الأحد ٢٩ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٥

جواري مصر وعبيدها في القرن التاسع عشر

عمرو عبد العزيز منير

لا نستطيع أن نغفل حق هذا الفتى الذي نراه يشغل حيزاً في كثير من اللوحات الاستشراقية، إن لم تكن هناك لوحات يشغلها هو بمفرده. ذلك الفتى الذي يستعمله الفنان كأنه مكمل لديكور اللوحة، ومن النادر وجود لوحة تحمل اسم الحريم أو الجواري إلا وكان هذا الفتى الأسمر يقف في زاوية خلفية منها، ونادراً أيضاً ما كان يقف في بؤرة الصورة بملامح كاملة واضحة. دوماً هناك في تلك الزاوية المعتمة يظهر جانب وجهه، وكأنه يضيف على اللوحة بُعداً من السحر الخاص يصعب معه تصديق وجود هذا الشخص في زمن ما، ولكن الأدلة والحقائق كافة تثبت وجود تلك الفئة التي كانت موجودة حتى عهد قريب، ذلك العبد الأسمر الذي ارتبط اسمه بالجواري والحريم (عبيد وجوارٍ) ولمَ لا إذا كان هو حارسهم الشخصي يذهب معهم أين ما ذهبوا ويسهر الليل على حراستهن، وقد يصل به الأمر إلى أن يكون مطلعاً على أدق أسرار الحاكم وأمه وزوجاته ومحظياته وجواريه في مصر التي تحكمت فيها قاعدة عبقرية: وجود النص يغني عن تطبيقه لتظل تجارة هؤلاء «البشر» العبيد والجواري ممنوعة - نظرياً على الأقل - منذ أيام محمد علي، شأن معظم القوانين والقرارات في مصر التي تظل مجرد حبر على ورق من دون أن يعبأ بتنفيذها أحد، وتظل معها تجارة الرقيق تمارس على أوسع نطاق في مصر وفي شكل علني في مصر والسودان، وبمباركة من الحكومة المصرية نفسها التي كان كبار موظفيها يمارسونها على نطاق واسع، بخاصة في السودان.

وكتاب «أنت حُرٌّ لوجه الله... الرق والعتق في مصر القرن التاسع عشر» للمؤرخ عماد هلال يرصد تطور الحركة المناهضة للرق، منذ بداية ظهورها في الغرب وانتقالها إلى الشرق بخطى وئيدة، حيث بدأ صداها يتردد في مصر منذ أواخر عهد محمد على، وتطورت في عهدي سعيد وإسماعيل حتى تم عقد معاهدة الرقيق بين مصر وبريطانيا في 4 آب (أغسطس) 1877، حيث أخذت الحركة بعدها محورين متوازيين هما محاربة تجارة الرقيق داخل مصر وخارجها، وتحرير الرقيق الموجودين في مصر الذين يشتكون من سوء معاملة سادتهم لهم. وكان لهذين المحورين أثر حاسم في القضاء فقط على رق العبيد والجواري لتظل مصر بعدها أسيرة رق استبداد سياسي لا أب له ولا عزيز لديه، ورهينة اختيار سياسي يصب في خانة الانحياز التام للأغنياء والأثرياء يستهدف خلق شريحة ضيقة اجتماعياً تحتل قمة الهرم الاجتماعي لكسب ولاء هذه الشريحة للنظام ودعم استبداده السلطوي سياسياً وحكمه الفاسد مالياً واقتصادياً وإدارياً. وفساد وقح، ونهب منهجي لخيرات البلاد، يدفع الشرفاء الذين هتفت حناجرهم بحماسة أيام الثورة: «الله ينصرك يا عرابي يا مُعَمر الطوابي»، ونادوا بالحرية والمساواة أبرزهم عبدالله النديم إلى الهروب من جحيم مصر وسط الرماد المتخلف عن محترق الآمال، فالمخلصون قتلى أما الخونة فهم فرسان الحلبة.

وما إن تصل مصر إلى بدايات القرن العشرين حتى تشهد تجارة رقيق من نوع خاص، ممثلة في قيام بعض النخاسين بخطف الفتيات القاصرات الأوروبيات وبيعهن في مصر إلى القوادين والعاملين في مجال العهر والدعارة وغيرها، وذكر كتشنر أنه تم القبض على 74 تاجراً و843 فتاة قاصرة من الأوروبيات والتركيات في عام 1913. الكتاب يفيض بالأخبار الموثقة عن حياة الرقيق في مصر من النواحي كافة بداية من جلبهم إلى مصر وبيعهم في أسواق النخاسة المصرية، ومروراً بالأعمال التي قاموا بها، ونظرة سادتهم إليهم وطريقة معاملتهم، ودورهم في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وانتهاء بعتقهم أو موتهم، ثم لا بأس من تتبع حياتهم بعد العتق وما نتج عنه من علاقات شرعية وعرفية تربطهم بسادتهم السابقين والعيش تحت الأقدام دائماً.

شهد عهد سعيد نشاطاً كبيراً لتجارة الجواري والعبيد، واتساع نطاق تجارة الرقيق في السودان، بخاصة على يد التجار الأجانب على رغم الأوامر المتعددة السابق صدورها منذ عهد محمد علي ومع أن عباس نجح في وقف نزوح الأجانب إلى مصر، إلا أن الأجانب وجدوا في السودان ميداناً خصباً لنشاطهم الذي تركز في تجارة الرقيق، وكان معظمهم من «حثالة القوم»، باعتراف معاصريهم من الأوروبيين أنفسهم. ومنذ عهد عباس، حاول لطيف باشا، حكمدار السودان، منع هؤلاء الأجانب من شراء الرقيق وحمل السلاح، ولكنهم تقدموا بشكوى إلى الحكومة المصرية من طريق «اصطفان رسمي» وكيل الأمور الخارجية الذي طالب بالسماح لهؤلاء الأجانب بالتجول والسياحة «أما بخصوص شراء الرقيق وحمل السلاح فيمكن أن يكتب عنهم لقناصلهم». وبذلك، فإن سلبية حكومة عباس كانت من عوامل استفحال أمر هؤلاء التجار.

وفي عام 1855، أصدر سعيد باشا أمراً عالياً يعطي الحرية لكل العبيد الموجودين في مصر والراغبين – باختيارهم - ترك خدمة سادتهم، ولكن يبدو أن العمل بهذا الأمر لم يدخل حيز التنفيذ، فلم تصادفنا أية شارة تدل على أن أحد العبيد حصل على حريته بمقتضاه. وبينما كان والي مصر يتخذ هذه الإجراءات لمحاربة تجارة الرقيق، فإن السلطان العثماني نفسه لم يبدأ رسمياً في فرض حظر على هذه التجارة إلا في جمادى الأولى 1273هـ/ شباط (فبراير) 1857م، أما في عهد إسماعيل فقد اعتزم الانضمام إلى حركة العاملين على تحرير الرقيق في أنحاء العالم، وأن يكتسب ثناء الإنسانية في مقاومة تجارة الرقيق، فأخذت الحركة بعداً جديداً إلى جانب محاربة تجارة الرقيق هو العمل على تحرير الرقيق وإبطال الرق نفسه. وبذلك، فإن إسماعيل سار بالحركة المناهضة للرق في خطين متوازيين هما: محاربة تجارة الرقيق، وتحرير الرقيق من البيوت والعائلات، على أن إسماعيل واجه معارضة شديدة وتعنتاً من رجال الدين والمال والأثرياء وملاك الرقيق أنفسهم في مصر، وكانوا «ينظرون إلى محاولات إبطال الرق باعتبارها تحدياً وتعدياً على الشريعة الإسلامية والعرف السائد». واعتقد هؤلاء أنه لا يوجد أي مبرر يدعوهم إلى التخلي عن ممتلكاتهم بهذه السهولة. وفي المقابل نجد حالات تحرير قام إسماعيل باشا بتعويض أصحابها، فنجده يصدر أمراً في 20 ذي القعدة 1291هـ/ 29 كانون الأول (ديسمبر) 1874م، بصرف مبلغ 26942 قرشاً من خزينة مديرية الغربية «ثمن السودان الذين يطلبون الحرية»، وتكليف محمد ثابت باشا مفتش أقاليم الوجه البحري بالإشراف على دفع هذه التعويضات إلى أصحابها. واستمر هذا الوضع حتى تم عقد معاهدة الرقيق في 4 آب 1877، وتم بمقتضاها إنشاء أقلام حكومية أصبحت هي المنوطة من دون غيرها بعتق الرقيق الطالبين الحرية.

استمرت جهود مصر لوقف تجارة الرقيق في عهد توفيق بالقوة نفسها التي كانت عليها في عهد إسماعيل، فقد استهل توفيق حكمه بإصدار الأوامر إلى حكمدار السودان، وكذلك إلى مديري المديريات، ورجال الإدارة بمراقبة تحركات تجار الرقيق، وتعقبهم في كل مكان وإلقاء القبض عليهم ومصادرة ما معهم من رقيق، وكان من نتائج هذه الأوامر أن تمكن مدير أسيوط من إلقاء القبض على قافلة للرقيق في 29 نيسان (أبريل) 1880، وكانت هذه القافلة آتية من دارفور إلى أسيوط من طريق درب الأربعين، وبلغ عدد الرقيق الذي تم ضبطه 617 من الرقيق ذكوراً وإناثاً، إضافة إلى ما ذكره هؤلاء العبيد المضبوطون عن قيام التجار ببيع خمسين عبداً في الطريق. وفي 24 حزيران (يونيو) من العام نفسه تمكن مأمور سواكن من القبض على عدد من التجار وبصحبتهم ثمانون عبداً، وفي 19 آب تمكن مأمور فازوغلي من القبض على بعض التجار وبصحبتهم مئتان من الرقيق الذكور والإناث، ولكن هذا المأمور قام ببيع العبيد لحسابه، ما أدى إلى رفته من وظيفته وتقديمه للمحاكمة أمام المجلس العسكري، كما قدم في العام التالي مأمور فاشودة للمحاكمة بتهمة الإتجار بالرقيق حيث وجد في منزله 54 عبداً، وفي 1880م أنشأ توفيق «مصلحة إلغاء الرق» وعين لرئاستها الكونت ديلا سالا الذي اشتهر بحماسته في محاربة هذه التجارة وفي فترة الثورة العرابية، شن قادة الثورة حملة ضارية ضد تجارة الرقيق، وأعلن عرابي أنه: «ليس في مصر من يود أن يكون له عبيد غير أمراء بيت الخديو والباشوات الأتراك الذين تعودوا على استعباد المصريين، وأن الإصلاحات الجديدة ستوجد المساواة بين الناس مهما اختلفوا في الجنس واللون والدين، وليس مع هذا الإصلاح محل للاسترقاق». وقامت الثورة بحملة جماهيرية تزعمها عبدالله النديم بهدف تكوين جمعية سميت «جمعية الأحرار السودانيين» هدفها مساعدة الأرقاء المحررين وتقديم المعونات لهم. ودعا النديم إلى محاربة تجارة الرقيق الأبيض بوسائله المختلفة، ودعا إلى إلغاء البغاء العلني، وعبّر عن تعاسة الخادمات اللائي كن من الجواري وحصلن على حريتهن، حيث أصبح استخدامهن في البيوت مجرد غرض ظاهري أما الغرض الحقيقي فلا يتصل بالفضيلة، ولا محل لتنفيذ قوانين الحرية، بخاصة أن معدل منح تذاكر الحرية من أقلام عتق الرقيق لم يتجاوز ألفاً وأربعمئة رقيقٍ كل عام، بينما عدد الرقيق الموجودين في مصر يومذاك يتراوح بين ثلاثين وأربعين ألفاً، والمفروض أنه عند إنشاء تلك الأقلام أن يهرع الرقيق إليها للحصول على حريتهم، بحيث يتم تحرير الثلاثين ألفاً في عام أو عامين، ولكن ما حدث لم يكن كذلك فالرأس التي ولدت محنية لا تملك من أمرها شيئاً فقط يتحكم بها التاريخ والزمن الوغد، فالذين تقدموا بطلبات للحصول على أوراق الحرية من العبيد المقيمين بمصر لم يتجاوز عددهم أبداً نسبة 50 في المئة ممن منحوا تذاكر الحرية، أما نسبة 50 في المئة الباقية فهي تذاكر منحت للعبيد الذين تم تخليصهم من أيدي تجار الرقيق عند تهريبهم عبر الحدود تمهيداً لبيعهم بأرخص مما تباع البهائم في الإقطاعيات الشاسعة.

عمرو عبد العزيز منير

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى