الأربعاء ٤ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٥
رُؤى ثقافيّة «182»
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

شهادة الحوليَّات الآشوريَّة، والكتابات الكنعانيَّة والسوريَّة

 1-

رأينا في المقالات السابقة أن كُتب التاريخ القديمة شواهد بنقيض ما ذهب إليه مؤلِّف كتاب «التوراة جاءت من جزيرة العرب»، لدى (هيرودوت)، و(سترابو)، و(ألينيوس)، و(يوسيفُس)، و(ابن مُنَبِّه)، و(الهمداني). ثمَّ وجدنا أن الكتاب المقدَّس نفسه- الذي جاء الرجل ليُأوِّله تأويلًا جديدًا، متَّخِذًا إيّاه وثيقةً تاريخيَّةً- شاهد عليه لا له أيضًا.

ثمَّ تعال لنذهب بعيدًا، إلى وثائق قديمة ومحايدة تطرَّقت إلى (بني إسرائيل) وإلى علاقاتهم بغيرهم من الشعوب المجاورة، وذلك كالحوليّات الآشوريّة، وسنجدها كذلك شاهدة على الصليبي لا له.

فلقد وردَ في الكتابات الآشوريَّة، التي عثر عليها الآثاريُّون فوق نُصب في عاصمة (آشور): (كالخو/ كلخ)- (النَّمْرُود) حاليًّا، جنوب (الموصل)- وضِمن ما كتبه مَلِك آشور (سلما نصر الثالث)، تخليدًا لانتصاراته الحربيَّة: أن مَلِك (إسرائيل)، واسمه (أَخْآب)، أرسل (ألفَي مركبة)، و(عشرة آلاف من المُشاة)، ليشتركوا مع جيش مملكة (دمشق) الآراميَّة، ومَلِكها (هَدَد عَزَرَ Hadad-ezer)(1)، ومملكة (حماة)، الآراميَّة أيضًا، ومَلِكها (إرحوليني Irhuleni)؛ فشكّل الثلاثة حِلفًا حربيًّا شاميًّا ضدّ مَلِك (آشور)، الذي كان يُهدِّد بلاد (الشام) و(مِصْر).(2) ويذكر مَلِك آشور أنه قد انضمّ إلى ذلك الحِلف كذلك مَلِك العرب (جِنْدِبُ Gindibu’)(3)، بألف جَمَّال. ويفتخر المَلِك سلما نصر الثالث بأنه انتصر على هذا التحالف في معركة «قرقر Karkar»- لعلّه (تل قرقور) على نهر (العاصي)، بالقرب من (حَماة)- وذلك حوالَى عام 853ق.م.(4)
أ فكان ذلك التاريخ الذي يسجّله الكتاب المقدَّس، وهذا الذي تسجِّله سِجلّات الحوليَّات الآشوريَّة، يدور في منطقتَي (عسير) و(جازان) حقًّا؟!

ولَيسَ يَصِحُّ في الأَفهامِ شَيءٌ ** إِذا احتاجَ النَهارُ إِلى دَليلِ!

 2-

وممّا يدلّ على الأعراق التي كانت تستوطن بلاد الشام في الألف الثاني قبل الميلاد تلك اللوحات المسماريَّة التي عثر عليها الآثاريُّون، عام 1887، في (تلّ العمارنة/ أخت أتون)، في شَمال صعيد (مِصْر)، وترجع إلى القرنَين الخامس عشر والرابع عشر قبل الميلاد. وهي مكتوبة بالأكاديَّة والكنعانيَّة. وتتضمّن مراسلات إلى فراعنة مِصْر من بعض ولاة الكنعانيِّين وحكّامهم في (سورية) و(فلسطين). وتتطرّق تلك المراسلات إلى شعوب إقليم الهلال الخصيب، مع الشكوى من شن تلك الشعوب غزوات على الكنعانيِّين. ذاكرةً من بينهم: (الأموريِّين)، و(الحيثيِّين)، و(الحابيرو/ الهابيرو/ الآبيرو/ العابيرو)، الذين يذهب بعض الباحثين وعلماء العهد القديم إلى أن المقصود بهم (العبريُّون).(5)

وإذا رجعنا كذلك إلى النقوش المعثور عليها، في النصف الأوّل من القرن العشرين، في (رأس شمرة)- الواقعة في المدينة المعروفة بـ(أوجريت)، شمال ميناء (اللاذقيَّة) السوري، وهي تعود إلى 1500 قبل الميلاد- وجدناها تشير إلى ما يُفهم منه أن الكنعانيِّين عاشوا حينًا من الدهر في جنوب (فلسطين)، في (صحراء النَّقَب)، وأنهم مهندسو المدن في تلك المنطقة، مثل: (بئر سبع)، و(أشدود)، المتردّد ذكرهما في التوراة. وقد استمرّت سُلطة الكنعانيِّين على هذا الإقليم إلى القرن السابع قبل الميلاد.(6) في حين يتجاهل (الصليبي) كل هذا، محاولًا إقناعنا في كتبه أن بئر سبع هو (حي شباعة) في (خميس امْشَيط)، وأن صحراء النَّقَب هي (ظهران الجنوب)! وكان بإمكانه أن يُضيف، إذن، أن المقصود بـ«أرض جاسان»(7): «أرضَ جازان»، كي تكتمل الطرافة التأويليَّة!

وفي المقال التالي سنقف مع العاديّات المِصْريَّة، لنستقرئ شهادتها كذلك. فقد ذهب بعض المؤرّخين إلى أن (بني إسرائيل) هبطوا (مِصْر) في إثر سيطرة (الهكسوس) عليها، وأن هؤلاء الآسيويِّين الساميِّين قد وفّروا لهم بعض الحماية. ويُرجَّح أن هبوطهم مِصْر كان عام 1650ق.م، وأن خروجهم كان 1220ق.م، استنادًا إلى ما وردَ في التوراة من أن إقامتهم في مِصْر استمرت 430 سنة.(8)

وسننظر ما مدى اتفاق ما تُدلي به بعض الكتابات المِصْريَّة القديمة مع الزعم الذاهب إلى أن مِصْر بني إسرائيل كانت (قرية المصرامة) بين (أبها) و(الخميس)، والقول إن بني إسرائيل كانوا يعيشون في (عسير)؟!

(1) هكذا وردَ اسم هذا المَلِك في ما نُقل عن سجلّات المَلِك الآشوري. في حين نجد أن (هَدَد عَزَرَ) في »التوراة» كان معاصرًا للملِك داوود، أي قبل هذه الأحداث بأكثر من قَرن! ومَلِك الآراميِّين الدمشقيِّين المعاصر لمَلِك إسرائيل (أخْآب) اسمه في »التوراة«: (بَنْهَدَد)، أي (ابن هَدَد). ويُلحظ أن (ظاظا، حسن، (1990)، الساميُّون ولُغاتهم: تعريفٌ بالقرابات اللغويَّة والحضاريَّة عند العرب، (دمشق: دار القلم- بيروت: الدار الشاميَّة)، 42) يسمِّيه «أداد إيدو»، ويتحدَّث عن هَدَد عَزَر على أنه معاصر للمَلِك داوود، كما ورد في »التوراة». (انظر: م.ن، 90). فإذا صحّ النقل عن الوثيقة الآشوريَّة، فهي أوثق من غيرها؛ لأنها دُوِّنت خلال تلك الأحداث، ومن المستبعد أن يجهل المَلِك الآشوري أسماء الملوك الذين حاربوه.
(2) كانت هذه الأحداث تقع في غضون الصراع التاريخي على النفوذ في منطقة الهلال الخصيب. ذلك الصراع ثلاثيّ الأقطاب، بين (الدُّول الأكاديَّة اللغة، الساميَّة الجذور، القادمة غالبًا من شِبه الجزيرة العربيَّة إلى العراق: بابل وآشور)، من جهة، و(مِصْر)، من جهة أخرى، و(فارس)، من جهة ثالثة. وفي النهاية اكتسح (الفُرس) الجناح العِراقي من الهلال، ومنذ وقتٍ مبكّر، ثمّ اكتسح (الروم) الجناح الشامي، ولم يعودا ساميَّين عربيَّين مستقرَّين إلّا على عهد (عُمر بن الخطّاب).
(3) الجُنْدَبُ والجُنْدُبُ والجِنْدَب: ضَرْبٌ من الجَراد. وقيل: هو الصدَى الذي يَصِرُّ. وقيل: إنه إذا رَمِضَ طار، فَتَسْمَع لرجلَيه صَرِيرًا. (انظر: ابن منظور، (جدل)). ولعلّهما ضربان مختلفان من الجراد. أمّا الحشرة التي تَصِرّ، فنُسمِّيها في لهجات (فَيْفاء): «صَرَّار الغُبْرَة»؛ لا تَصِرُّ إلّا في موسم الغُبْرَة في قيض الصيف. وهي تَصِرُّ ليلًا ونهارًا. ويزعمون أنها تَصِرُّ حتى تنشقَّ إلى نصفَين. لم أرها قط، ولم أسمعها في غير المناطق الجنوبيَّة، غير أني أظنها الصَّرَّار المسمَّى «الصدَى» في مدوَّن العربيَّة. وكأنها المذكورة في قول (الأعشى، (1950)، ديوان الأعشى الكبير، شرح: محمَّد محمَّد حسين (مصر: المطبعة النموذجية)، 97/ 31):

قَطَعْتُ إِذا سَمِعَ السامِعو
نَ لِلجُندُبِ الجَونِ فيها صَريرا

أمّا زعمهم أن الصرير صوتُ رجلَي ذلك الجندب، فيبدو وهمًا من الأوهام. والشاهد أن جندب من أسماء العرب. ولعلّ «جِنْدِب»- كما ورد في النص الآشوري- لغة رابعة في هذا الاسم، إلى جانب: جُنْدَبُ، وجُنْدُبُ، وجِنْدَب، التي سجَّلها اللغويُّون العرب.

(4) See: Luckenbill, Daniel David, (1926), Ancient Records of Assyria and Babylonia, (Chicago: The University of Chicago Press), v1: XII. Shalmaneser III, 611, p. 223.
(5) انظر: ديورانت، وِل وايريْل، (1971)، قِصَّة الحضارة- الشرق الأدنى، ترجمة: محمَّد بدران (بيروت: دار الجيل)،ج2 م1: 323؛ ظاظا، 48.

(6) انظر: ظاظا، 48- 50.

(7) (جاسان): حسب (التوراة، سِفر الخروج، 8: 22، 9: 26)، مَوطِن شعب إسرائيل في (مِصْر)، ربما في الشمال الشرقي على الحدود إلى (سيناء).

(8) انظر: ديورانت، ج2 م1: 324- 325.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى