السبت ٢٥ تموز (يوليو) ٢٠١٥
بقلم دينا سليم

رُكــن صـلاة وحـبيبة!

من عادتي، أن أُملي تسبيحاتي وعوزي لله في كنيسة القيامة كلما وصلت المدينة القديمة، وكلما أفرغت حاجتي بالأمنيات وتوكلت عليه برحمته، أغرق بشحوب وطيد فأبدو أمام الزائرين مثل طفلة يتيمة مكسورة الجناح ومقطوعة من شجرة.
كلما وطأتُ عتبتها، تغزوني دموعي فأبدو غارقة في محفل خصص للبكاء، والأدهى من ذلك عدم تمكني من السيطرة على نفسي فتتحول الدموع الصامتة إلى نحيب لا يخلو من الشهيق والزفير وإفراز المخط الكثيف من أنفي المحمر الذي كبر حجمه، عيون الحجاج تحيطني فنتشارك جميعا ذات المحفل... هل البكاء عدوى... وما الذي يبكيهم، أسأل نفسي!

ذاتي المعذبة تجد خلاصها هنا، أسير بهدوء النملة وأدور الأرجاء عدة دورات حتى تعلقت بهذه الجدران الدائرية المقدسة فأصبحت زيارتي للمكان شبه أسبوعية، أو لنقل هو موعد مع النحيب!

وعندما تتعب خطواتي أتسرب بهدوء بمعية هواجسي الحزينة حيث قبر المسيح، بقعة صغيرة تبعد بضعة أمتار يسارا من جهة الباب الخارجي الذي لا يوصد أبدا، ربما يكون الباب الوحيد في العالم الذي يبقى مشرعا طوال أيام السنة ليلا نهارا.
كان طابور الزائرين يومها طويلا والصمت لجوجا ينخر الأعماق، الشموع المضاءة داخلا تمنحني الرهبة وكذلك مشهد الكاهن القوّام على هذا الركن من الكنيسة والذي أعياه التعب.

يثيرني الفضول القاتل فيما هو منهمك أشد انهماك بعمله الدؤوب وبمنتهى الاخلاص، يقوم بارشاد الزوار الدخول إلى المخدع، تدور نظراته الدافئة بينهم يتفحصهم نفرا تلو النفر، يراقب الطابور الطويل محتضنا ضوء الشموع بنل عينيه، وبين الفينة والفينة يدنو متسللا حتى يصل المصباح المعلق في الباحة الضيقة خارج القبر، يلج بيده الحنون داخله فتظهر مكنسة صغيرة ومجروداً، يخفيهما تحت إبطه ويدخل بهما المقام لبرهات، بعد ذلك وفي أقل من دقيقة يخرج ليعيدهما إلى ذات المكان بخفة، يعيد الكرة مرارا وتكرارا كلما خرج عدد ما من الزائرين، ويتأخر دوري بالدخول، نفخات اعتراض تخرج مني تستفزه، فيطلب مني بتأدب العودة إلى نهاية الطابور فأوافق على طلبه في الحال دون اعتراض.

استرحت داخل مقعد رَكن في أحد الزوايا المقابلة وأخذت أتابعه بشغف، وكأني أتابع مشهدا من فيلم قديم، متسائلة عما يفعله في الداخل، جففت دموعي وانهمكت بمراقبة ذلك البشوش الحائر، سألتُ نفسي مرارا عما يفعله بهذه المكنسة الصغيرة والتي أعادها للتو، أرسل لي نظرة خاطفة، بحث عني وعندما وجدني عاد إلى عمله ينظم دخول السّياح إلى الضريح أزواجا،... لو أحظ بالجواب؟

وحان دوري للدخول، قال لي هامسا بلغة عربية مكسرة:
لا تطيلي المكوث في الداخل فالطّابور طويل!
وكيف علمت أني أتقن العربية؟
أعرف أنك محلية، لمَ لا تتيحين للسائحين فرصة الزيارة قبلك!

طبعا يمكنني الانتظار حتى ينتهي الطابور ولن ينتهي! أجبته بهدوء واستسلام، ثم عدت لاتخذ مكاني داخل المقعد ذاته.
انتظرت حتى خرج من الحجرة الضيقة التي لا تتسع إلا لنفر واحد أو ربما لنفرين إثنين فقط، سجي داخلها قبر المسيح الذي حُكّم بقطعة سميكة من الرخام الأبيض، عُلّقت الأبخرة في السقف المنخفض وامتلأت الشمعدانات بالشموع المضاءة بينما الكاهن المصاب بالكهولة منهمك كل حين بتنظيف لوح الرخام من الرّمل الأصفر المتسرب من الشمعدانات المليئة بهِ، وأيدي الزوار تتنازع على إشعال أكبر كمية من الشموع.

اقتربتُ ضاربة عرض الحائط المثول لطلبه بعدم الدخول، والتي تعدت حدود صبري وإذا به ينهاني:
احذري لئلا تبلّل دموعك الرّمال فيتحول الرمل إلى وحل فيصعب عليّ التقاطه!

اهتز الشمعدان في الزاوية وارتجفت الشمعات المضاءة بالمعية فاضطرب النور داخل الحجرة الصغيرة، اتكأ الكاهن على ركبتيهِ يطلب الغفران، وقفت جانبه أراقبه بصمت، ارتجفتْ يداه ودمعت عيناه، تمتم بكلمات الصلاة بلغة يونانية لم أفهم منها سوى ( كيريا لايسون) يا رب ارحم، ركع أمام القبر وخرج بعد لحظات بخطواته البطيئة إلى الخلف ووجهه يقابل المقام، مطأطأ الرأس ويشير لي بالخروج لكي يمنح الزوار حق الزيارة... خرجت خلفه فرأيته ثابتا مكانه يغلق عينيه خاشعا.

عندما تخلفت عن الزيارة، أحسست بنقصان شيء عظيم، شيء ما مجهول يسيّر شعورا غريبا داخلي، سرت بأفكاري التائهة داخل أزقة مدينتي الجريحة، الجرح مضاعف، وتمنيت أن أجد لي مكانا بين الرواد حتى أوقد شمعة وأحظى بترتيل أمنياتي.
بحثت عن الكاهن فلم أجده، طفت داخل المكان عدة دورات وأنا أبحث عنه، بحثت في الزوايا الأخرى للكنيسة ولم أجده، وعندما وصلت المقعد الموعود جلست وبدأت آخذ حصتي في البكاء، أنرت شمعة ثم عدت أدراجي خائبة.
التقيت بحسن النجار في الساحة الخارجية، رجل مؤمن يقيم في حارتنا ويعمل مرشدا سياحيا إلى جانب مهنته في النجارة، أسرع نحوي حاملا ابتسامته العريضة يطمئنني بوصول فوج كبير من الزوار، وأخبرني أيضا أنه سيصحبهم إلى مسجد الأقصى للزيارة، متمنيا تعويض خسارته بسبب الأحداث والتوترات السياسية التي حصلت مؤخرا والتي أدت إلى منع التجوال، وأخبرني أنه يمكنني الاختلاء بالسيدة العذراء وحدي قبل وصول الفوج الثاني، بل ضروري أن أفعل ذلك الآن، فرحت بالخبر كثيرا.

اعتليت السلالم المنحرفة الضيقة وعيناي تبحثان في الأركان عن الكاهن اليوناني، لقد قام كاهن آخر أعرفه جيدا بالعمل نيابة عنه...لم أجد له أثرا!

ما تزال الدمعة تترقرق من عين السيدة العذراء منذ حرب الأيام الستة، صورتها محاطة بألوان شتى من الهدايا المصنوعة من الذهب الخالص، مهداة لاسمها العاطر من المعذبين والمحرومين، صورة ضخمة مؤطرة بزجاج سميك مسلح.
أشار لي حسن بيده من بعيد مودعا وذهب إلى عمله فرحا مسرورا، يا لصفاء قلبه، رجل بشوش ومحبوب ويقوم بعمله على أكمل وجه، وعند المغادرة قمت بزج الرّقاقة داخل الشقّ الموجود وسط عمود الباب الخارجي، شقٌ عمره ألفي سنة وأكثر... لقد دسست ذات الجملة المكتوبة على صفحة بيضاء مطوية بأكبر قدر ممكن من الطيّات.
يا رب أعد لابني صحته وعافيته!

عدتُ أدراجي مساء ممتلئة خشوعا، أدركت كنه الصمت الذي لفّ ألسنة أصحاب الحوانيت السياحية، كان قد أرهقهم طول الانتظار يتمنون دخول أحد المشترين، لم يسترزقوا هذا النهار، أغلقوا الحوانيت خائبين يتمتمون بصوت منكسر قائلين:
الرزق على الله!

مررتُ بأزقة خالية من الناس ثم انحرفتُ إلى زقاق آخر حتى وصلتُ السوق الشعبي القائم داخل زقاق آخر طويل وضيق، مكتظ بالحوانيت التي أغلقت أبوابها، يهيم بصدى لغات مختلفة بينما أنا أهيم بأفكاري التي تشدني إلى ذلك الكاهن الذي عاد من حيثُ أتى، ملغيا دوره في خدمة الرّب التي استمرت أكثر من عشرين سنة، أمضاها بعيدا عن بيته متمنيا نسيان فاجعته بأسرته التي قضت بحادث طرق مروع، بالصلاة وخدمة الله، لكنه قرر الآن التخلى عن كل شيء لكي يسترجع دوره في مكانه السابق، يمزج ويسكب، يخلط ويمسح منضدة خشبية في كنيسة صغيرة في منطقة منعزلة في اليونان، يلمّع الكوؤس ويعلقها مكانها، يخدم الرهبان ويساعد السياح الأغراب منهم والمقيمين، يشعل الشّموع ويحافظ على عدم إطفائها، يدير الشمعدانات بين الفينة والفينة فتحدث انبهارا ضوئيا يزيد المكان زهوا، تلمع عيناهُ بالأضواء الملونة، وبين سائح وآخر يهيء ويقوم بكنس الكنيسة وشطف أرضيتها ليلا.... وبخطوات سريعة في مكان ضيق يأتي بأنواع أخرى أيضا، وعندما يقابل الزبون يملأ الكأس وهو مطأطأ الرأس، يذعن لأصوات الآخرين، ينحني ثم يستقيم، يقرب كأس الخمر إلى الزبون ويتمتم بكلمات غير واضحة تدعو الاثنان إلى الضحك، يصخب المكان وتعلو الموسيقى، تدمع العيون بسبب الدخان المنساب من الشموع المعلقة داخل الشمعدانات المتدلية.

أخذني المشهد وأعادني إلى مدينتي، خلت أن المكانان متشابهان يحملان شموعا وشمعدانات ودموعا، وحتى حركاته توحي وكأنه يقوم بمسح الضريح.... يا للجاجة عقلي المتعب الذي أدخلني الكنيسة وبخيالي الخصب دخلت من بابها المفتوح على مصراعية، ورأيت نفسي أركض نحو القبر أبحث عنه هناك...
ما أن رآني وثب من مكانه بخفة واقترب نحوي قائلا:
لماذا تركت القدس؟
لذات السبب الذي دعاك لتركها!
أسرني العشق ولم أسمح لنفسي أن أحيا الازدواجية الحارقة!
لماذا هربت دون أن تودعني...

وضع أنامله الناعمة على شفتيّ، أسكتني، لكنه استطاع أن ينهض زفراتي النائمة داخلي، دمعت عيناي ودمعت عيناه أيضا، ربما دمعت عيناه حسرة على الماضي، فمن يخدم الرّب صعب عليه أن يتركه، أو لعلهما تدمعان بسبب ضحكاته التي تفجرت سعادة، أو ربما يكون العيب في الشمعدانات المتأرجحة التي تحمل الشمعات.

وتركني أسكن داخل حضنه بهدوء، لم يربت على كتفي، بل ترك يده حول عنقي، حاصرني بهما كما حاصرني الماضي بصوره المؤلمة الكثيرة، ربت على شعري فأعادني إلى الحاضر الجميل، لكني انتفضت فجأة، لا أعرف لماذا فعلت ذلك، لمت نفسي على فعلتها موبخة الماضي الحزين الذي يصر على ملاحقتي حتى هنا، لم أخدم الرب مثله لكني تركت القدس بعد رحيل وحيدي، فلم يعد لي شأن هناك بما أن كل شيء هناك يذكرني به، بل أنا أرفض نسيانه، لقد أصبحت شوارع القدس خالية من خطواته وقد رحلت أنفاسه أيضا إلى البعيد، وأصبحت الصور مغبشة، هل هربت لكي أبحث عنه فلجأت إلى هنا وبمعية هذا الرجل الطيب لكي نعيد صور الماضي معا، وهو أن أزور الكنيسة وأراقبه وهو يقوم بالخدمة، وأن أزج أمنياتي في الشق وأعود إلى البيت عند ابني نقية القلب ماسحة أدمعي قبل أن يراني باكية فيضعف ابني أمامي، أو ربما أردت التعود على فكرة رحيله فأتيت لأكون قريبة من قلب رحيم يساعدني على اجتياز محنتي.

كيف واتتني الشجاعة ووصلت إلى اليونان، هل أنا امرأة مجنونة، أم الطائرة هي المجنونة، قطعت المسافات لكي ألتقي بهذا الرجل الغريب مجددا، هل هو الحنين إلى الماضي أم هو ما يدعونه عشقا مخفيا.
ستحرقك الشموع التي فاقت عددا لا بأس به فوق رأسك هنا! قلت له
أوافق، إن قبلتِ أن نحترق فلنفعلها معا إذن! أجابني ثم استطرد قائلا:
أكيد أخ "جون" زودك بعنواني!
لذلك تركتَ عنوانك معه متقصدا، كيف علمتَ أني سألحق بكَ إلى هنا؟ سألته.
لأني أدركت جيدا أنك تخفين شجاعة خلف دموعك المنهمرة دائما تفوق كل شجاعة!
هل أنت كاهن أم طبيب نفسي؟
كنت كاهنا وشلحت ثوبي لكي أقترن بأجمل امرأة في العالم!
قلبك لن يتسع لاثنين وعليك أن تختار!
قلبي بوسع الكون، وقد اخترتك والرب معمر داخل قلبي، هيا بنا فلا يوجد متسع من الوقت لنمضيه في حديث قديم، لقد قدمنا قرابينا كثيرة في حياتنا، أنا وأنتِ، وحان الوقت ليمنحنا الله بقدر ما نستحق...أحبك بقدر الكون...لكني حتى الآن لم أعرف اسمكِ، سأطلق عليك اسما آخر.. ما هو رأيك..أم تحبين الاحتفاظ باسمك القديم.........هل يعجبك اسم حبيبة.......!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى