لا تحوي مضمونا ولا فكرا و لا غاية سوى التطبيل و التزمير، قد تسيدت المشهد الثقافي، و ترأس أصحابها المؤسسات الثقافية و الأدبية، و أصبح منها شعراء البلاط و كتاب المناسبات على طريقة وعاظ السلاطين في كل زمان، ليصبح مقياس النصوص التي تتصدر المشهد، و معيار تقييمها هو مقدار ما تتضمنه من تزلف و نفاق، و بقدر ما يغيب عنها أو يستتر الضمير الحي. و قد يبالغ بعضهم في فجوره بالسطو على نصوص غيره، أو استكتاب بعض من لم تتح لهم فرص الوصول، و اضطرتهم الحاجة للكتابة لمن يدفع مقابل صمت مطبق، و ترك المدعي يتباهى بادعائه النصوص المُستكتبة المشتراة.

أما شعراء و أدباء الكلمة الحرة الصادقة، فيتوارون وراء الصفوف أو يصمتون، لأنهم يربؤون بأنفسهم أن تنزل هذه المنزلة، أو يُغَيَّبون قسرا إن لم يفعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم. تلك أبرز و أشرس و سيلة لصعود سلالم الثقافة و الأدب في عصرنا.

تحت جناح المشاهير:

أما سلم الصعود الثاني الذي يسلكه كثير من الكتاب الطامحين لتصدر الصفوف، و لا تتاح لهم الفرصة السابقة، التي لا يدركها إلا قلة من الجسورين المدعومين المعتمدين على دعم إضافي عشائري أو مستند إلى نفوذ معين. فيلجأ أصحاب هذه الفئة إلى اجتراح و سائل بديلة للصعود، فيبتكرون سلالمهم الخاصة بهم ليصعدوا عليها، و هذه سلالم بشرية، فتجد أحدهم و قد التزم جانب أديب مبرز مشهور، يحضر محاضراته و ندواته و يلازم مجلسه، ثم يقتنص فرصة سانحة لكتابة مقال يُقَرِّظ فيه مقالة، أو يمتدح قصيدة قالها ذلك الأديب المتوسل به، ثم يأتي بها و يقدمها لأستاذه، الذي ما كان ليعلم بها لولا أن جاء بها صاحبها بنفسه، و أفاض في الثناء على النص و صاحبه، و قد يرتقي بعلاقته إلى جمع مجموعة مقالات، فيصدرها في كتاب كامل، تتناول عملا أو أعمالا لهذا الأديب الذي يتزلف له، و لا يعدم أن يجد لدى معلمه ذاك المعونة و التسهيل و الواسطة لدى دار نشر معينة، تطبع الكتاب و توزعه، و لا يلبث أن يجد الأبواب التي كانت موصدة قد انفتحت له بقدرة قادر، فإذا الصحيفة التي يرأس تحريرها هذا الأديب قد أوسعت له صدرها، ليتربع عليه مقاله الأسبوعي، و تلك المجلة التي يرأس تحريرها صديق أستاذه، قد أوسعت له مكانا لعمود دائم، و تلك الدار للنشر قد رحبت بنشر باكورة إنتاجه بتوصية من معلمه، غير مبالية بالقيمة الأدبية و الفنية لما كتب. بل إن الواسطة و التمسح على أعتاب الأديب الشيخ قد شرّعا لصاحبهما الأبواب، و يومًا بعد يوم يندمج في حلقة المريدين التابعين لهذا الكاتب، و ينضم لحلقته التي تستلهم أفكاره، و تنافح عنها ضد منافسه الذي يترأس تحرير صحيفة أخرى، و تحتدم بينهما المنافسة، و يحمى وطيس المعارك الأدبية التي لا مضمون لها، و لاجدوى من ورائها سوى التنافس الشخصي، الذي يجعلها لا تختلف كثيرا عن صراع الديكة.

بهذه الطريقة تفتح الأبواب لكثير من الكتاب الناشئين عبرالمرور تحت جناح كاتب معين، و من لا تواتيه فرصة كهذه، أو لا يطيق ترويض نفسه، و حملها على ركوب هذا المحمل المهين، تظل الأبواب موصدة في وجهه أبدا.

ثم بعد طول مران و خبرة، تدور الدائرة بهذا المتسلق، ليجد نفسه و قد صار كاتبا مشهورا، فيكرر سيرة معلمه و أستاذه، و ينتظر الوالجين الجدد إلى رحابه، ليسلكوا نفس الطريق الذي سلكه، حيث يتعلق المريدون بأهدابه هذه المرة، و قد صار شيخهم، و عليهم أن يكونوا تلاميذه و تابعيه، حتى يحين أوان صعودهم درجات السلم واحدة واحدة.

دعائم السلالم:

و هذه السلالم السابقة الذكر تنفع صاحبها في بلوغ المرتقى الصعب الذي يطمح إليه، لكنها لا تكفي وحدها للديمومة و الثبات في الموقع الذي بلغه المتسلق، بل لا بد لها من دعامات تسندها لتطيل أمد الوقوف على المنصة و التشبث بها، و لهذه الدعامات و الركائز طقوس يبتدعها أصحابها، و تصبح أعرافا سائدة، يتهافت الناس على تقليدها و السير على نهجها للدعاية لأنفسهم، و تسويق بضاعتهم الكاسدة التي لا تلاقي رواجا، و تبدأ أول هذه الطقوس المبتدعة بطباعة الكتاب على نفقة صاحبه، و بذلك تُعفي دور النشر نفسها من مسؤولية توزيع الكتاب، فقد ضمنت ربحها مقدما سواء بيع الكتاب أم لم يُبع، فإن لاقى رواجا كان ذلك ربحا إضافيا، و إن لم يلاق رواجا فقد اكتفت بالربح المضمون مقدما. و هذا يجعل دور النشر تتسابق على نشر الغث قبل السمين، دون أن تعير اهتماما لما يحتويه الكتاب من مادة، و دون حرص على مراجعة علمية أو فكرية أو لغوية، فما عادت قيمة الكتاب هي مؤهله الأول للنشر، و الدافع الذي يحفز دور النشر على الظفر بنشره، لما يتضمنه من جدة و ابتكار و طرافة، تجعله مقصدا للقراء، بل صارت القدرة المادية للمؤلف هي الحافزالأول لتسابق الناشرين على نشر الكتب، و لو أن معظمها سيجد طريقه إلى مستودعات التخزين و الرفوف الخاوية، إلا بعضا من النسخ التي يقوم المؤلف بإهدائها لأصدقائه و معارفه من باب التباهي و التفاخر، و حتى هذه لا تجد من يقرؤها، بل تصطف إلى جانب مثيلاتها على أرفف مكتبات الأصدقاء، التي تزين صدور بيوتهم كنوع من الديكور المنزلي، الذي يؤشر إلى أن صاحب المنزل من القارئين.

و ثانية هذه الدعامات حفلات توقيع الكتب، وهي مناسبات لإشهار الكتاب و الترويج له، و في ذلك إقرار مسبق بعجز الكتاب عن أن يسوِّق نفسه بنفسه، و أن يجذب القراء لاقتنائه، أو يحدث صدى لديهم اعتمادا على مضمونه و محتواه الفكري. و هذه بدعة محدثة لا يتجاوز عمرها بضع سنوات، و تتم الدعوة إليها عبر و سائل الإعلام المتنوعة، و أحيانا بتوزيع بطاقات الدعوة مثلما هو الحال في مناسبات الأعراس و الأفراح، مع فارق وحيد هو أن القاعات تغص بروادها في حفلات الأفراح، بينما لا يتجاوز حضور ندوات توقيع الكتب عشرات من المتأدبين، جُلّهم من أصدقاء الكاتب و مجامليه، ومن حضروا ليسددوا له دينا سابقا، لأن له يدا عندهم بحضور سابق لندواتهم المماثلة، و أحيانا لا يتجاوز عدد الحاضرين بضعة أشخاص، و لا يباع من نسخ الكتاب المحتفى بإشهاره سوى أقل من ذلك العدد.

أما إن كنت في إحدى دول الخليج العربي، و كان حفل التوقيع منعقدا في قاعة أحد النوادي الأدبية، فلا يكتمل الحفل إلا بأن يولم الأديب المُحتفى به في خاتمة الندوة، و يكون الحضور الذين يهرعون للمكان قبيل نهاية الندوة من طفيليي الموائد أضعاف من حضروا للمشاركة الثقافية.

أما ثالثة هذه الدعامات فهم النقاد المتكسبون أو المجاملون، الذين يديرون ندوة إشهار الكتاب، و يوسعون صاحبه مدحا، حالهم كحال الدنيا التي إذا أقبلت على أحد ألبسته محاسن غيره، و إن أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه، فتراهم يُقرِّظون الأفكار المستجدة، و الأسلوب الرصين و جمال اللغة و طريقة السرد، و كل ذلك من نافلة القول المكرر المعاد في كل ندوة، و قد يكون هذا الناقد مأجورا على هذه الساعة من وقته الثمين، التي ينفقها في كيل الثناء و المديح، و إن لم يكن الأجر ماديا كان مقايضة، مجاملة اليوم بمجاملة سابقة أو لاحقة، و قرظني اليوم أقرظك غدا. و هيهات أن تجد ناقدا جادا يفتش في المكتبة عن كتاب رصين قيِّم، فيتناوله بالدراسة و التقييم، و يقدمه للقراء بدافع البحث العلمي الخالص، دون علاقة شخصية تربطه بصاحبه، و دون أن يتقدم كاتبه بنسخة إهداء للناقد المأمول للفت نظره للكتاب، مشفوعة بأفخم عبارات التبجيل و التوقير المحفزة لوضع الكتاب على جدول أعمال الناقد عندما يسمح له وقته الثمين بذلك.

و لا تكتمل حلقة الدعامات إلا بالترويج للكتاب على صفحات الصحف و المجلات في الأيام التالية لندوة الإشهار، حيث يعمل الرداحون من مدعي النقد و كتاب الأعمدة تبعا للتوصيات و الاتصالات الهاتفية من الموالين مباشرة، أو من وراء ستار عن طريق الأصدقاء و الشلة و الجماعة الأدبية. فتفرد الصفحات الأدبية صدورها للتنويه و النقد المجامل المادح، حتى تنتهي تلك الجمعة المشمشية، و ينفض موسم هذا الكتاب، و يبدأ التحضير لإشهار كتاب جديد.

أما الكتاب نفسه و الذي مرَّ و صاحبه بكل تلك الطقوس المقدسة السابقة، فإنه لا يلبث أن يصبح نسيا منسيا بعد مرور أسبوعه الذي احتفي به فيه، إلا من نسخ يتولى صاحبها إهداءها لمعارفه و أصدقائه و سائر المكتبات العامة و الخاصة، لتركن على رفوفها متشوقة لمن يقلب صفحاتها ذات يوم.

الأدب الرفيع:

أما الأدب الرفيع الذي يربأ أصحابه بأنفسهم عن الخوض في تجربة تسلق السلالم السابقة، و يصرون على معتقدهم أن قيمة الكتاب تتأتى من مضمونه و ما حواه من أفكار بناءة، و طريقة عرض جذابة و أسلوب لغوي بديع، فإنهم يظلون في أمكنتهم على قارعة الطريق، مؤملين أن ينجلي غبار هذه العاصفة الهوجاء، و أن يأتي يوم يلتفت فيه أحد إلى جميل إبداعهم، فيقدره حق قدره، و قد يطول وقوفهم و هم ينتظرون الذي يأتي ولا يأتي، و الذي لا يدركونه في حياتهم، و قد يفطن أحد إلى قيمتهم و مكانتهم الرفيعة، و لو بعد طول زمن. فهل التفت أحد إلى قيمة و مكانة أبي حيان التوحيدي في زمانه، و هل أنصف الناس ابن رشد و الحلاج في زمنهما، أم انهم قد أحرقوا كتب أولهما و صلبوا ثانيهما، حتى جاء زمان تغنى فيه العالم بفكرهما و اشتشرافهما.

لكن أمثال هؤلاء النابغين الذين يعبرون الزمان و المكان نفر قليل، بينما تطوي يد النسيان كثيرا من بديع الفن و الفكر و الأدب، لأن أصحابه ما كانوا يتقنون لعبة صعود السلالم، ولا فن تسويق بضاعتهم، و كانوا يلوذون بالصمت و ينزوون في زوايا النسيان، و لا يرتضون لأنفسهم خوض غمار هذه المعمعة الوضيعة، فيضيع بتواريهم و انسحابهم خير كثير و نفع عميم، لو قدر له أن يرى النور في أوانه، و أن يلقى العناية و الاهتمام الذي يستحقه لانتفع به خلق كثير.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى