الاثنين ٢٧ نيسان (أبريل) ٢٠١٥
سامي العامري في بعضِ

شَــذراتهِ الساحرةِ الممتعة «1»

هــاتف بشبوش

قبل هذه القراءة النقدية قد تناولت الشاعر سامي في مقالي الموسوم ( سامي العامري يستميح بالورد، بينما الآخرون يعزفون بالمخالب) وقد كتبتُ عنه أكثر من أربعين صفحة وكان ذلك عن ديوانه الرائع ( أستميحكِ وردا)، ولغاية اليوم لا أحس بالشبع وأنا أقرأ له، وأحيانا وأنا أقلّب الصفحات في الحاسوب فأرى أبياتا شعرية لسامي، فأشعرُ بأنّ لها شميماً نهريّاً خاصاً، لها طعم عامري المنتمي والمنسب، فأكون مجبرا مرغما على قراءتها، لأنني لايمكن أنْ أتجاوز قامة شعرية ساحرة وخلابة مثل هذه القامة، التي تدفع بالرقاب على الإلتفات اليه والى قبعته فوق رأسه التي تليق به كشاعر متميز كما هو حال القليلين من الشعراء الذين لهم علامات مميزة. فأنا أعتقد بأنّ الشاعر سامي هو الشاعر المتمكن على مسك زمام الشعر ورَكبهِ شهرة ًفي المستقبل، وأنا أقولها على الملأ مثلما قالها العندليب الأسمر( أقولها لو قلتها..أشفي غليلي... ياويلتي). كما وأنني في أغلب الأحايين حينما أكتب تعليقي على أحد ثيماته ونصوصه أجد نفسي على سجيتي وعلى راحتي، أجد نفسي في فسحةٍ صافيةٍ في هذه النصوص أدناه، الطازجة والجديدة على القارئ، مثلما نقرؤها في الأروقة الفيروزية التي وصفها الشاعر سامي في نصه الغنائي الذي يُطرِب النفس (أغنية طائر الخريف)..........

فالفراقُ سأحملُهُ الآن طَيَّ جناحي
وألقي بهِ في قرارة بحرٍ
يفيضُ بحيتانهِ الجائعهْ
عند ذاك التقينا !
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
لكأني هنا أرى الشاعر سامي واقفا منشداً، من على سلّم الهوى الفيروزي، الذي يصدحُ بأغنية الرومانس ( غداة التقينا على منحنى). كما وأنّني أراه على دروٍب زايزفونيةٍ معطرة بالقول الكلاسيكي العذب (فاشرح هواك فكلنا عشاقُ ) ألقاهُ مصمماً على أنْ يصنع المستحيل، بين الطيران والأجنحة التي تتطلب القوّة في أعالي السماء وبين الريح العاتية، مثلما أسطورة أكاروس وداليدوس اليونانيين، الأب والإبن اللذين طارا من سجن الجزيرة بأجنحةٍ من ريش. يحلمُ الشاعر في التحليق، راجياً التحرر واللقاء، حاملاً الفراق، إلى قرارة البحر العميقة التي من يدخلها لامحال فأنه مفقودُّ، مفقود. إذن هذا هو حال الفراق البغيض، فكيف لنا والشاعر يصيّر الفراق غرقاً، تتلاقفه أفواه الحيتان وأسماك القرش، ورغم ذلك فأنه مصراً على اللقاء، أيةِ صورةٍ رائعة هذه التي ترسم لنا عاشقا يود اللقاء حتى لو كان بين فكي القمقم، اللقاء الذي يشرح ما في النفوس وهمومها، لقاء الأحبة أم لقاء الأصدقاء، اللقاء هذا الذي يُكتمل في أبهى صوره مع الوصال الشهرزادي في قصص ألف ليلة وليلة، فينام الحبيب قرير العين، لايلوي على شئ غير أنْ يغني لفيروز ( سنرجعُ /خبرني العندليب / غداة التقينا على منحنى / بأنّ البلابلّ لما تزل هُناك تعيشُ بأشعارنا..)، ثمّ يطير متحرراً من قيده في عرض السماء، كي يودع ساعاتٍ جهمةٍ قضاها رغما عنه لغيره، كما نقرأ في الشذرة أدناه :

لقد كان عمري لغيري...
تسمَّرْ
ومررتُ بحاضرتي الآنَ،
أبهى سلامٍ إلى مدنٍ ما تأمَّلتُ مبسمَها الحلوَ
إلا لكي أتحرَّرْ

عجبا لهذا العمر، الذي مضىى و لم نعشه على هوانا، مسيرون على الدوام، الشطط الكبير من العمر محقهُ المجرمون الطغاة، وشططُّ آخر مضى على حب فتاة من طرف واحد، ولم نحظَ منها سوى إختلاس النظرات هنا وهناك، وما تبقى، طفولة بائسة لم تعرف الدمى ولا الحلوى، ومراهقة تشكو حتى اليوم من الضاقة والحرمان. بالمختصر المفيد، مضى العمرُ كله عطاء لغيرنا، ورغم كل ذلك أرى الشاعر سامي صابراً متأملاً الى كل ما ينتمي الى عالم الجمال والبهجة، محدقا من نوافذ قطارات العمر الى البهاء الذي يثير فيه كلّ نبض الحياة. الشاعر سامي مرّ بالكثير من المحطات التي يتبادل فيها الناس الصعودَ والنزول، مر بالكثير من المدن، على غرار الشاعر اليوناني كافافيس الذي أتعبه هذا الحال كثيرا، لكن سامي لايرى في هذه المدن سوى المبسم الضاحك، والهواء العليل الذي يفتح له أبواب الحرية على مصراعيها، والسعادة الوقتيّة، والصور البديعة من الطبيعة التي رسمها لنا بريشة مخياله الشاعري وما تحويه حياته من منعطفات أثناء ترحاله في داخل ألمانيا أو خارجها. الشاعر، أي شاعر حقيقي هو توّاق لرؤيا الطبيعة على حقيقتها، وإذا ما تراءت له عن قرب، نجدهُ يفيض حباً بما يراه ويبوح جمالا وبهاءً. لنقرأ سامي وهو في منتصف هذه الطبيعة الخلاّبة وأمامها، بل هي في داخل سويداء عينه، كما في الثيمة أدناه وهو ينظر من خلال زجاج القطارات الصاعدة :

أبقارٌ ومراعٍ...
الأبقارُ، جلودُها مضرَّجةٌ ببُقَعٍ سودٍ وبيض
تتتابع أمام العين كتعاقب الليل والنهار
والمراعي ساكنة
أو هي المراعي ساعةٌ يدويةٌ
عقارُبها أبقار !
وجئتُ ومعي ساعة يدٍ قديمةُ الطراز
ضُبِطَ وقتُها وفقاً للتوقيت النسوي
فثمةَ
فاصلةٌ بين الآهة والآهة،
فاصلةٌ كجدارٍ يتدفق
وحَلَمةٍ تشهق
وعند المساء
حزنتُ لابتلاع الغيومِ القمرَ
فهتفَ بي وهو في أحشائها : لا عليك، سأتدبَّرُ أمري
فقلتُ له : وأمري أنا أيضاً !
فما بيننا زجاجُ نافذةِ القطار
وزجاجٌ آخرُ
كان قد تهشَّمَ ببطء على بَلاطات قلبي السابق

لا أدري بالضبط هل هو القطار الصاعد من لاهاي الى دار إقامته في المانيا، لنقل هو على أغلب الظن، لأن هناك ما يشير الى الطريق المطرّز بالكثير مما قاله وشاهدته عيناه من خلال القطار العائد الى ألمانيا، كما وأنه قد أشار الى ذلك على صفحة التواصل الإجتماعي بسفره هذا الى هولندا.الطريق الذي يبدو لنا من الوصف الدقيق والمذهل، عبارة عن لوحة فنية حية ومستعارة من المشاهد التي رأتها عيون الشاعر عن كثب ومن خلال زجاج النوافذ. الأبقار المرقطة التي توحي الى أبقار الفريزين من أصل دنماركي، ولكنّ المحيّر في الأمر كيف تراءى للشاعر تعاقب الليل والنهار من خلال هذا الترقيط بين الأبيض والأسود، أنها المخيلة التي تشتغل على قدم وساق لدى الشاعر الفذ سامي. ثم تنتقل بنا الكاميرا البانورامية للشاعر سامي وتصور لنا ذلك البراح الجميل والمروج الخضراء، التي تتناغم مع الوقت، لها لونها السحري بعد المغيب وبعد أنْ تبتلع الغيوم (القمر) سيد الأضواء، الذي يعرف كيف يتدبر أمره في كل الأحوال، هذا هو الشعر حينما يسطع مع الوقت ومع عقارب الساعة. الشعر حينما يتناول عقارب الساعة وأمنيات الوقت الذي يعلن دروسه لنا، يكون شعراً سينمائياً يستحق أن يُسلّط عليه الضوء، يستحق أنْ يدخل في تصنيف الشعر المسرحي، الوقت هذا الذي نعرفه من ساعاتنا التي نضعها على أرساغنا ونسمع دقاتها كما دقات نبض القلب، الوقت الذي يشغل كل تفكيرنا، في كيفية قضائه وخصوصا بالنسبة لكبار السن، هذا الوقت أصبح اليوم في متناول السينما العالمية وفي كثير من الأفلام ومنها الفلم العالمي ( المسخ بنجامين بوتون)، من تمثيل الممثل البارع ( براد بت) والممثلة الحسناء (كاتي بلانشيت) والذي يتناول موضوعة الوقت وكيفية صيرورة الحياة بالمعكوس، أي لو تسنى لنا أنْ نعيش الحياة بالمعكوس فما الذي يحصل، أي لو أننا نأتي أو نولدُ من القبر أو في عمر التسعين أولاَ، ثم نأخذُ في الصِغَر شيئاَ فشيأَ، ثم نموت ونحن في أحضان أمهاتنا أطفالاَ نرضع ونحظى بكامل الحنان. هي فكرة حالمة وفيها من الخيال الذي ينعش قلوبنا، نحن البائسين الحزانى على الدوام، نحنُ الذين نحدّق من زجاج القطارات الى كل هذه الجمالات التي رأيناها من خلال قلم الشاعر الفذ سامي، وهو في طريقه عائد الى إيثاكاه في ألمانيا. صعود القطارات يذكرنا بالشاعر الفرنسي الكبير (أراغون) حينما صعد القطار وتشاجر الى حد الملاكمة مع أعز أصدقائه لسبب شراهية أراغون في طريقة أكله لوجبة طعام سريعة، لدرجة أغاضت صديقه. هي هكذا الحياة شجار وتصالح، مناكفة ووئام، حرب وسلام، كما نقرأها في السطور أدناه من نص ( أيتها الدرويشة)......

تعايش السلام والحرب في زجاجة كولا
داخلَ سرداب فترةً طويلة
حتى جاء من يشتري الزجاجة وقد أخذه الظمأ
وحين فتحها وجد الحربَ معافاةً والسلامَ هزيلاً
فأغلق الزجاجة ورماها في البحر
فتسلمها على الساحل الآخر عاشقٌ ففتحها
فوجد العكس : الحرب هزيلة والسلام بصحة ورشاقة
فأعادها من حيث أتت
فعثر عليها مَن رماها أول مرة
فتبسمَ وقال : الحرية أول سُبُل السلام
حتى لو كنتَ تنظر لها من خلال زجاجة !

ثيمة لقصيدة ابتدأت بالحرب والسلام، يمكن لنا أنْ نقول عنها أنها تعني حياة الروائي الروسي الشهير ( تولستوي) الذي كان يحتضر ويرفض دخول الكاهن للصلاة عليه، لأيمانه العميق بقضيته العادلة وحركته التولستويه أنذاك في نصرة الفقراء والمعدومين. ثم نقرأ في الثيمةِ عن البحر، هذه تعني الشيخ والبحر وهمنغواي العاشق لحبيبته وزوجته ( مارتا كيلهورن) أو همنغواي يصطاد السمك ويعاند شراسة الطبيعة، ثم تضئ الحرية في النص التي تعني فيلم (الحرية تلك الكلمة الحلوة ) التي جسدها أسبوع الفلم السوفيتي أيام السبعينيات، والحرية التي نطقتها الثائرة مدام رولان الفرنسية قبل أنْ تعدم، ثم ما بين هذه وتلك،البانوراما الزجاجية التي نستطيع من خلالها أنْ نرى في أي عرشٍ يتربع سامي العامري، سامي الذي لم يترك أية شاردة أو واردة حتى أنبأنا عنها، فها هو يخبرنا عن البلوى والمصائب التي تحل بالبشر على حين غرّةٍ، والتي تفوق التصور والواقع، مثلما نقرأ في التضاد بين مترادفتي السعادة والمأساة، من نصوص قصيرة بعنوان ( سنون وذبالات).......

السعادةُ كالطاووس
جميلة إلا أنها نادرة التحليق
لهذا فقليلاً ما تراها في فضائك
أمّا المأساةُ فكالكنغر
قفزة واحدة منها
وإذا بها في أحضانك !

هكذا هو حال الحياة التي أتعبت نيتشه والتي أدت به إلى أنْ يكون مختل العقل لا يعرف حتى مؤلفاته في أواخر أيامه وما من معين سوى أخته، هذه واحدة من الأمثلة على التراجيديا الفردية، و هناك الكثير من المآسي التي حلّت في جنس البشر وعلى إختلاف مشاربهم، وحينما تأتي فأنها لاتستأذن ولاتطرق الباب، بل تدخل صميم القلب حتى تقطع نياطه دون رحمة ولا أسفٍ ولا أعتذار، كما يحصل اليوم في عراقنا الجريح للكثير من العوائل التي تفقد أبناءها من جراء الحرب الطائفية الدائرة. لكننا في نفس الوقت لم نجد سوى القليل مما يروى عن السعادة، السعادة تلك التي لا يمكن لمسها، أنها قبضة ريح.
ما رآه سامي من أماكنٍ ساحرة وطبيعةٍ مثيرة، لايمكن له أنْ يجدهما في بلدان الشرق، وبلده بالذات وما مرّ به من بؤس، لعمري جعلتْ منه شاعراً فيلسوفاً في لحظةٍ شاعريةٍ من الزمن، شاعراً راسخاً ونيّراً لاتخيفهُ دهاليز الروح المعتمة، مثلما نجدهُ في السطور الفضية ( نص الكينونة السارة) والغنيّةِ بالكثير من المفاهيم....

يتبـــع في الجزء الثانــــــي.....

هــاتف بشبوش

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى