السبت ٢٨ آذار (مارس) ٢٠١٥
بقلم هيثم نافل والي

العبقرية والذكاء

يقال: إذا أردت أن تكون ساحراً، عليك أولاً أن تصاب بلوثة عصبية!!

الحقيقة التي لا مراء فيها، هي إني أكتب ويدي على قلبي، لأنني وببساطة شديدة لي عائلة وأخاف على نفسي وعليهم حتى من مواء القطة!!

كثر الحديث عن الفكر والإبداع هذه الأيام، فنالت منا الأحكام. الإنسان العاقل هو مفكر دائماً، لكنه يقف عند حدود معينة لا يستطيع تخطيها عندما يكون ذلك الإنسان بسيطاً وعلى قدر حاله كما يقال، شأنه شأن الأمي، والفلاح، والعامل، والموظف... وهؤلاء يفكرون مثلنا، لكنهم لا يجعلون عملية التفكير تتخطى حياتهم العادية الروتينية؛ لأنهم يفكرون بحياتهم المعيشية فقط، وليس بحياة الآخرين والمجتمع والعالم أجمع. وهنا يفرز الفرق ويظهر واضحاً جلياً للعيان؛ هذا ما تحدثنا عنه حتى بح صوتنا؛ ساعدنا الله على محنتنا وأخذ بيدنا!

عندما أمد يدي لتناول كأس الماء الذي أمامي، فأنا في تلك اللحظة كنت قد عزمت وفكرت وقررت ونتيجة محاولتي العقلية تلك، هي رغبتي في شرب الماء. ولكن، تلك العملية الفكرية البحتة لم تأتِ بنتائج تفيد البشرية، بل أفادتني أنا فقط، كي أبقى على قيد الحياة. أما المبدع والمبدع العبقري الذي هو أعلى مرتبة من الأول وأسمى، لا يفكر مثلي، بل يتعدى حدود الآنا ونطاق الذات، لأن همومه هي هموم الآخرين؛ وهنا تظهر مصادر الإختلاف واللبس التي يقع فيها البعض لعدم تفرقته بين ما يفكر به العاقل العادي، والعاقل المجنون المبدع، فما بالكم لو كان الأخير عبقريا هنا؟! خاصة في لحظات التجلي؛ تلك التي تكون محصورة ضمن نطاق ضيق جداً من الطاقة التي لا سبيل لنا إلى معرفتها أو تفسيرها، لكننا نستطيع نعتها بحالة الإلهام أو لحظة التسامي والتجلي، أو إنصهار الروح مع الذات في لحظة عظيمة كلحظة نزول الوحي على نبي.
العاقل منا هو من يعتمد على عقله لتمشية أمور حياته اليومية، والمجنون والعياذ بالله يحتاج إلى الخيال والأوهام لتمشية تلك الأمور، في حين يجمع الفنان( المبدع أو المبدع العبقري ) الأثنين لتمشية أمور الناس بعد يهمل أموره حد السخط اللعين من دون أن يعرف أو يقف على تفسير!

عقل الإنسان موروث إجتماعي. وأي إختلال في هذا الموروث يكون هناك خلل واضح في العقل.( علينا أن لا ننسى الأمور الأخرى التي تسبب في نبوغ أحدهم دون سواه غير ما ذكرناه ) لكنني أريد التركيز هنا على البيئة الاجتماعية أكثر من غيرها، تلك التي توجه وتسبب بالتالي ظهور وإبداع أحدهم وتراجع وانحسار الآخر. والويل كل الويل لمن يكون من الدرجة الثانية في المجتمع الشرقي، حيث يطالب هناك الجميع بأن يكونوا من الدرجة الأولى!

لو تصادف واتفق القدر مع الزمان بأن تكون المعتدى عليه دائماً، سيشب الأخير ضعيف وخائف وجبان ولا يقدر على المواجهة والمجابهة حتى لو كان بقوة فيل. فالتعود هنا أشنع وأبشع أعداء الإنسان. ولو صادف ونشأت في أسرة لا تعرف غير أن تسمعك كلمات الخيبة والإحباط والفشل، ستكون من الفاشلين وعتبك على أهلك، وهم المفسدون. لأن الإنسان يولد كالعجينة، تستطيع أن تعمل بها ما تشاء، والتكرار كما يقال يعلم الحمار، فما بالك وأنت إنسان، ودائماً ترى التشجيع والإطراء والثناء، وتشعر وأنت تحيا بأن هناك من يقف بجانبك ويحثك على العطاء دائماً، عندها تحاول جهد إمكانك أن تثبت لهم مقدرتك وتفوقك حتى لو كنت من المفلسين!

يحكى، بأن من يريد أن يتعلم فنون العظمة ويأتي بكل ما هو معجز وغريب أن يدفن لأيام مع ميت جديد ويجعلونه بلا أكل أو شرب، كنوع من أنواع ترويض النفس على التحمل والمقاومة، بعدها يقولون له وهو المهدود: تستطيع بعد اليوم أن تنتصر على عدوك، وتأتي بالمستحيل! وما التصوف والتأمل في بعض الأديان التي تعتمد ذلك، إلا من أجل أن يكون فيها الإنسان على غير شاكلته العادية، وغير العادي هو المختلف، والمختلف هو الذي يحمل في ذاته أشياء لا يمتلكها غيره، ويسمى المبدع وإذا تحمل المبدع وصبر وبحث وثابر فيما هو غائص فيه ومركز عليه ويخرج بعدها بشيء مثير ومفيد للإنسانية يقال عنه: عبقري!

والسؤال الذي يلح علينا هنا:
هل كل عبقري ذكي؟ وهل كل ذكي عبقري؟

يقال: ان الظروف الاجتماعية، والإقتصادية، والسياسية هي غالباً ما تؤدي بالعاقل إلى الجنون! ترى، إذا عاش مثل هذا الفرد في مجتمع آخر توفرت فيه كل وسائل الراحة والرفاهية، ويكون مجتمعاً متوازناً يكثر فيه الخير والحرية، هل يمكن أن يصاب العاقل بالجنون؟ ( لا نقصد هنا الجنون الفسلجي أو الوراثي)

في رأيي، نعم! لأن الحرية والرفاهية التي يعيشها الفرد ويكثر منها تؤدي إلى نفس النتائج التي تؤديها الظروف المعاكسة تماماً. يحكى هنا وفي هذا الصدد، أن الشاعر الألماني جيته قال يوماً: أن الحرية التي أتمتع بها وفي حوزتي كبيرة جداً، بحيث لا أعرف في بعض الأحيان كيف أتصرف بها!! ومن هنا، يأتي جوابنا. فالتوازن هو ما نبحث عنه وليس الزيادة حد التخمة، ولا النقص حد العوز والفقر والفاقة والمرض.
لنرجع إلى موضوعنا الشائك الذي دفعنا إلى التصريح به.

كلما كثر الإنسان من الإندماج في مجتمعه كلما أبتعد عن مجال العبقرية! كيف؟

المبدع العبقري إنسان مختلف، يحب أو يميل إلى الوحده، لأنه لا يهتم كثيراً بالأمور التي يراها غيره، من الناس العاديين، بل همه أكبر، ويفكر في أشياء أبعد من نظره، ولا يكتفي بما موجود أمامه، بل يحاول دائماً أن يسأل ويكثر من السؤال كطفل فضولي، والحقيقة، أن المبدع العبقري هو طفل ورجل في آنٍ واحد، بل يقول علم الاجتماع الحديث، أن المبدع الذي يتحلى بالعبقرية هو غبي وذكي في ذات الوقت! وعندهم حق فيما ذهبوا إليه، لأنه وببساطة شديدة: يفهم في أمور مركزة جداً، في حين تراه يجهل أشياء غاية في البساطة! وهذا هو الأمر الذي حير العلماء:

لماذا جبل المبدع العبقري بهذه الإزدواجية العجيبة؟! نراه في أحيان يضحك في غير وقته! ويبكي في أمر لا يستاهل فيه البكاء! ويرقص دون طرب أو موسيقى! وينام ويستيقظ في أوقات غير أوقاتنا! ويلعب ويعمل في لعب وأعمال نجهل شيطانها، ترى، كم من البشر رأى تفاحة تسقط ولم يهتموا لأمرها؟ لماذا أهتمَّ نيوتن لها بهذا القدر الذي أوجد بعدها نظريته في الجاذبية؟! لماذا خرج يوماً أرخميدس عارياً كما خلقه الله دون أن ندرك السبب المحفز لأن يجعله يفعل ذلك؟ لماذا قص كوخ أذنه وأهداها لفتاة لأن الأخيرة أعجبت بها؟ وأمثلة كثيرة تجعلنا ندور في فلك لا حدود له ولا علم لنا به.
لم نجب بعد على السؤال: هل كل عبقري ذكي؟

قد يتبادر إلى ذهن القارئ بعد قراءته للسؤال، فيجزم دون تفكير طويل أن كل عبقري لابد أن يكون ذكياً. وهذا في الحقيقة هو المفهوم العام الذي يعرفه غالبية الناس، لكنه في واقع الحال، مغلوط!!

فالعبقرية والجنون برأي علماء النفس، وليس رأيي( لأنني كما نوهت من قبل صانع كلام وهم علماء ) يقول أستاذ علم النفس" كرشمر " أن العبقري قد يكون ذكياً من نوع خاص، لكنه يملك بالإضافة إلى ذكائه التياثاً نفسياً يبعث فيه القلق والتوتر العصبي ويجعله معذباً غير مرتاح من حياته الاجتماعية... ثم يضيف متابعاً: إننا لو جردنا العبقري من خمرة القلق الشيطاني والتوتر النفسي لما بقي فيه سوى شخصية عادية لها نصيب من الذكاء! ويتابع: إن الالتباث النفسي يؤدي بصاحبه إلى العجز عن التكيف الاجتماعي، وهذا ما يدفعه إلى مقاومة المجتمع والسعي نحو تغييره عن طريق الإبداع!!
سنرجع إلى النقطة التي بدأنا حديثنا فيها: أن العبقري المبدع جني في عرفنا. لغوياً في أقل تقدير. فالكثير من لغات العالم تسمي العبقري بالجني. والشياطين أو العفاريت التي تحفزه على الإبداع لا نراها نحن المساكين بالعين المجردة التي ننظر من خلالها:

لأننا لنا هموم غير همومه، ومصالح غير مصالحه، وشؤون غير شؤونه، فنحن نعيش لأنفسنا، وهو يعيش من أجلنا!! والفرق كبير وواضح كما لا يخفى. فالمبدع الحقيقي يكون مثابر جداً، وصبور على تآملاته وعمله. لا يعرف اليأس في حياته، والتجربة التي نتركها نحن بعد عشرات المرات، هو يستمر يجربها ملايين المرات دول كلل أو ملل. طاقته في التحمل غير طاقتنا. فيصح المثال القائل، عليه: أنه في وادٍ والناس في وادٍ آخر.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى