الأحد ٣ أيار (مايو) ٢٠١٥
بقلم فيصل سليم التلاوي

الرجل المناسب في المكان المناسب

يبكر عبد الموجود إلى دوامه، فهذه عادته المزمنة التي فطره الله عليها، منذ أن بدأ حياته موظفا قبل ما يزيد على عشرين عاما. فإذا كانت بداية الدوام في الثامنة صباحا، فإنك واجده أمام باب الدائرة في السابعة والنصف، في اليوم الذي يتأخر فيه، أو يعيقه عن التبكير قبل ذلك عائق، ويبرر ذلك بقولته المعادة:

 أسبق زحمة المواصلات، وقبل أن يتدافع الخلق جميعا: موظفون وطلاب وساعون إلى أرزاقهم في ساعة الذروة، فيطبقون بكثرتهم وتزاحمهم على خناق وسائل المواصلات، ولا يبقون مكانا لأحد.

يجد نفسه دائما أول الواصلين، رغم أنه يسكن في طرف قصي من المدينة، وربما كان أبعد الموظفين سكنا عن مقر الدائرة. ينتظر حتى الثامنة، عندما يصل الحاج شلبي حامل المفاتيح والأسرار، ذلك الرجل العجوز الذي يعمل آذنا في قسم شؤون الموظفين، ليفتح الباب الرئيسي، ثم يعمد إلى دُرج مكتب قديم، يخرج منه دفتر التوقيع، فيتدافع الموظفون الذين حضر بعضهم تباعا خلال نصف الساعة التي انتظرها عبدالموجود، أما أغلبيتهم فيتوافدون على مهلهم بعد ذلك. يوسعون مكان الصدارة في السطرين الأولين لمدير الدائرة ونائبه ريثما يحضرون على راحتهم، ثم يتسابقون على ما بعد ذلك، حيث يبدأ العد من رقم ثلاثة فما فوق، ولا يجد عبد الموجود نفسه إلا آخر الموقعين أو قريبا من ذلك. ما التفت أحد يوما لأسبقيته، ولا فكر أحد يوما أن يكون التوقيع حسب أولوية الحضور، وعبد الموجود لا يعترض على شيء من ذلك، ولا يحرك ساكنا، ويكتفي بالصبر الجميل وتكرار عبارته المعهودة:

 (الأول زي الآخر، كله توقيع). ثم يكمل محدثا نفسه:

 (يمكن على باب الجنة زي كده يتدافعوا)

يتوجه مباشرة إلى مكتبه في الغرفة التي يشاركه فيها خمسة زملاء عمل، ما سبقه منهم أحد في الحضور ذات يوم، ولا يبدأ توافد أولهم إلا بعد حوالي نصف ساعة من بدء الدوام. لا يشغل عبد الموجود عن توجهه صوب مكتبه لا فنجان قهوة ولا كوب شاي، ولا تناول أطراف الحديث مع أحد الزملاء حول آخر حلقات المسلسل التلفزيوني لليلة أمس. يجلس خلف طاولته ويهيئ ملفاته وأقلامه، ويستعد لاستقبال المراجعين الذين يندفعون نحوه، ويتحلقون حول طاولته، وقد خبروا بطول تجربتهم أنه الموظف الوحيد بين زملائه الذي يحضر مبكرا، فيبكرون بحضورهم قبله منتظرين بداية الدوام، كما جرت العادة.

ما يحير أي مراجع أو قاصد للدائرة أن سيل المراجعين الساعين لإنجاز معاملاتهم، لا ينقطع من أمام طاولة عبد الموجود من بداية الدوام إلى نهايته، بينما مكاتب زملائه الخمسة لا يقصدها إلا مراجع جديد، غير خبير بالأحوال، ولذلك فهم يمضون ساعات دوامهم يتبادلون أطراف الحديث، ولا يتركون موظفا في الدائرة بطوابقها الأربع، من آذن الطابق الأول الحاج شلبي حتى سيادة المدير العام، إلا خاضوا في سيرته و ...، وإن خفضوا أصواتهم وصار حوارهم مهموسا، عندما يصل إلى ذكر الشخصيات الرفيعة. ولا يغفلون عن ممارسة طقوسهم اليومية المعتادة، ففي الساعة التاسعة ينسل أبو السعيد كعادته مغادرا، قاضما ساعة أو ساعتين من عمر الدوام، يلحق فيهما السوق في أوله، ليشتري لوازم البقالة التي يملك، والتي سجلها باسم زوجته للتهرب من القانون الذي يمنع الموظف من مزاولة عمل آخر، يجب أن يلحق الخضار والفواكه طازجة، وقبل أن يتخطفها التجار. ما إن يعود بالسلامة حتى يغادر أبو العبد مدة ساعتين، يشتغل فيهما سائقا على تكسي الأجرة المشترك بينه وبين جاره. بينما يتبادل الخمسة فيما بينهم وبالدور والنظام الدقيق غياب واحد منهم فقط يوميا، بينما يغطي الأربعة الباقون انسحابه، ويوقعون نيابة عنه في الحضور والانصراف.

عبد الموجود وحده من هو خارج هذه الحلقة المستحكمة، وعليه وحده يتدفق هذا السيل الذي لا ينقطع من المراجعين، وإن أومأ إلى مراجع يوجهه نحو طاولة أخرى خلفها موظف خال من العمل، وجده قد تظاهر بالموافقة، لكنه يلمحه وقد انسل خارجا، ليعود بعد حين ويدس نفسه في ذيل الطابور الممتد أمامه. بينما يتهامس المراجعون فيما بينهم:

 هذا وحده الذي ينجز لك المعاملة، ويدققها ويوجهك للصندوق ثم للمدير.

 أما غيره فيتناول ملفك ويدسه في الدرج قائلا: عد بعد يومين أو بعد أسبوع.

 إلا إذا أودعت – المعلوم – تحت غلاف الملف، عندها فقط تنجز معاملتك.

 عبد الموجود هو وحده من يعمل لله ويسهل أمور الناس، الله يوفقه ويسهل أموره.

وتمضي الأمور على هذا المنوال، لا يتشكى عبد الموجود كثرة العمل وتكالب المراجعين عليه، وضرورة توزيعهم على زملائه المنشغلين بتوزيع الأدوار، وتقسيم أيام الدوام وساعاته بينهم، وكأنها الوقت الضائع. أما عمل كل منهم الفعلي، وما يكرس له كل جهده، فهو مشروعه الثاني الإضافي الذي يمارسه بعد ساعات الدوام، أو خلال الساعات التي يسطو عليها من زمن الدوام. وتأتي نهاية العام فإذا العلاوة السنوية دورية للجميع دون استثناء، أما مكافآت الحوافز وساعات العمل الإضافي، فإن بعض زملاء عبد الموجود في نفس المكتب، وبقدرة قادر يتفوقون عليه فيها، وبعضهم يماثله، لكنه لا يتذكر أنه قد وجد أحدا أقل منه ذات مرة.

وزملاء عبد الموجود لا يبقون على حالهم، مثلما تسمر هو في مكانه طيلة عشرين عاما، إنهم لا يمضون في صحبته سوى بضع سنين، ثم تتفرق بهم السبل، ويتطايرون من حوله، بين رئيس قسم ومدير شعبة، ومدير عام لفرع الدائرة في حي آخر أو مدينة أخرى، ليأتي غيرهم من يجاور عبد الموجود حينا، ويسلك نفس سيرة سابقيه الأولين، ثم يقفز إلى منصب أعلى.

لما طال على عبد الموجود الأمد، وانقضت عشرون عاما من عمره الوظيفي، وهو في مكانه الذي لم يبرحه، وصار متاحا له التقدم بطلب تقاعد مبكر، قرر أن يفعلها، رغم أنه لم يكن قد أعد لهذا الأمر عدته، فلم يكن قد هيأ لنفسه مشروعا آخر ينصرف إليه بعد تقاعده، مثلما كان للآخرين مشاريعهم الجاهزة حتى أثناء دوامهم. لكنه عزم على ذلك قائلا:

 الأرزاق بيد الله، وسيسهلها في وجهي مثلما سهلت أمور الناس طيلة حياتي.

قبل ثلاثة أشهر من نهاية عامه الوظيفي العشرين، وهي المدة القانونية اللازمة لتقديم طلبات التقاعد المبكر، تقدم عبد الموجود بطلبه، وانتظر نهاية المدة ليظهر اسمه ضمن قائمة متقاعدي ذلك العام. لكن ما أثار دهشته وعجبه، أن القائمة قد أعلنت في موعدها، وعلقت على لوحة الإعلانات، ولم يكن اسمه ضمنها، ما دفعه للتوجه فورا إلى مكتب المدير العام مستفسرا:

 سيدي، لقد تقدمت لسيادتكم بطلب تقاعد مبكر ضمن المدة القانونية، لكن اسمي لم يظهر بين أسماء المتقاعدين.

 نعم، لقد رفض طلبك نظرا لحاجة المؤسسة الماسة لخدماتك.

 لكن طلبي قانوني، وتضمنه لوائح الخدمة المدنية في المؤسسة والبلاد جميعها.

 وتضمن أيضا حق المؤسسات والدوائر في التمسك بمن ترى أن خدماته ضرورية، والاستغناء عنه يلحق ضررا بالغا بسير عمل المؤسسة.

 سيدي، وما الضرر الذي سيلحق بدائرتكم جراء تقاعدي؟ لست سوى موظف عادي، أستقبل طلبات المراجعين وأدققها بحثا عن نواقص، ثم أحولها للجهات المختصة، وفي المكتب خمسة موظفين آخرين يقومون بنفس هذا العمل، ويمكنكم أن تجدوا من تشاؤون من موظفين لشغل هذه الوظيفة التي لا جوانب فنية فيها.

 لكنهم لا يتقنون هذا العمل مثل إتقانك له، التقارير تقول إن إقبال المراجعين عليك بالذات كان إقبالا منقطع النظير.

 سيدي، ولهذا رقيتم كل زملائي، وكل من جاؤوا بعدي مرات ومرات، ليصبحوا رؤساء أقسام ومديري شُعب ومدراء عامين لفروع، وبقيت مكاني موظف استقبال؟!

 نعم يا سيد عبد الموجود. فالرجل المناسب في المكان المناسب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى