الخميس ٤ حزيران (يونيو) ٢٠١٥
بقلم محمد زكريا توفيق

الست كاملة وعيالها الستة

الست كاملة، سيدة مصرية في متوسط العمر. تسكن في حي شعبي من أحياء القاهرة. توفي زوجها الذي كان يعمل موظفا في أحد الشركات الخاصة.

ترك لها المرحوم ستة عيال، ومبلغ ألف جنيه مدخرات ومستحقات زوجها المتوفي قبل الشركة. وهو يعتبر مبلغا كبيرا في أوائل الخمسينات.

نما إلى علم أهل زوجها المتوفي، أن الست كاملة بددت المبلغ بالكامل، ولم يتبق منه شيئا. وكان الأحرى بها ادخار هذا المبلغ أو انفاقه على أولادها.

أخذوا الأمر إلى القضاء، ورفعوا قضية يتهمونها فيها بتبديد أموال القصّر، دون الرجوع إلى المجلس الحسبي، ويطالبون بسلب ولاية الأم على أولادها.

نصحها أولاد الحلال بتكليف محام متخصص في مثل هذه الأمور للدفاع عنها عند نظر القضية. لكن الست كاملة رفضت بإباء وشمم، قائلة: "محامي إيه؟ ليه، هو أنا مليش لسان. أنا اللي حترافع."

وقفت الست كاملة أمام قاضي الأحوال الشخصية، بقوامها الممشوق بملايتها اللف والطرحة ، منتصبة القامة، كلها ثقة،. تغطي نصف شعرها بمنديل أبو أوية، موشاة حوافه بالترتر والخرز والزهور المصنوعة من فتل الصوف زاهية الألوان. فبدت كأنها ملكة مصرية متوجة، من العصر الذهبي، الذي سادت فيه مصر العالم القديم.

بعد أن سألها القاضي عن اسمها، وبعد أن أدت القسم كي تقول الحق، بادرها القاضي:

"أنت يا ست كاملة متهمة بتبديد مبلغ ألف جنيه مصري، وهي أموال أولادك القصّر، من غير ما تاخدي اذن من المجلس الحسبي. كان المفروض تحافظي على هذا الملبغ. لا أن تنفقيه وتبدديه كما يدعي خصومك. فما قولك؟"

"تبديد إيه ياحضرة القاضي، ربنا يخليلك أولادك؟ لو تسمحلي جنابك، أقولك الحكاية من أولها لآخرها. وح اترك الحكم لجنابكم وعدالة المحكمة."

"قولي ما تخافيش يا ست كاملة. وتأكدي أن العدالة ح تاخد مجراها."

"لما مات عبد القادر جوزي، مكانش في بيتنا إلا مبلغ بسيط. البقال والجزار وبتاع الخضار والفكاهاني اللي كنا بنشكك منهم، رفضوا يدونا شكك على النوته.

قرايب جوزي، اللي بيشتكوني ورافعين قضية ضدي دلوقتي، قفلوا بيوتهم في وشي ورفضوا يقفوا جنبي أو يواسوني وياخدوا بخاطري ولو بكلمة طيبة."

"وبعدين، خدي راحتك وكملي على مهلك."

"إلهي ربنا يطول في عمرك يا حضرة القاضي ويخليك لأولادك.
كنت أنا وأولادي السته، في المدة دي، قبل ماصرف مستحقات جوزي، نأكل طقة ونسيب طقة. كل الفلوس اللي معايا انصرفت على العيش والفول، فطور وغدا وعشا. كنا بنزود الفول مية علشان يكفينا."

"كملي"

"بعد صرف مستحقات المرحوم من الشركة، قلت يابت يا كاملة، أوعي تمدي إيدك على الفلوس دي. لأنها لو خلصت، ح تشحتي انت وأولادك وتترموا في الشارع. قلت أحط الفلوس في صندوق التوفير بتاع البوسطة."

"وبعدين؟"

"وبعدين، في البوسطة، الموظف قال لي، الألف جنيه تجيب 30 جنيه في السنة فوايد. 30 جنيه في السنة، متكفنيش، أنا وعيالي، أكثر من شهرين. طيب وباقي السنة ناكل منين؟"

"عمرك كام سنة يا كاملة؟"

"30 سنة يا حضرة القاضي."

"رحتي مدرسة ومعاك شهادة؟"

"أنا يا حضرة القاضي، يا دوب بعرف أكتب اسمي. أبويا الله يسامحه مكانش بيعلم البنات."

"أولادك، عمرهم إيه؟"

"أكبرهم عادل، عمره 10 سنين. أصغرهم، سناء، لسه بترضع. ربنا يخليهم. هما اللي ليه في الدنيا ديه."

"وبعدين، كملي حكايتك."

"قالوا لي شغلي الولدين الكبار يساعدوك، قلت لا يمكن أشغل عيالي أبدا وأحرمهم من التعليم، زي ما اتحرمت أنا. نصحوني أشتغل، قلت أشتغل إيه وفين؟

أشتغل خدامة ولّا غسالة في البيوت؟ طيب مين يربي العيال وأنا طول اليوم بشتغل بره؟ قالوا اجوزي، قلت طيب مين يقبل ياخد واحدة عندها ستة عيال؟"

"كملي يا كاملة"

"حاضر، يا حضرة القاضي، إلهي ربنا يكسبك ويفتحها في وشك. وبعدين ربنا هداني لفكرة. قلت ليه يا كاملة ما تعمليش زي اللي بتاجروا بفلوسهم؟ لكن، تجارة إيه يا بت يا كاملة؟ سألت نفسي يا حضرة القاضي."

"يعني بددتي فلوس القصّر في التجارة؟"

"أبدا يا حضرة القاضي. مبددتش ولا مليم واحد."

"أمال قرايب جوزك بيقولوا ليه إنك بددت الألف جنيه، فلوس القصّر؟"

"ماهو أنا جيالك يا حضرة القاضي. فكرت أستفيد من المبلغ وأستخدمه في التجارة."

"إزاي؟"

"لقيت، يا حضرة القاضي، الشبان الصعايدة وبتوع النوبة، المهاجرين من قبلي إلى القاهرة، غُلْب الغلابة. الواحد فيهم جاي من بلده راكب فوق القطر مسطح في زمهرير طوبة.

راكب تسطيح علشان يوفر تمن التذكرة. النزلات الشعبية والكباري العلوية، كانت بتحصدهم حصد. حالتهم تصعب على الكافر. كل واحد، حاطط خلقاته في سبت سلال، ومعاه زلعة مش ومشنة عيش ملدن."

"هيه"

"الجدع منهم يا ولداه، يفضل عايش على المش والعيش الناشف، لغاية م الملح والدمامل تنتر على جسمه ووشه المقشف. ينام على البلاط في بير السلم، عند بواب قريبه، أو قريب قريبه، أو بلدياته. أو ينام على الرصيف في الطل والشبورة.

م يقدرش يرتاح ويقعد على الدكة، جنب بواب العمارة في الضلة، يشرب معاه كباية شاي ساعة العصاري. لأن دي رفاهية، تعطله عن أكل عيشه.

يستلف خمس قروش ومقطف، ويفضل ماشي يلف حافي القدمين في شوارع القاهرة وقت الحمراية في حر بؤونة، وهو داير في الشوارع، شايل المقطف على راسه.

والناس كلها نايمة في الطراوة، مقيلة في بيوتها ومقفلة شيش الشبابيك، وبتشرب مية مزهرة من قلل ساقعة.

ينده الغلبان، يا بنزهيري يا لمون. أو يزعق على الطماطم، يا مجنونة يا قوطة. أو ينادي على الكتاكيت، ما يربي الملاح إلا الصبايا الملاح.

الشبان الصعايدة دول، جدعان أوي يا حضرة القاضي. يبتدوا كده، وبعدين يفتحوا دكاكين. ومن الدكان يشتروا العمارة، ومن العمارة يشتروا الشارع كله."

"وإيه دخل ده بموضوعنا؟"

"ما أنا جيالك يا حضرة القاضي. قلت بيني وبين نفسي، الناس دي محتاجة عربيات يد."

"هيه"

"قمت سألت الاسطى متولي النجار جارنا، عن العربيات اليد. بيعملوها فين وتتكلف كام؟ قال لي الاسطى متولي أنه ما بيعملهمش بنفسه.

لكنه بيعرف اسطى نجار شاطر، بيعملهم بسعر معقول. بعد واسطة الاسطى متولي وضمانته، اتفقت مع النجار، بعد الفصال والمحايلة، على عمل 20 عربية يد، الواحدة ب 50 جنية."

"يعني كده طارت الألف جنيه، أموال القصّر؟"

"أبدا يا حضرة القاضي. كل عربية يعملها النجار، أأجرها للشبان اللي جايين هاجين من الجوع والفقر، من الصعيد الجواني، بشلن، خمس قروش في اليوم للعربية. وكانوا ح يتهبلوا عليها وواقفين طوابير يستنوها.

عربية اليد لها برواز من فوق يحفظ البضاعة من السقوط، ولها مخزن من تحت. كل عجلة متحزمة بطوق حديد يحميها ويسهل دفعها على الأسفلت. ليها يدين، علشان البياع يزقها قدامه.

معمولة كويس من خشب يستحمل المطر والشمس. ومدهونة ومنقوشة بألوان تفرح. هي أحسن من شيل المقطف، يا حضرت القاضي، فوق الراس. ومشحمة وسهلة في الدفع والشد. يمكن زقها بإيد واحدة. الله يستره النجار اللي عملهم."

"ما خفتيش الناس دي تاخذ العربيات وتهرب؟"

"لا يابيه، عمري ما فكرت في كده، ولا خطر على بالي خالص إن واحد فيهم يخون وياكل حقي وحق اليتامى أولادي. دول ناس بكر، لسه خام. جاين بعبلهم من بلادهم، لسة منصابوش بالوبا.

فقرا صحيح دقة، لكن جدعان خالص ورجالة. يمكن تعتمد عليهم. عارفين بعض ويخافوا على سمعتهم. دول يتآمنوا على الدهب. لسه متعلموش المكر وأخلاق المدينة.

خصوصا بتوع النوبة. ما يعرفوش الغدر أو الكدب أو السرقة. الواحد فيهم يموت ولا يمد إيده للحرام. يا ريت أخلاق الكل تبقى زي أخلاقهم.

كل واحد يجي لغاية عندي يسلمني إيجار العربية من نفسه، أو يبعته مع زميل ليه. وفيهم اللي بيدفع بالأسبوع. عمري ما طالبت واحد فيهم بإيجار متأخر عليه."

"يعني العشرين عربية، بتجيبلك جنيه في اليوم."

"أيوه ياحضرة القاضي"

"كده يبقى 30 جنيه في الشهر، والبوسطة كانت حتديك 30 جنيه في السنة"

"أيوه ياحضرة القاضي"

"يعني عربيات اليد بتجيب 365 جنية في السنة. تبقى الفايدة كام، تبقى الفايدة كام؟ 36.5%"

"اللي أعرفه، يا حضرة القاضي، إنها بتجيبلي جنيه في اليوم من غير وجع دماغ."

وقف القاضي مذهولا متعجبا، وهو يضرب أخماسا في أسداس، ليسألها:

"لكن، ازاي الفكرة دي جت لك يا ست كاملة؟"

"الفكرة دي ما جتليش يا حضرة القاضي. الفكرة دي كانت في دماغي على طول. لما كنت بشوف الجدع منهم، ماشي حافي على الأسفلت المولع، في عز الضهر والحر، والشوارع فاضية مفيهاش نفاخ النار.

الأسفلت، من شدة حرارته، تقدر تقلي عليه بيض، أو تحمص عليه عيش. والغلبان لافح على راسه المشنة أو المقطف، وعمال ينده ويجعر ويغني على بضاعته، كنت بقول في نفسي:

هو الغلبان ده موش قادر يأجر عربية يد؟ يقدر يحط عليها بضاعة أكتر، ويرحم نفوخه من الشيل. الفكرة دي كانت عندي على طول، لأني حاسة بالناس الغلابة دول."

القاضي: "بالطبع، الواحد لازم يعيش في المشكلة ويحس بيها قبل ما يلاقي حل ليها." ثم صرخ القاضي بأعلى صوته:

"أنا موش عارف هما جايبينك هنا ليه؟ علشان يغيظوني يعني، ويضيعوا وقتي ووقت المحكمة والحكومة؟

يا ست كاملة، أنا لا يسعني إلا أن أحني قامتي لك، احتراما وإعجابا بعقلك وذكائك وحسن تدبيرك. كما أنني لا أستطيع أن أغفل إنسانيتك وشجاعتك وبعد نظرك. والله أنت تستحقين جايزة، موش قضية تبديد."

ثم حكم القاضي لصالح الست كاملة، وغادر المحكمة وهو يهرش رأسه ويقول بينه وبين نفسه:

"طيب ازاي؟ ست زي دي، بسيطة لا تعرف القراءة والكتابة، نجحت في الحصول على عائد استثمار قدره 36.5% في السنة؟

كيف استطاعت القيام بعمل نبيل مثل هذا، يحل مشكلتها ومشكلة الباعة الجائلين، وأنا القاضي المثقف، لم أستطع توظيف مدخراتي، والحصول منها على أكثر من 3% في البنك؟"


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى