الخميس ١٤ أيار (مايو) ٢٠١٥
بقلم محمود فهمي عامر

قراءة في الأدب الروماني المعاصر

لن أعود إلى ماضي الأدب الروماني وعلاقته بغيره، وبين يدي حاضره الممزوج بمعارفه الحدسية والاستبطانية المعبرة عن وجوده الاستثنائي.

ما يهمني في الأدب الروماني المعاصر تلك الضرورة الإنسانية الناضجة التي مضت به على نحو إلهامي إلى أسرار الكون بقناعة أساطيرها، حتى غدا الشعر كما قالت ميهاييلا ألبو (مثل الحبِّ خارج الزمن) أو:

بِداية العالمِ - شعر!
مَصوغ بالضوءِ
مَصوغ بالحياةِ
عاش في الأحلامِ
طير العنقاء - شعر !
* * * *
مستقبل الاستعارة
لون الأملِ
وغبار مِنَ النجومِ
تكبحُ بيجاسوس
تُعطي أجنحتَه للحبيبة
لتطير بعيدًا بعيدًا
ما بعد الغيوم

بهذا الفهم الضوئي واستعاراته تشكلت ملامح الأدب الروماني الذي فرض هيبته على الساحة الأدبية العالمية حتى أصبح حياة تتنفس الصبح، ومثالا يحتذى، ويقينا ثابتا في قول كلارا مرجينانو:

كُنْتُ أَعْجنُ الضوء بذراعي
كُنْتُ أَرى ظِلَّكَ على الحائطِ
كُنْتَ تَرْقصُ في مرآةِ جسدي
ضممتك بقوة على صدري
بالحبِّ والحزن
حين كنت قاتلي
لهذا لن تستطيع قتلي
لِهذا سَأكُونُ لَك
مجرد حياة

إنها الضرورة المحلقة بمواقفها الدرامية وأناها المتعالية التي تحمل في حقائبها شعار الرضا عن ذاتها المعتمدة على دلالة الكلمة، وقوة الحدس، واللحظة المعاصرة المختمرة بخيالها في مشوار إبداعها الملتزم بمشروعها الإنساني، وتجربتها الفريدة المتمردة على واقع لا يستمد وجوده من دلالاته السحرية، هي قصيدة ما ورائية كما حباها آسيان ماريا سبيردون، وهي كما وردت في عنوان قصيدة الشاعر أوريل بوب (مادة الشاعر الخام التي لا تتعطل أبدًا):

بين مزاجين في متحفِ القرية
في العاصمة
واحد يُعلّمُ أسلوب المسير الاحتفالي
حيث تَستقرُّ الحروف في جذورِ الصرخةِ
لا أحد يستطيع أَنْ يَعتقلَ الكلمات
التي تَفِيضُ بمادة الشاعر الخام
التي لا تتعطل أبدا

وهذه الحالة الإنسانية الرومانية الحالمة بعالم غير مألوف كان لها دور كبير في تلوين أعمال المتأثرين بهذا الأدب، الذي ساهم من جهة أخرى في تغيير بعض المفاهيم المتعلقة بعالم القصيدة الكونية وشروطها العالمية.
ومن هنا يأتي دور الترجمة الواعية المشتركة، من هذه النافذة المعنوية التي تحمل نسمات هذا الفهم الإبداعي الروماني بمداد التواصل الإنساني والعطاء الثقافي والحضاري؛ ليصل أريجها إلى كل مكان يؤمن بهبة الخيال ومتعة التذوق الفني الخلاق دون قيد أو حصار في مسيرة مخاضها الفني وولادتها العالمية.

وأول العطاء عندي يكون بأثير الترجمة التي تحسن اختيار النصوص المثيرة بذبذباتها الصالحة للامتداد العالمي والتوافق الحضاري والثقافي.

وهذا العطاء الذي أعنيه لا بد أن يحمل في طياته قلق التأثير والشعور بالمسؤولية، وعلاقة المترجم بعمله المتتابع الذي يمنح للقارئ خيارًا نحو الدخول إلى عالم نصوصه المختارة من مداخل متعددة للمثاقفة أو الانفتاح على الثقافات.
نعم، لم تعد عملية الترجمة عملا ثانويا، ولا يمكن أن نعاملها معاملة دونية أو على أنها أقل حظا من أخواتها في أنشطة ثقافية أخرى، كما عبر عنها يوما الناقد والشاعر الإنجليزي دريدان في مقدمة ترجمته لملحمة الشاعر الروماني فيرجل الإنيادة: (نظل عبيدا نعمل في حقل إنسان آخر، نزرع العنب، ولكن النبيذ لصاحب الأرض)، وعلينا أن نفهم أن النص قبل الترجمة يعد أصليا وبعد الترجمة كذلك، بل ربما كانت الترجمة حياة لنص ميت ولقارئ محدود الثقافة العالمية.
لقد صدق هيكل عندما قال: الأغبياء وحدهم هم الذين لا يغيرون آراءهم، وليس عيبا أن يعترف الإنسان بتقصيره وفضل الآخرين عليه، فقصتي مع الأدب الروماني تفسر هذه الحالة المتعانقة، حيث كنت أعتقد أن حدود الترجمة تنتهي بالأدب المقارن المجحف بحق النصوص وبيئاتها المتنوعة، ومن هذه الطاقة الضيقة التي تفرق ولا تجمع كانت لي قراءات محدودة مع الأدب الروماني وغيره، ولم تصل إلى مرحلة التذوق المنهجي كما عبرت عن ذلك في لقاء مع صوت رومانيا العالمي.
لم أتوقع أن يكونَ الأدبُ الروماني المعاصر بهذا الوجود الحضاري والإنساني، وذلك البهاء الفني قبل قراءتي ومراجعتي لدوايين رومانية، لقد قرأتُ معظمَ الشعراءِ قراءةً واعيةً قبل هذا العمل، من مثل قراءتي لـ: الإعلاميين يونا ماتو، وفيكول، والشاعرة إميليا ستانسكو، والأستاذة الجامعية ميها ألبو، ولكن تجربتي الحقيقية مع هذا الأدب كانت خلال تقديمي لديوانين شعريين، الأول بعنوان: (فسيفساء الروح) للشاعرة كورينا ماني غيرمان، والثاني للشاعر الفيلسوف والمثقف دينيّا ماريوس كيلارو بعنوان: (نحو شفاه السماء)، ووجدتُ نفسي خلال العملين في فضاءٍ حضاري وإنساني يعبق أدبا عالميا منافسا، وعدت بذاكرتي إلى عطاء أجدادنا وموسوعاتهم عندما كان العطاء لأجل العطاء الإنساني لا لشيء آخر.
بهذه الترجمات الصادقة للأدب الروماني، وبتلك الأعمال المشتركة، تجد نفسَك في كل قصيدة مع لغةٍ جديدة وصورةٍ مبتكرة تختلف عن غيرها من الصور، عندما تقرأ في الأدب الروماني تشعر بتلك الأجواء الخاصة لشعراء مختلفين فنيا يحترمون الذات الإبداعية المتجددة، ولست مغاليا عندما أقول تجد شعراء يخصصون لأنفسهم آلهة يعشقونها في أعمالهم الأدبية تذكرنا بشياطين الشعراء، فهذه الشاعرة أوارا كريستي تقول:

آه إلهي
وحيد ومتألق ومتعب جدا
هكذا اخترته

إنه الأدب الروماني الذي يعد تحفةً فنيةً يستطيع الناقدُ خلالها أن يمارسَ جميعَ نظرياته ومصطحاته النقدية، ففيها الأصلُ والأثر، والسيميائيةُ، والاختلاف، والتكراريةُ، والتقويض، هو أدب عالمي بامتياز يحاكي الإنسانيةَ بجاذبيةٍ عجيبةٍ وفلسفةٍ مثيرة، ويحلق بعيدا في الخيال، ويحفر عميقا في الحواس؛ فتشعر وأنت تقرأ الأدبَ الروماني وكأنك في كرنفالٍ أدبي عالمي بحداثته وما بعد حداثته بمرآتِه ونصوصِه المفتوحةِ والمغلقة والمقروءةِ والمكتوبة، أقول إنه أدبٌ ليلكيُّ الملامحِ أرجوانيُّ الطلة ملكيّ الأجواء، وهو أدبُ المبادرةِ الإنسانيةِ والحضاريةِ والابتكارِ الجمالي الذي تجاوزَ أسوارَ المحليةِ بعدما أفاد من أساطيرها وموروثاتها وبيئتها وعبر عنها بلغةٍ أدبيةٍ منتشرةٍ صافية بمواصفاتها العالمية، والرومان يبحثون بتواضع الأديب عن الفن الحقيقي والجمال أينما كان، ويختارون لبقع القصيدة صفقة الكلمات الموحية، وهذا ما عبر عنه أوريل بوب في قصيدته (حج الانشقاق في السعي في منتصف النهار)، ثم يتساءلون بعد ذلك على لسان فاليريو ستانكو في قصيدته (الحلقة المظلمة ساعة دخان): من يُعْتَقَدُ بأنَّهُ يَكْتبُ الكلمات؟!

ومن يقرأ قصيدتي (جدليات) و(بوستش الفأر) للشاعر لوتشيان فاسيليو قد يكرر السؤال نفسه: من يُعْتَقَدُ بأنَّهُ يَكْتبُ الكلمات؟!
(جدليات)

قليلاً قليلاً
تبْدأُ ماكنةُ خياطةِ الكلمَةِ
بالعمل
تاك... تاك... تاك... تاك
قليلاً قليلاً
يَمُوتُ الحصانُ وهو يَرْعى
****
(بوستش الفأر)
تغيَّبتُ أثناءَ النداءِ المسائيِّ
حُكِمَ عليَّ بثلاثِ ليالٍ
حراسة ليلية
الأمرُ:
لا تدعْ بوستش الجرذ يدخل
وتَركتُهُ يأتي
يَقْضمُ أصفادِي:
كرانتز كرانتز كرانتز

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى