الثلاثاء ٢٦ أيار (مايو) ٢٠١٥
بقلم تامر عبد الحميد أنيس

الشاعر

كان وائل حربي رحمه الله يحسب نفسَه شاعرا.
وكان ينظم أبياتًا متعثرة الولادة من مثل قوله:
أحايينُ دهرٍ تمتطي سُدَّةَ الوَعْدِ الذي يشتكي جلُّ المُحِبِّينَ مِنْهُ
مررتُ بها أو قل مررتُ ببعضها، فلم أشتكِ العنا، بعُدتُ أَسًى عَنْهُ
ويُدِلُّ بطولِ نَفَسِه الشعريِّ، وأنَّه يستطيعُ أنْ يأتيَ بمائة بيتٍ من مثل هذا، وكنت أكرَهُ أنْ أَسوءَه بحقيقة شعره، بل بحقيقة رأيه في نفسِه، حتى حضرتُ هذا اللقاء الذي جمعني وإياه وصديقينا عبد العليم الدماطي، وأحمد هاني.
لم نجتمع يومها عن موعد، بل كنت قد خرجتُ أتنسم هواءً منعشًا في ليلة من ليالي أبريل الربيعية، فرارًا من جوِّ البيت الخانق، بعد أن سافرت زوجتي مصطحبةً بناتي لزيارة أهلها في المنيا، فقد اتفقت معها على أن تسافر إليهم كل أربعة أشهر فتمكث هناك أسبوعا، وكنت أسافر معها مرة في العام نظرًا لظروف عملي.
خرجت إلى نادي المعلمين بشارع البحر الأعظم، قلت: الجو على النيل سيكون رائعا، لكنِّي أحببت أن يكون لي رفيق يؤنسني، فاتصلت بصديقي عبد العليم الدماطي، فصادفته مثلي يودُّ الخروج ولا يعرف إلى أين؟ كان عصبي المزاج بعض الشيء، سألته عن السبب فقال:
 حين ألقاك سأخبرك.
ظننت أنَّه كره أن يتكلم أمام زوجته، أو أن يطيل عليَّ في الهاتف، أو أن يؤخر خروجَه، لكنِّي عرفتُ بعد ذلك أنَّه كره أن يخبرَني، وصرتُ ألحظ هذا المسلك عنده، كلما أراد أن يُعمِّيَ أمرًا سُئلَ عنه، قال: سأخبرك لاحقًا!!
لا بأس، فالبيوت أسرار، وأنا لا أحبُّ أن أتتبع أسرار الناس، المهم أنِّي أرجو لهم الخير.
حين التقينا في النادي سألت عبد العليم عن سبب تعكر مزاجه، قال وهو ينظر إلى النيل:
 لا تشغل بالك، لا شيءَ يهم، بعد قليل أنسى.
قلتُ له:
 المهم أنت صحتك طيبة والأولاد بخير؟
قال بابتسامة باهتة:
 نعم، الحمد لله.
ولم يُتِمَّ كلمتَه إلا وصوتٌ مألوف يهتف من قريب:
 مرحبًا بأهل الغدر والخيانة!
التفتُّ إليه في ارتباك:
 وعليكم السلام ورحمة الله .. يا أحمد مائة مرة قلت لك الملافظ سعد، وأنا كنت سأتصل بك، لولا أني ذكرت ..
قاطعني ضاحكًا:
 ذكرتَ الدَّيْنَ الذي عليك لي فقلت حسبي من وجع الرأس والحرج.
هممت أن أقول شيئًا، لكنَّه التفت إلى عبد العليم قائلا:
 وأنت، أتذكرني في المصائب وتنساني في أوقات الاستجمام؟!!
نظر إليه عبد العليم في فتور، وقال:
 أمعك أولادك؟
أشار أحمد بيده إلى مقعد بعيد قائلا:
 هناك.
قال عبد العليم وهو يقرب إليه كرسيًّا من كراسي الطاولة التي نجلس إليها:
 إذن اجلس معنا، ودعهم وشأنَهم.
ضحك أحمد وهو يجلس، فقلت مستغربًا:
 ما هذا، يا عم قم، هل تريد أن تقذفنا زوجتك بالمولوتوف؟!!
علت ضحكته، وبدت على وجه عبد العليم ابتسامة صريحة، في حين قال أحمد:
 لا تقلق يا خالد، الوضع تحت السيطرة.
قلت في تربص:
 هل هدأت الأمور بينكما.
 ألا يكفي هذا دليلا؟!
 صحيح .. ما علينا .. أخبار الشغل معك؟
 الحمد لله، تمام.
قال عبد العليم وقد عاد إليه تجهمه:
 تمام! كيف وأنت تجلس معنا الآن؟ طيب، أنا وخالد مدرسا عربي، لكن أنت ما شاء الله مدرس رياضيات، يعني المفروض أن جدولك ملآن.
ردَّ أحمد وهو يبسط كفه في وجه صاحبه:
 أعوذ بالله! لقد اقتنصت ساعتين من أجل الأولاد، هذا ما اتفقنا عليه، ساعتان في الأسبوع.
قلت في حماسة:
 فكرة ممتازة !
ثم أتبعت مداعبا:
 وأحسن منها أن تضيع هاتين الساعتين مع أصدقائك.
لم يجبني أحمد، فقد كان يلقي ببصره بعيدًا متبينًا، ثم قال:
 انظرا، أليس هذا وائل؟
التفتُّ ورائي حيث يشير، وأنا أقول:
 أين؟
كان وائل حربي زميلنا في المدرسة السعيدية الثانوية، يجلس وحيدًا موليا وجهه شطر النيل، ممسكا بضعة أوراق في يده، ينظر فيها قليلا محركا شفتيه بقوة، ثم يهز رأسه طربا، أدركنا ثلاثتنا أنه على عادته يتلو بعض أشعاره، كان جسده يميل إلى البدانة، عيناه ضيقتان وفمه واسع، وفوقه أنف كبير، ورأسه خفيف الشعر أصلع الوسط، يحلو له كثيرا أن يحكه من أعلاه خصوصًا وهو يتكلم عن نفسه.
وقف أحمد قائلا:
 سأناديه، يجلس معنا قليلا.
قال عبد العليم في ضيق وهو يمسك ذراع أحمد:
 لا، الله يكرمك، أنا بي ما يكفيني.
سحب أحمد ساعده قائلا:
 يا أخي .. دعنا نتسلى قليلا.
قلت معاتبا:
 لا إله إلا الله، ما لكما، ألا تستحيان؟!
كان أحمد قد تحرك نحو وائل، فوجهت حديثي لعبد العليم:
 لا تخرج فيه ضيقك يا عبد العليم، فهو رجل حساس، سريع التأثر.
قال مستنكرًا:
 حساس !! الحساس هو من يحس بالآخرين، لا من يحس بنفسه، ولا يرى إلا نفسه.
 اخفض صوتك، فإنه يقترب.
أشاح بيده جانبا في ضيق، وهو يلتفت إلى صفحة النيل، ونظرت أنا ورائي من فوق كتفي اليمنى أرقب الرجلين مبتسمًا وهما قادمان، عندما اقتربا قمت محييا وائلا، ثم حركت كرسيًّا بجوار الطاولة وقلت له:
 يسعدنا أن تجلس معنا يا أستاذ وائل.
ابتسم وائل قائلا وهو يجلس:
 بل يسعدني أنا أن أُسمِعَكم آخر ما قلت من شعر.
حاولت أن أبعده عن هذه الفكرة فقلت:
 ولكن قل لي أولا ماذا ستشرب؟
 آه .. أريد مشروبا ساخنًا، ليناسب سخونة الأبيات التي سأنشدكم إياها.
 لكن الجو ليس باردًا إلى هذه الدرجة.
دخل عبد العليم في التوقيت الخطأ قائلا وهو ينظر إلى وائل:
 بل بارد جدًّا.
كسا وجهَ وائل شيء من التعجب الممزوج بالامتعاض، لكنَّه حول نظره إليَّ ثم إلى أحمد وهو يمد الأوراق التي بيده، ويقول:
 حسنًا .. اسمعوا يا جماعة.
ثم أخذ ينشدُ شعرَه في فخر واعتزاز، كأنَّه أحمد بك شوقي في حفل تنصيبه أميرَ الشعراء، لم يكن يسوءني منه ركاكة شعره، واشتماله على كسور أو تداخل في الأوزان، وعيوب في القوافي، ولا ما ينطوي عليه من ضحالة في التجربة والمعاني، بل كان ما يسوءني ذلك التنفخ والعُجْب الذي يملأ جوانحه بهذا الشعر الأعرج. والعجيب أنَّه مدرس لغة عربية، مثلي ومثل عبد العليم، أفلا دلَّه ما درسه في كليته على مواطن الضعف في هذا الكلام التي تنبه إليها أكثر من مرة صديقنا أحمد؟! كيف غرتْه نفسُه إلى هذا الحد؟!
لكنَّ عجبي منه واستيائي تحوَّلا في تلك الليلة إلى شفقة كبيرة، عندما أوقفه عبد العليم فجأة قائلا بحدة:
 كفى يا هذا .. ما كل هذا الغثاء .. أما تعلَّمت شيئا عن الشعر، حتى تعدَّ ما تُصدِّعُ به رءوسَنا كلَّ يومٍ شعرًا.
تحول وجه وائل إلى لون غريب لم أره من قبل، ما بين الزرقة والحمرة، في هذه اللحظة كانت فرح ابنة أحمد ذات السنوات السبع قد جاءت إلى أبيها وقالت له بصوت مسموع:
 بابا .. ماما تريدك .. تريد أن تمشي.
رد أبوها وعينه على وائل:
 حاضر، قولي لها قادم فورا.
ثم ربَّتَ على كتف وائل، وقال في مرح:
 عبد العليم لا يقصد، هو فقط ...
أزاح وائل يدَه بعنف، مقاطعًا:
 هو لا يعرف معنى الشعر أصلا.
همَّ عبد العليم بالرد، لكنَّ أحمد أسرع بقوله:
 يا جماعة وحدوا الله، افتحوا موضوعًا آخر.
نظر إليه نظرة اتهام قاتلة، كأنَّ عبارته تؤكد ما قاله عبد العليم، فقال بحدة:
 وأنت ما دخلك .. وما أفهمك في الشعر العربي الفصيح، أنت لو فهمت الرياضيات التي تدرسها لكفاك.
لمح أحمد زوجته وهي تغادر النادي في عصبية ظهرت في دفعها لابنتيه، أراد أن يلحق بها سريعا، وأن يعالج الموقف الذي هو فيه، يرد على وائل أو يهدئ التوتر، لكنَّ المعركة المنزلية التي كان يتوقعها أفقدته روحه المرحة، فألقى على صاحبنا قنبلة أخرى، بقوله:
 وائل! أنت تحتاج مصحةً نفسية.
ولم ينتظر ردًّا، ولا ألقى سلامًا، فقد أسرع خلف زوجته ليوقفها قبل أنْ تركب سيارة الأجرة التي أوقفتها. تابعته برهةً ثمَّ التفتُّ إلى وائل، كانت يداه ترتجفان، فقلت محاولا تهدئتَه:
 على العموم أذواق الناس تختلف، وأنا أو أنت قد يعجبنا من الشعر ما لا يُعجب عبد العليم، ولولا اختلاف الأذواق لبارت السلع، كما يُقال.
كنت أحسبُ أنَّ الموقف سيمضي على هذا، خاصةً بعدما لاحظت ميل عبد العليم إلى الصمت، ولكنَّي فوجئتُ بوائل يقول في توتر ظاهر وأنفاسه تتلاحق وعينه تجحظ:
 كيف تقول هذا يا أستاذ .. هل ترى شعري مما تختلف عليه الأذواق؟ اسمح لي أن أقول لك: هذا جهل وتخلف.
 ولكن يا وائل ...
 الذي لا يعجبه شعري ليس إلا جاهل، خَرِف، أو حقود تحرق الغيرةُ قلبَه.
كان يضغط على أحرف الجيم والخاء والحاء بعصبية، ويهتز بدنه وهو يتكلم، أشفقت عليه كثيرًا، خفتُ أن يصابَ بمكروه، وعرفت أنَّ الكلمة التي قالها أحمد منذ قليل لا تجافي الواقع، هذا الانفعال ليس طبعيًّا بكل تأكيد، قرأت قديما عن مرض نفسي يسمى البارانويا أو جنون العظمة، فهل يكون وائل مصابا به فعلا ؟!!
وبرغم هذه الحال انفلت لسان عبد العليم صارخًا:
 والله ما رأيتُ جهلا أكبر من جهلك، ألا تدرك قدْر الأخطاء التي تقع فيها بهذا الكلام الذي تسميه شعرا ؟!! ألا تشعر بالركاكة والتعقيد والسماجة التي يعجُّ بها، ذكرتني بقول القائل:
قال حمارُ الحكيم توما ... لو أنصف الدَّهرُ كنتُ أركبْ
لأنَّني جاهلٌ بسيطٌ ... وصاحبِي جاهلٌ مُرَكَّبْ
مللنا من سماع أشعارك، ومللنا أكثر من إعجابك بما تقول، والاغترار به، كأنَّك المتنبي. يا أخي ارحمنا كلٌّ منا لديه مشاكل في حياته، ليس عندنا وقت لعبثك.
حاولت أن أسكته أكثر من مرة دون جدوى، وتوقعتُ أن يكون ردُّ وائل أقسى، لكنِّي حين التفتُّ إليه وجدتُ لونه قد تحوَّل إلى الزرقة تماما، صرخت في وجه عبد العليم:
 كفى يا أخي .. ألا تُحِس كفى ..
زاغت عينا وائل، وقام من مجلسه دون أن ينبس بكلمة، مشى عدة خطوات مترنحًا، ثم كانت الفاجعة، سقط وائل سقطة مفاجئة فارتطم جسده بالأرض بقوة، نهضت إليه مسرعًا وتبعني عبد العليم، قلبناه على وجهه، حركناه في فزع، تجمع حولنا الناس، قررنا نقله لأقرب مستشفى ... وهناك تأكدنا أنَّه فارق الحياة.
رحمه الله تعالى! بكيتُه كثيرا، وبكاه عبد العليم وأحمد، كلٌّ منَّا كان يشعر بالذَّنب تجاهه، خصوصًا عبد العليم، ظلَّ عدَّةَ أشهر بعدها كلما مرَّ ذكره يبكي ويقول: أنا قتلته .. أنا قتلته، وأنا أهدئه بقولي: إنَّ الأعمار بيد الله، وهذا قدَره، ولن يؤخر الله نفسًا إذا جاء أجلها، فيسكن قليلا.
أمَّا أنا فما كان يجول بخاطري شيءٌ آخر، هل قُتل وائل فعلا من حوار تلك الليلة، أو أننا قتلناه من قبلها، منذ أن عرفنا عُجبَه بما يقول ولم ننبهْه إلى ما فيه من نقص رويدًا رويدًا، ولم نحسن التّأتِّي له، حتى يقبل منا وينظر إلى شعره بعين أخرى، بدلا من أن أبدي إعجابي صراحة تارة، وأهز رأسي مبتسما مجاملا تارة أخرى.. هل كان بمقدورنا أن نغلف له قليلا من النقد في كثير من الاستحسان؟!! هل كان ذلك ممكنا؟ أم أنَّه كان سيلفظنا مع أول نقد له، ولا يعود يسمع لنا رأيا؟ الله أعلم.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى