السبت ٢٢ نيسان (أبريل) ٢٠٠٦
قصة قصيرة
بقلم لبنى محمود ياسين

لن افعل هذا

لم يكن قد مضى اكثر من شهرين على زواجي العرفي ... ربما اكثر قليلا .. لكنها بدت لي فترة طويلة جدا من الوحدة .. و عمرا من الانتظار.

عندما دق بابنا و طلب يدي بشروطه الخاصة جدا فرح أهلي ... نعم فرحوا, إذ أن ذلك الأمير المتواضع الصفات , المنعدم المميزات , عثر أخيرا على عنوان ابنتهم سندريلا التي قارب قطار الزواج أن يفوتها، أو ربما فاتها قليلا .

منذ نعومة أظفاري علمت بما لا يدع مجالا للشك أنني فتاة اقل من عادية ... فلم تكن لي ضفائر أختي الحالكة السواد و لا بشرتها المضيئة و لا عينـاها الحالمتان و لا قامتها الفارعة التي يزينها تناسق قلما حصلت عليه فتاة من عائلتنا .. و لم تدخر عائلتي جهدا في إفهامي بأنها ذات مقاييس عالمية، وربما حازت على شهادة الايزو للمواصفات العالية الجودة , بينما لم امتلك أنا أي شئ يؤهلني لمرتبة الحلم , لذا لم أفكر يوما بفارس الأحلام , و لا حلمت بأمير وسيم يمتطي ظهر حصان ابيض و يختطفني و يطير بي إلى سماء السعادة .

كان حلمي بمستوى مواصفاتي .. شاب عادي أو اقل من عادي في مظهره ينتمي لعائلة متواضعة , ليس لديه من المؤهلات و الشهادات ما يرقى لمستوىً فاخر, يعمل في مجال ما عملا شريفا ... كل ما طمعت به أن يراني شاب متواضع ولو بكل هذه الصفات المتواضعة يمتلك عملا شريفا, وأقسمت في نفسي لأجعلنّ حياته جنـة.

لكن ما حصل انه حتى هذا الشاب , والذي صادف أنه كان أحد جيراننا لم يرني , بل هام بأختي و جن بها , و قوبل طبعا بالرفض بسبب مواصفاته المتواضعة... يومها قال أبى : لو انه طلب يد أمينة - تلك التي هي أنا - ماشي الحال .. أما صباح فبعيـدة عن شاربيـه بعـد المشرق عن المغرب .

أزعجتـني تلك الفكرة يومها و طاردتني و قضت مضجعي ... أن يترفع حتى هذا عن ملاحظتي .. كانت فكرة مؤلمة حد الاحتضار.
ثم تزوج هذا الجار , و دعانا إلى حفل زفافه .. ذهبت مثقلة بأسئلة لا أجوبة لها , عن ذنب لم اقترفه، لارى تلك العروس التي لم تكن تفوقني جمالا مما أثار استغرابي .. لكنها كانت متعلمة وموظفة في إ دارة ما .

و هكذا صفعني جارنا هذا مرتين ........ مرة حين تقدم طالبا يد أختي , و مرة عندما تزوج هذه الأخرى ... فكففت عن التفكير به , أوحتى التفكير بأي شخص , إذ بدا لي ذلك لاحقا ضرباً من ضروب الجنون , فقد برهنت لي الحياة بما لا يدع مجالا للشك , أن صبية مثلي لا تملك رصيدا كافيا من الجمال , ليس لها الحق حتى في التفكير بشاب ما , و إذا ما فعلت فستكون عرضة لسخرية الآخرين , فقد أتحفني أخي الكبير بملخص صغير عن وضعي الخاص قائلا ذات مرة : من سيتقدم للزواج بك ؟ .. أي أعمى؟ .. لا أحد !! ... ستبقـين كـقـفـّة ٍ الهـّم ماكثة فوق صدورنا... فكيف سأجرؤ بعدها على محاولة التفكير بأي شخص أ يّـاً كان و ليس من حولي إلا المبصرون جـدا بكل ما تملكه حاسة النظر من قدرات، بل ليس من حولي أعمى واحد قد يبصرني بعيني قلبه ,عندما تتعذر رؤيتي لجمال لا املكه، أو نظر لا يملكه هـو .

ثم تزوجت أختي ... و تزوجت بعدها صبايا الحارة تباعا , و أنا اُدعى إلى زفافهن واحدة تلو الأخرى ... فتجري أمي الي ... تزينني... تمنعني من ارتداء هذا الثوب لان لونه لا يلائم بشرتي السمراء.. و تقترح علي ارتداء ذاك ... تضع على وجهي طبقات من المساحيق البيضاء في محاولة فاشلة لاخفاء معالمي القاتمة... تكحل عيني و تلون شفتي ... تجبرني بطريقتها الحانية على ارتداء كعب ٍ عال ٍ لكي أبدو أطول قامة مما أنا عليه, حتى أخال أنني كنت أخطو بطريقة مضحكة لفرط طول الكعب , وأنا انفذ كل ما تطلبه دون تذمر و لا حتى قناعة , لكنني و الحق يقال , كانت تتملكني ثقة عمياء أنها ما أرادت لي يوما إلا الخير , حتى حين تكون محاولاتها لعمل ذلك الخير جارحة حتى الصميم .

بعد ذلك بدا لي انه حتى أمي اقتنعت أخيرا أن الكعب العالي و كميات المساحيق المبيضة لم ولن تغير من قدري شيئا , فلم تعد ُتـكرهـني على عمل أي شئ , بينما لزمت أنا طوعا و بملء إرادتي منزلي .. و لم اعد أرافق أمي في المناسبات و الصبحيات و الأعراس ... إذ أن تلك النظرة الحبلى بالشفقة التي كانت نسوة الحي و القريبات يمطرنني بها بمجرد أن تقع أعينهن على هامتي القصيرة , كانت تغتال إنسانيتي أو ما تبقى منها على الأصح بشكل متوحش , تنغرس في أعماقي سكينا مسموما يطال بقية كرامة لم يشعر أحد - أي أحد - أنها قابعة هناك بهدوء في تجاويف هذا الكائن المستكين صمتاً , و خصوصاً عندما يسألن أمي بصوت خفيض اقرب منه لفحيح حية تريد الانقضاض على فريستها : ألم تُخطب أمينة بعـد ؟؟ وكأن أمي لو حدثت هذه المعجزة لن تسارع إلى إعلان الخبر السعيد في اليوم نفسه ضمن الأخبار الرئيسية على كل القنوات الفضائية المتاحة، و تخبر القاصي والداني
بالأمـــــر .

ثم أتى هذا الرجل بعد سنوات من حبسي لنفسي في المنزل الذي خلت نفسي أني أصبحت أحد معالمه و أركانه ... أتى بمواصفاته القياسية في السوء ليطلبني .. لم يكن ثمة ما يغري بقبوله .. فهو يكبرني بأجيال ... متزوج ... حتى أن أولاده متزوجون و لديهم من الأطفال ما يتكفل بمـلء حارتنا... دميم الشكل ... ثقيل الظل ... متواضع الإمكانيات بكافة أشكالها... لكنه رجل على أيـة حـال .

و حتى هذا الثقيل أتانا محملاً بالشروط التي تكفـّـل بقبولها جمال لا املكه و عمر مفترض للزواج كنت قد تجاوزته ... لذلك كان علينا قبول بنود الاتفاقية التي سيبرمها لاحقا مع أسرتي ... فزواجي به سيكون عرفيا ...و لن يعلن هذا الزواج أمام عائلته .. و لن يستطيع الإقامة معي و لا حتى ليومين متواصلين .. إنما سيأتيني كل بضعة أيام عندما تسمح ظروفه بذلك... و طبعا ... لن يسمح لي بالإنجاب , و كان هذا الشرط دون غيره طعنه نجلاء غارت في عمق مشاعري دون أن يبدو على ملامحي أي أثر لآلامهــا , فأنا كأي أنثى في هذا العالم - واستميحكم عذراً فأنا لا اقصد الشكل طبعاً -كان حلم الأمومة القابع داخلي ناراً تشتعل بي كلما لمحت طفلاً , حتى أنني أصبحت بمثابة الأم لكل أطفال أخوتي , بل و لكل الأطفال في حارتنا .. كانوا يحبونني ببراءة و صدق لم احصل عليهما من قبل .. لم يشكل قصر هامتي و ضآلة ملامحي أي فرق لديهم فاصبحوا عالمي الذي احــب .

أتت أمي مسرعة بوجه مستبشر تـنقل إلي بشراها السارة بان هذا البغـل تنازل و تواضع و طلب يدي ... و بالطبع لم استطع أن أمانع - إزاء الفرح الذي سرى فجأة في منزلنا و طال حتى ملامح أبى التي لا تستطيع قراءة ما يعتريها من مشاعر عـادة - اقـتراني بهذا الغريـب.. و تم زفافي بترتيبات اقل من عادية تتناسب و العروسين في تواضعها ... ارتديت ثوبا كنت قد اقـتـنيته يوما لاحضر به عرس ابنة عمتي التي تصغرني بعشرة أعوام و تكبرني بجمال باهر وعينين حالمتين... ثم سحبني هذا الرجل من يدي كما قد يجر طاولة إلى منزل صغير , أو بالأحرى غرفة متواضعة استأجرها لي قريباً من منزل أهلي لكي يقوموا بأعباء الزوجية غير الخاصة في غيبتـه التي قد تطول غالبـا .

استيقظت البارحة وحيـدة بين جدران غرفة الزوجية , أنا اشعر بان جدران تلك الغرفة ستنقض علي , وغثيان يكاد يمزق أشلائي , و مزاج ضبابي يوشك أن ينال مني , و أشياء أخرى تعتمل في داخلي لا أدرك كنهها ... أتت أمي ظهرا فأسررت لها بما يعتمل في جسدي فوجمت ثم سألتني أسئلة خاصة جداً, وما أن أجبتها على تساؤلاتها وأسئلتها هذه حتى اكفهرت و نظرت الي نظرة من يحمل كارثة بين شفتيه يوشك أن يطلقها ... وهمست : يا للمصيبـة أنت حامل .

لا ادري لماذا تكون الحياة قاسية علي إلى هذا الحد... حتى حملي ترفض الدنيا أن تقابله بفرح كما يحدث لأي عروس في حملها الأول , بل يقال عنه انه مصيبة و كأنني احمل في أحشائي ثمرة خطيئة لم اقترفتها .. اندفعت الدموع من عيني غصبا عني و أنا الملم أشلاء كرامتي التي بعثرتها إهانة وجهتها لي أمي دون أن تقصد .. كنت صرعى مشاعر متناقضة تنال مني بين فرح ليس من حقي الشعور به وفق بنود العقد الذي حُرر لصالح هذا الرجل الذي هو زوجي , و بين قلق و خوف من إخباره بخبر كهذا بالتأكيد لن يكون من دواعي سروره .
كأنني لا احلم بطفلي..لا أتوق إليه .. لضمه إلى صدري ..لاشتعالي بحبه.. لإعطائه حناناً لم أعطه لاحد من قبل لأني لم أصادف من أغدق عليه حناني .. لم أصادف من يستحقه .

أخرجتني أمي من عالم أفكاري إلى الواقع مباغتة إياي بقولها : لنذهب إلى الطبيبة ... ستجهضك قبل أن يعلم زوجك به حتى لا يغضب و ينهال عليك ضرباً .

عفوا نسيت أن اذكر في معرض حديثي عن زوجي أن ضربه لي كان هواية سيادته المفضلة ووسيلته للترفيه عن نفسه, بعدها كان ينقض علي كالبغل .

كانت أمي تنظر الي منتظرة إجابتي أو بالأحرى تجاوبي لما افترضته حلاً مثالياً لطيبتها و جبنها في مواجهة رجلين , أبي و زوجي , عندما فاجأتها أنا هذه المرة صارخة و الدموع تتسابق على خــديّ : لا ... لا ... و كانت تلك هي المرة الأولى في عمري كله التي أقول فيهــــا ( لا ) .. شعرت وأنا أقولها بنشوة عميقة في داخلي.. نشوة لم اعرفها قبلاً , و كأن كل الصحارى التي كانت تكسو قلبي فجأة اخضرت و أزهرت و سقاها مطر ربيعي دافئ في انتظار عصفورها الصغير ليكتمل مشهد الربيع الذي أورق بمجــرد خـبر صغـير كهـذا ... و من قال انه خبر صغير ؟؟؟ ... انه بحجم عمري و حزني و انتظاري و حرماني .. بحجم أحلام لم اجرؤ يوماً على أن احلم بها أو حتى أن أبوح لاحد بأنها قد خطرت في بالي أصلا.

ردت أمي باستكانتها المعهودة : سيضربك يا أمينة , دعينا نذهب للطبيبة و نتخلص منه.

أدهشني هذا المنطق المقلوب .. أ أتخلص من حلمي ؟؟.. من طفل انتظر أن أضمه إلى صدري ؟؟.. من جـنين أحببـتـه قبل أن يتكون و يصبح طفلا لأجل رجل لا أطيقــه ؟؟.. لا , لـن افعل هذا.. لن ُيجهض طفلي إلا على جـثـتي .. سأحتفظ به مهما جرى و مهما كان الثمـن , فمن حقي أن أحلم.. ومن حقي أن يتحقق لي حلم واحد في حياتي .. ومن حقي أن أجـد سببـاً أعيش به وأحـيا من اجلــه .

نظرتُ إلى أمي بعينين ا متلأ تـَا بمزيج متناقض من الدموع والأسى والفرح والتصميم في آن واحـد و قلت لهـا والحــزم يخيم على صوتي للمرة الأولى مذ خُـلقـتُ : لـــــن افعـــــل هـــذا مهمـــا جـــــــرى .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى