الخميس ٣ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٥
بقلم هيثم نافل والي

الكايزر العراقي

خطايانا عنيدة، وتوباتنا خسيسة ونحن نتقاضى ثمناً غالياً لاعترافاتنا ونعود بفرح إلى الطريق الموصل معتقدين أننا بدموع حقيرة نغسل جميع أوساخنا!!

بودلير

تنويه:

لأن قصتي هذه يصعب تصديقها:

أقسم بعمري الذابل، وروحي التي سكنتها الجراح قبل أن تولد، والأمل الذي لا أعيش من أجله، بأنني غيرت عنوان القصة وأعدت كتابتها تسع مرات بقناعة لم تقنعني!! وأنوه بأنني لا أطلب في قصتي من القارئ المنتفخ بالغرور والعظمة مثلي الذي يدعي بأنه سيغرق العالم بإيمانه، أكثر من صبره.

زمن القصة:

حفرة كبيرة مثل جبل في الظلام وزمنها زمن منهوب، واقع بين ولادة القيصر وحتى ولادته الثانية والعاشرة والمستمرة إلى جحيم الآبدين... لأنه وببساطة شديدة رب، والرب لا يموت!!

سحقاً لنا...

لماذا نريد منه أن يموت؟!

مسرح القصة:

كل العالم إلا الوطن!!
مكان يعرفه كل العراقيين الذين ولدوا بمعجزة.
وما يكون مسرح قصتي غيره؟!
ضياع العراقيين في متاهات الغربة طبعاً.
القصة:
عجين لا يريد أن يختمر!!
أقول عكس ما تقوله الكتب:
إن من يعرف الحقيقة هو من لا يتجرأ على الكذب.
الكايزر العراقي، قصة قصيرة، صريحة وسرية جداً، لذلك، أعلنها على الملأ قبل وقوعها كخطط حروبنا المخجلة ضد إسرائيل!!

أحذركم من( فشها أو طشها ) لأن الحقيقة القاسية المؤلمة أو المخجلة في بلادنا يجب أن تبقى سراً كالفضيحة!! خاصة إذا تعلقت بحقبة تأريخية مهمة من حياة أولى حضارات العالم قبل طغيان العصر الهمجي المنحدر من زمن الديناصور النادر المهجن بالتبني من سلالة جنس الكايزر العراقي الخالد الأزلي والأبدي؛ وحتى انقراض آخر جنس بشري عراقي على أرض مهد الحضارات بابل التأريخية!!

أنا هنا مجرد شاهد على هذا العصر كمؤرخ مخلص لا أريد إلا أن أروي ما سمعته ورأيته في السنين المنقرضة الحاضرة والآتية وأقول هذا لأن زمن القيصر يمر سريعاً كالبرق لا نكاد نحسه فكيف لنا أن نحسب حركته؟! فأرتأينا أن نقدر سنوات حكمه بالأيام!! وقد ارتاح لمعادلتنا الحسابية هذه كثيراً... كافأنا بغدق بأن نفانا نفياً وهو يضحك بسعادة عجيبة كابن قحبة*.
ارتأيت أن أحدثكم عن القيصر الآن وقبل أن أتحول إلى شيء يشبه سكون الأصنان، وإذا صادف وبعثت من جديد يوماً أكون ساعتها مرتاح الضمير! وهذا أمر مستبعد جداً، بل مستحيل، لأن الكايزر لا يموت وبالتالي لا يحتاج لكي يبعث من جديد فهو موجود مادام الوطن موجود؛ طحن الله عظامه ونثرها في الهواء كالنشاء.

اسمحوا لي أن أقول شيئاً كشيطان يتجلى في لحظة تأمل وصفاء( قد يبدو ما سأقوله غريباً ) لكنني أقسم بعدد أصابع يديَّ العشرة إن ما سأسركم به حقيقة:

العراقي كان وما يزال يولد قبل أوانه، لكن المعجزة التي انتحرت منذ زمن بعيد ويد الله الرحيمة الحكيمة كانتا دائماً تتدخلان لعيش العراقي ككائن لم يولد مثل نوعه وجنسه على الأرض وبهذه القياسات الخرافية شبه المطلقة... إليس هذا أمراً مدهشاً ويستحق العناية والمتابعة؟!

أخيراً أقول مبتهلاً مثل ملاك حقيقي لا ينقصه سوى جناحين: جزانا الله على قدر أعمالنا ونياتنا ووقانا شر الحاسدين وألفت انتباه القارئ إلى أن سرد القصة سيكون مسؤوليتنا الأخلاقية والأدبية أمام الله وأمامكم( أقول هذا وأنا أشعر أن صوتي يكاد يكون مخنوقاً وفمي مكمماً ) لكن هذا سوف لن يمنعني من مواصلة الحديث معكم...
* كتب لي أحدهم مستفسراً: لماذا تكتب بإباحية؟ كما حصل مع قصة الشهوة وطريق الهجرة!! أجبته سائلاً: ولماذا كل هذا القهر في العالم؟! ثم أردفت: أخبرني عن ذلك وأنا سأقول لك ما في داخل مصارين الشيطان... ولم يحر جواباً وربما اعتبر الصمت صلوات للرب كما يقال!! في حين طلب مني في وقت سابق رئيس تحرير إحدى المجلات الخليجية المعروفة والتي تديرها شيخة بحق من بيت السلطان قائلاً: ارفع كلمة الشيطان من كتاباتك وأتعهد بأن أنشر لك كل قصصك في مجلتنا!! ولأنني لا أريد أن أكون حماراً، وافقت على طلبه!!

لم تعلن الساعة عن نفسها الثامنة من صباح القرن الحادي والعشرين، السبت من عام التوبة؛ احتلَّ النور العالم من الجهة التي يسكن فيها عبد الخالق، وركد الظلام مخيماً في الطرف الآخر منه؛ وما أن كفت رياح الليل من صفيرها حتى بدأت نسائم الهواء العذبة بالتصفيق بهمس ورقة مثل أصطفاق جناحي ملاك سمائي رحيم... فنظفت الأرض من أوساخها كربة بيت ماهرة؛ قرر عبد الخالق بعد أن ابتلاه الله بالمرض كما ابتلى سبحانه العراقيين كونهم من العراق ورأس ذنوبهم حبهم لوطنهم... يا لها من جريمة لا تغتفر! وعقابها كان جماعياً: شواء العراقيين أمام عيون العالم أجمع في موقد الغربة الكبير المتقد! ربما يستحق العراقيون ما يحصل لهم!! لماذا أحبوا وطنهم بهذا القدر؟! بحق الجحيم أي ملاك أوصى أو اقترح عليهم هذا الحب؟

قلت، قرر عبد الخالق بعد أن ابتلاه الله بالمرض وبعد أن أشار له طبيبه الخاص في ألمانيا- حيث هو يعيش - ضد مرض التهاب الرئة الذي يفرح ديدان الأرض لخبر كهذا للعلاج والنقاهة في إحدى المعسكرات الصحية الراكدة على أعلى قمم جبال الألب القريبة من الله والمحاذية لحدود النمسا والمسماة بقمة الكايزر وكأن القيصر أو الإمبراطور لا يرضى بأقل من هذا الارتفاع حتى لو تعلق الأمر بالتلال والجبال! ماذا نفعل؟ علينا أن نقبل! ولكن الشهادة لله... كانت قمة بيضاء تلمع كنطفة الرجل، مطلية بالثلوج- وكما قالوا له - تبقى هكذا صيف شتاء بقدرة واجدها؛ لها شكل ملتوي متدرج تجلس على أكتافها الصخور بشموخ وتتسلقها متجهة نحو الأفق العالي كملوية سامراء التي لم يرها إلا في صور الأطلس الذي وزعته الحكومة يومها بقرار من قيصرها مجاناً تحت اسم مجانية التعليم وسلبت من العراقيين بدلاً منه عمرهم!! ماذا يعني هذا لكايزر كان يسمي نفسه الوطن والمجد والأخلاق والشهامة والجمال وسحقاً لقد نسيت أن أذكر أنه كان يعتبر نفسه مبرر وجودهم!! ومن يتطاول بلسان طويل أو قصير أو حتى بلا لسان ويرفض... يعطيه القيصر بدلاً من حياته أطلس جميلاً ملون الأوراق وأملس كالصلعة براقاً ورائعاً وفيه خرائط محافظات القطر العراقي السبعة عشر مجاناً... يا لها من مقايضة خاسرة وخسيسة؛ لقد كان يفعل كل ذلك بشذوذ رهيب وهو يقهقه بعنجهية كوحش استبد به الشبق وصدره الممتلئ الذي يشبه صدور المرضعات يهتز وتهتز معه جدران القصر، رافعاً يده اليمنى كالمتسول مردداً:
كيف هذا؟

لقد بات أصدقائي أقل من حراسي!! ثم يبصق على الأرض وأحياناً على من كان واقفاً أمامه ويهتف شائطاً:
هذا لا يرضي أحداً... فما بالكم لو كان الكايزر شخصياً بلحمه وشحمه وعضوه التناسلي يفوق عضو الحصان طولاً وعرضا؟! ثم يهدهد مترنماً- ولا أعلم - ربما حزيناً مستهتراً: آه... كم أحب هذا الوطن؟ ويجيب على تساؤله مضيفاً كالنذل: كيف لا وأنا الوطن نفسه!! ثم يصرخ بخبل ووحشية كهتلر عندما كان يخطب، بوجه مكروب وبسحنة كبريتية غامقة أغمق من الهول بلون برازه ومؤخرته تطلق أرياح جهنمية مقلقة تخافها حتى الكلاب السائبة والمحبوسة: أعيش وأحيا أنا!!
غفرانك يا رب... ماذا أقول وكيف أصفه؟ رحماك يا رب وأنت القادر على كل شيء...
لقد كان مجرد المشاعر شنيعاً كمومس بحارة مرفأ، أّفّاق يحاكي الشياطين ويعرف كل حيلهم ويتغلب عليهم بمكره وخبثه وإغوائه، ذئب يمشي على قدمين، داهية كأنثى القرد، تواق إلى ممارسة العار، سفاح بمعنى الكلمة، لا يهمه في حياته أكثر من صنع الكوارث لما حوله، إبليس بلا رحمة ورذائله لا تريد أن ترتوي أبداً، خاصة عندما نهق مصرحاً متمماً ما كان داخله يصهل به:

هؤلاء الغرباء( يقصد الشعب العراقي- أبناء الوطن بالعادة ) لا يريدون أن يفهموا، لولا وجودي في سمائهم( على اعتبار أنه الرب ) لما ساوى عراقهم بعرة خروف!! ثم يفتح فمه العريض كالتمساح ويضحك بسفاهة قاتلة، ويهتز صدره مجدداً وتهتز جدران القصر من أساساتها...

لأرجع إلى النقطة التي بدأت فيها كتابة هذه القصة التي أتوقع أن ألقي حتفي بسببها...
ما أن جمع عبد الخالق شجاعته واستحضر جرأته وما تبقى من إرادته... عزم بعد تناوله فطور يوم السبت الدسم أن يرفه عن نفسه بعد أن شعر بأنها موحشة في الأيام الخمسة الأولى من إقامته في المعسكر الصحي( ولا يعرف عبد الخالق بالتحديد نوع الشيطان الذي يوخز عقله كي ينادي المصحة التي يتلقى العلاج فيها بالمعسكر؟ ويظن وقد يوافقه القارئ العراقي هنا أنه لسبب نفسي موجود داخل كل عراقي كوجود الكبد والبنكرياس في جسم الإنسان الطبيعي ) ذكرت، أنه أراد أن يرفه عن نفسه، ولكن قبل أن أتابع سأصف عبد الخالق قليلاً بحكم حبي المجنون للوصف وبلاغة التشبيه الغريبة التي يتصف بها نسل إبليس وأنا على ما اعتقد أحدهم:

تجاوز بطل القصة- الذي يعتبره الأخرون منحدراً من نسل هابيل - للتو مرحلة الشباب ودخل خريف العمر المحفوف بالتوجس؛ خجول ويقول عن خجله بأنه لا علاج له كمرضه، تمتع بعادات كثيرة لكنه لم يدمن على إحداها، فعاش حراً؛ له وجه يوحي بالغنى والتواضع، وعينان مبتسمتان برمشين قصيرين يعلوهما حاجبان رسما بدقة، وجلده يشبه جلد الفقمة ويديه ناعمتان لا تحزر منهما مهنته، طاهر مثل صفحة بيضاء، زاهد وبسيط كالماء، رفيع العود، قليل الأكل، ممسك الكلام، طيب السريرة رحيم القلب لكنه مترع بالألم الصامت، غير موذٍ مثل ضحية ولا ينزعج عندما يصف نفسه أو يصفه الآخرون بالسكير والكافر والقاتل، إذ غالباً ما يرى نفسه النقيض من هذا كله... صبور وصبره لا يقارع مثل صبر الآلهة لكن ذاكرته ضعيفة جداً ولم تنتعش يوماً كصحته، يقول عنها مثل صفحة ماء لا يمكن الكتابة عليها... يسافر إلى أقصى نقطة في العالم وهو مازال في مكانه متسمراً، حيث يسافر بخياله، وروحه هائمة لا تعرف الأستقرار مثل خياله، لا يحب ولا يحقد، مؤمن بعقيدة فردية قوامها الله وليس دين الأمة التي ينتمي إليها، وغالباً ما يعيش في عالم غير عالمنا، محبا للفن وشياطينه...

غادر بوابة المعسكر دون خطة حكيمة مسبقة أو موضوعة من قبل، كخطط قائد القوات المسلحة العراقية! سار في الشارع المقابل للبوابة مباشرةً والمتجه نحو الله، أقصد، نحو القمة كسجين هارب وتوقع أن لا يلتقي أو يرى هناك إنسانا أو حيوانا وسعد لحظتها عندما أحس بهذا الشعور الذي سيجعله وحيداً مع ربه لنصف نهار على أقل تقدير وهام سارحاً مترجلاً كناسك في صحراء وهو يخطو بخطوات سريعة نسى فيها مرضه، وللصدق والتاريخ العربي المغرم به لصدقه! أقول بوضوح: كانت خطواته واثقة كمن يخرج من قاعة محكمة بعد النطق بحكم البراءة من تهمة كانت خليقة أن تودعه الحبس وفجأة صدح في أذنيه صوت المطرب حاتم العراقي وهو يغني موال( الطيب لا وجود له في عالمنا... ) فتذكر بأنه كان قد وضع سماعة التسجيل الصغير في أذنيه والذي حمله معه دون تفكير ثم نسيه وتركه يشتغل على هواه دون أن يعي بأنه سيرطن معه بلهجة عراقية عامية دارجة وهو لا يريد أن يسمع أو يتكلم مع أحد ساعتها... فضغط على زر التشغيل وأتى على حسه، فمات الطيب واختفى صوت العراقي!!

يا له من صعود رائع( هكذا حدث عبد الخالق نفسه ) إذ والحقيقة يجب أن تقال، كان ينهب الأرض بسيره نهباً، بل يلهبها كالأسواط على ظهور الجياد بغية انطلاقها بسرعة جنونية وهنا لا تنطبق عليه إلا حكمة الروائي العالمي" ماركيز " عندما قال- لا يوجد دواء يشفي ما لاتشفيه السعادة، والطبيعة هي التي عالجتني من أمراضي التي سببها لي الأطباء بأدويتهم- يتقدم بعنفوان ويحك سطح الأرض بقدميه منتعلاً جزمته ذات الرقبة الطويلة الخاصة لتسلق الجبال وللترحال والهدف كان واضحاً من سياق القصة- ارتقاء قمة القيصر ثم الوقوف على هامتها المنتصبة الشامخة ليدوسها بجزمته – يا له من حلم لذيذ ومدهش سيصبح واقعا بعد قليل...

ذكرت أن هامة الكايزر- معذرةً، لكي لا يؤول كلامنا هنا إلى شيء آخر - أقصد، قمة جبل القيصر كانت قريبة من الله... حتى أن عبد الخالق اعتقد بأنه بدأ يسمع أصواتا وصلوات وهتافات ودعوات وابتهالات كلما أقترب من القمة لم يسمعها من قبل عندما كان يعيش عند السفح قبل حضوره لتلقي العلاج، وقد فرح كثيراً بهذه النتيجة دون سبب واضح وربما شعر بحماية الله له بالفعل بحكم قربه! وكأنه في قلب رحمته وساكن في رحاب ذاكرته الواسعة غير المحدودة التي لا تنسى أحداً مهما كان جنسه، دينه، لونه أو نوعه وهذه هي بالتأكيد الوصية الحادية عشرة التي نادى بها زازاي( مؤرخ وناسخ عاش في العصر العباسي ويقال بأنه وراء الكثير من النصوص الدينية التي ظهرت مؤخراً ) فسارَ مندفعاً وهو يرفس الأرض ويجعلها خلفه بعد أن انتظمت ضربات قلبه رغم قسوة ومشقة الصعود ولم يستهلك من الهواء إلا أقله وكأنه يتنفس وهو نائم على سرير من الماء، والساعة لم تعلن الثامنة صباحاً بعد، ونسيم الهواء أصبح يميل إلى البرودة شيئاً فشيئاً كلما توغل صعوداً ولاحظ بأنه قد نسي ارتداء معطفه الأسود المتواضع الذي يشبه الجاكيت التركي إلى حدٍ ما بأزراره الفضية التي تذكره أزراره كلما ارتداه بالدراهم العراقية القديمة؛ لكنه لم يتراجع وقرر دون جزء من لحظة تفكير من السير قدماً وحتى الرمق الأخير كجندي عراقي مسكين لا أمل له في النجاة من موت محقق في إحدى معاركهم النضالية الحربية المعتدية دائماً، فقرر المسكين المضي في طريق الخلاص، وعبد الخالق الذي يعبد ربه لم يفعل غير هذا ثم ضحك بداخله كالطفل لتلك الهواجس السخيفة التي كانت تمر على ذهنه في ساعة مبكرة من صباح سبت مازال نائماً وهو هائم وكأنه بصحبة كلب يريد الأخير قضاء حاجته في الخلاء بحرية لا يمتلكها العراقيون في بلادهم دون رقابة( وهنا لا أريد أن أفتح موضوعاً شائكاً جديداً قد يؤخذ علينا مأخذا ) لكن عبد الخالق كان يشعر بإحساس غريب، وكأن هذا الصباح سيكون فيه نهاية العالم، وكاد حدسه يصدق...

حيث ما أن توغل دون هداية- كأسباب الحروب العراقية التي نسينا عددها- نحو القمة، ممتثلاً لإرادته التي كانت تطوقه كالنير في رقبته( النير هو طوق خشبي يستعمل في الصين قديماً يطوق فيه رقبة السجين ) حتى رأى صبيا على هيئة عجوز في تقوس هيكله ويحمل على ظهره حدبة وتجعد وجه يشبه حبات الزبيب، بعينين داكنتين متعبتين ضيقتين تبدوان كجرحين في الوجه بلا رموش، يمتطي دراجة هوائية بعجلات ثلاث وقدر سنه نحو السابعة، له رأس بيضوي صغير، مشدود الجلد كبطن الضفدع، بأذنين كبيرتين مشعرتين، دقيق وناعم العظام، بأسنان مثلمة تشبه أسنان الرضيع، له نظرة مثل نظرة الحمل الشارف على الغرق وابتسامته كنظرة عينيه فاستغرب عبد الخالق من وجوده غير المتوقع وفي مكان منعزل موحش كحياة العراقي في منافي الغربة!! فاستوقفه متسائلاً مشدوهاً بلا شعور كأنه يتوسل بالصبر لإنقاذه ويحاول أن يبحث عن عيني الصبي كي يركز فيهما بنشوة لاسعة كنشوة اللحظة الأولى من وقوف المرء فجأة تحت شلال ماؤه بارد جداً: هل أنت عراقي؟

 بوهن كمن يزن قدر روحه متجاهلاً سؤاله ومضيقاً عينيه تحت حاجبيه: وأنت؟
 إي... أنا كالعادة... توقف لبرهة التقط فيها أنفاسة وهو يسر ذاته هاساً: عونك يا رب يا إله الفقراء ثم تابع مغمض العينين مجيباً: أنا عراقي مغترب، وعاد وسأله مباغتاً مثل كبير كهنة الشياطين: لكنك لم تجبني على سؤالي!!
رد عليه بنغمة ساحرة حزينة وشجية مثل نغمة الناي تفتت الأكباد: وأنا كذلك
 إذن أنت عراقي؟! ( قال ذلك بانفعال عاطفي مفتون وبلهجة لا تدل على التصديق كمن يراهن على عظامه، الذهول يملأ عينيه والدهشة تلبس وجهه )
 غاضباً كالروح المتحررة من آثار الشك وبصوت يشبه الصرير: أنت إذن لا تفهم!!
 صارخاً وكأنه يود إيقاظ الموتى من قبورهم: بلا، لكني أكاد لا أصدق عيني، ثم خاطب عبد الخالق نفسه مغمغماً( يا مسبب الأسباب يا رب السموات كيف تأتي بطفل بهيئة عجوز، بوجه مجعد كحبات الزبيب، على دراجة هوائية بعجلات ثلاث وعلى قمة جبل القيصر؟ إنه أمر خارق ) ثم تابع متورطاً هل تسكن هنا؟
 برنة ملؤها الوقار والألم كرسول في بدء دعوته: كلنا نسكن هناك وحيثما نتعفن خلف هذا الجبل معزولين كبومات تنظر تنام وتنتظر... وهو يشير بسبابته الغليضة الطويلة التي تشبه عضو الذكر المنتصب!
 هناك أين؟- وهو يمسح المكان بنظره وكأنه صائغ يعاين قطعة ألماس يود شراءها – ثم غمغم بوجه من يفتقر إلى تعزية أو مواساة: أنا لا أرى غير فراغ غير منته!!
 بكلمات بليغة: هذا ما عنيته بالضبط... هناك في قلب الفراغ الموحش!!
 تغير لون عنقه وانتفخ، ازداد احمراراً محتقناً وهو يطلق زفيراً: باه... ماذا تقصد؟ ثم مستفسراً: قلت نسكن، إذن أنتم كثر؟
 بروح معذبة وبقلب مكلوم مثقل بالأحزان:
بالملايين!! ( وهو يردد مضيفاً بصوت خفيض ورقة: أراح الله روحك وأزاح الهم من قلبك وطرد الوسواس من عقلك)
 بمزاج منحرف كسياسي عراقي بلا حياء وكأنه لا يعرف:
يا رب العباد... بالملايين؟
 نعم بالملايين( وهو يرددها بمرارة لها طعم حساء الضفدع في الفم )
 باستغراب متراخي المفاصل:
الحقيقة أنا لم أعد أفهم شيئاً مما تقوله!!
 بإيحاء فلسفي: كيف أشرح لك الأمر؟ ثم أردف متخابثاً: أترك لك فهم ما تشاء.
 بتهكم ساخر وابتسامة بلا تعبير ترتعش على شفتيه: أراك صبيا حكيما.
 بجد غاضباً بعد أن اتقدت عيناه كجمرتين والدم في عروقه يفور كمن فقد صوابه:
احترم نفسك.
 مهتاجاً وهو يرغى ويزبد بعد أن تلاحقت أنفاسه بسرعة جنونية رهيبة وكأن قلبه يؤذن بالانفجار: احترم نفسي!! يا لمسخ الشيطان... ولكن لماذا؟
 هاساً كفيح الأفعى: لأنك قلت عني صبي وأنا ليس كذلك!!
 مجهداً وهو يردد مع نفسه: يقال- إذا تقدم العمر بالشيطان يصبح ناسكاً- فشعر بأنفاسه أصبحت ثقيلة كأنه يتنفس بزفير فردَ قاصفاً: لست صبياً؟! يا لأسرار الله المقدسة... وما تكون يابني إذاً؟ ثم استطرد: أنا أرى أسنانك المثلمة الماثلة أمامي بوضوح والتي وصفتها مذ قليل بأسنان الرضيع وجلدك شفافا مثل جلد الجنين!!
 متوجعاً وبقسوة لها أثر لدغة الناموس في الوجه: هذا لأنك لا ترى ولا تعلم عنا الكثير رغم أدعائك أنك عراقي!! وتابع بلغة حكيمة مثل لغة الشيوخ: ما أراده قيصرنا هو هذا بالضبط!!
 مثل شرير يحب الثأر: قيصركم!!
 نعم، يريد أن يجعل من الكبار صغاراً ليدوسهم ويعذبهم ومن الصغار كباراً لكي يدافعوا عنه، يريدهم أن يكبروا سريعاً ليدفع بهم نحو ساحات القتال التي يبنيها بمهارة مثل جلاد متمرس على قطع الرؤوس!! ثم تابع بعد برهة قصيرة: أنا أصلاً في الستين!! وإن لم تصدق أحكي لك حكايات لم تعشها وأنت بهذا العمر ولم تلحق عليها بعد!!
 مرتجف الأطراف: في الستين!! يا رحمة الله... ثم بشغف: أي حكايات تقصد تلك التي أجهلها؟!
 بنظرة قاسية كمن له من الأفضل أن يموت برقت عيناه فجأة وقال:
حكاية القيصر العراقي، كيف ولد قيصراً قبل أن يولد وحكاية حياته الشنيعة وقصة مماته تلك التي لم يمت فيها فاستمر كايزراً ومايزال!!
 منتفخ الأوداج: لم يمت!! كيف هذا؟ لقد أثرتني بكلامك! أنا رأيته يشنق عبر شاشات التلفاز والحبل الذي شنق به يشبه حبال مراسي السفن غليض وقوي... ثم غير من لهجته ونادى متوسلاً كشيطان خانته ذاكرته: أرجوك احك لي ما عنيته وقلته للتو... ما حكاية هذا الأمبراطور الذي ولد إمبراطوراً قبل أن يولد؟ أرجوك أنا لا أريد منك سوى سماع تلك الحكاية...
 باغته برصانة: وتصدق وتعترف بعدها على إني لست صبياً؟
 برنة ملتهبة وهو يتصنع البكاء مثل رنة ضابط عراقي يعيش على الرشوة:
دق الله عنقي، سأفعل طبعاً، أصدق وأعترف بجهلي( قال ذلك وهو يصلب يديه على صدره) وتابع ولكن أرجوك احك لي القصة منذ البداية ولتنزل على رأسي لعنة السماء وأكون بعدها راضياً...
 همّ... حسناً، سأروي لك الحكاية ومنذ البداية:

يقال إن صفاء العين من صفاء الروح وعينيه لم تكونا صافيتين ويبدو وكأنه من قوم سالومة، أرعن ولا يستطيع أن يقسم الشعير بين حمارين كما يقال، ضحكتة شرسة وفي عمق دعارته التي تشبه ذوقه لا تجد رواسب خلق كريم؛ ولد الكايزر العراقي قيصراً قبل أن يولد، العرافه قالت لأمه ذلك، لأن أباه لم يكن موجوداً أو معروفاً!! كان كبيراً طويلاً مثل عملاق، أسطواني القامة برأس يشبه القبعة المكسيكية، فبدا لنا مثل الحقنة الشرجية الكبيرة، لا يمكن تحديد عمرها، معذرةً، أقصد لا يمكن تحديد عمره وكانت هذه مأساتنا، حيث لم نستطع معرفه عمره الحقيقي، هناك من قال عمره مائة وخمسون، وأخرون قالوا وهم يقسمون بأغلظ الأيمان على أنه لم يتجاوز المائة والعشرين والقسم الثالث أشاروا بأنهم ليسوا متأكدين وعمره يتراوح بين التسعين والسبعين ثم يذكرون أخبارا عن ذويهم ويقولون مبالغين في تقديرهم: إنه ولد قبل أن تبنى العاصمة، حيث ولدوا ورؤوه موجوداً حاكماً قيصراً على سن الرمح!! وهذا ما يسمى في عرفنا العهد البائد الحاضر... فقاطعه عبد الخالق معترضاً سائلاً بحماقة وهو يمد لسانه كلسان المشنوق:

العهد البائد الحاضر؟! ماذا تعني بذلك؟
 بتواضع مستسلماً لبلاهة السائل: أعني أنه عصر عباسي متواصل ومستمر، طويل كعمر السلحفاة، بلع ريقه وتابع: أزيدك علماً، أن القيصر لم يمت كما قلت مذ قليل وتوهم للعالم!!
 كمن يئن من اليأس: ماذا... لم يمت؟! كيف ذلك؟ قلت لك رأيته عبر وسائل الإعلام يشنق بحبل غليظ كحبل مرساة السفن، ثم معلقاً والحياة قد فارقته دون رجعة... وأراد أن يستمر شارحاً، فتدخل الصبي محتداً: لم يكن هو القيصر الحقيقي الذي شنق، إنه شبيهه، لقد كان الكايزر ابن زانية، يعرف نفسه، ويعرف أنه سيعمر كأنه يريد أن يصبح أطول من عمر الله، لقد كان- أباد الله نسله- جلاداً متمرساً حقيرا، وإذن فقيصرنا مازال موجوداً يحكم ولا يمكن له أن يموت إلا بموت الوطن!! ثم أشار مغتاظاً وبيقين مرعب وهو يتحسس الأرض الواقف عليها:
لا تقاطعني أرجوك، وأردف: كانوا يفعلون أفعالهم في غرف كاتمة للصوت!! فقاطعه عبد الخالق مرة أخرى مقأقئاً كدجاجة تبيض:

غرف كاتمة الصوت!! واستطرد الصبي العجوز كشاعر يتلقى إلهامه من وحي دون أن يعير لتدخله أدنى اهتمام: كانوا يعطون الأمان لسجناء الفكر ويقولون لهم بحنية افعلوا ما شئتم ثم يؤكدون على الكلمة الأخيرة( ما شئتم ) على أن لا تقربوا حدود الكايزر ثم يرسمون على الأرض دائرة تمثل حدوده وكانت والشهادة لله صغيرة بحجم فتحة مؤخرتة تقريباً ثم يكتبون على حوافها أربعة حروف من يقرؤها يفهم مباشرةً أنها تمثل اتجاهات الكون الأربعة كأنها بوصلة، لكنهم يطمئنونهم وكأن العراقيين أطفال سذج مغتاظون: لا نقصد هنا الكون كله رغم أن طموحنا هو ذاك، لكننا نعني الوطن كله فقط!! ويستطردون بتبجح شيطاني دنيء: هذه هي حدود الكايزر وعليكم عدم التقرب منها لأنها حدود شرعية ورثها عن جده الخمسين وإلى أبد الآبدين... ويتابعون محتدين كغربان قادمة من الجحيم: ومن يعترض نأخذه هناك... فقاطعه عبد الخالق من جديد مأخوذاً متلهفاً كحديث العهد بالزواج: هناك إلى أين؟! لكن الصبي استمر وكأنه لم يسمعه: حيث غرف كاتمة الصوت ويجعلونه ينبطح على بطنه كوضع الرماية ويمارسون اللواط معه من الفجر وحتى الفجر!! صرخ صاحبنا غير مصدق: يا مسبب الأسباب، باه... كيف هذا؟!

 قلت لك لا تقاطعني، ثم استطرد بحماس متابعاً: ماذا أقول لك؟ كان يقول لا أريد من الشعب شيئاً سوى الطاعة والانحناء والسجود كخدم الملوك!! ثم يرد على أمنيته ساخراً جاداً: وهل هذا كثير عليّ؟! لقد أمر يوماً بهدم دار أكاديمية الفنون الجميلة لأنه قال عنها: دار الفنون القبيحة الداعرة التي تمثل عمل القحبة التي لا تعرف في حياتها إلا من تكرار نفس أدائها!! فقرر بمرسوم لم يكتبه، لأنه ما كان يعرف القراءة والكتابة، فألقاه ارتجالياً وهو يدق على كرشه مثل أنثى الغوريلا كما في كل مرة، فتم هدم الأكاديمية وأمر ببناء وزارة بدلاً عنها أسماها وزارة الهجوم الحربية التي من أقدس مهامها غدر الصديق في الظهر، ونهب الجار في غيابه، وفض بكارة الصبايا عندما يستحمن ويغتسلن قبيل الصلاة!! كما أنه أعطى أوامره بقتل كل الكلاب، لأنه يقول عنها سبب بؤسه وتكدره وأنها تقلقه ساعات راحته، ياألله كل الذين التقوا به أكدوا: كانت تفور منه رائحة مقززة مثل رائحة نهر فائض... عندها توقف الصبي عن الحديث، سرح في خيال بعيد متجهماً، خافضاً بصره نحو الأرض وارتسمت على محياه صور قاسية أليمة رآها ملطخة بالدماء فسأله عبد الخالق متوسلاً راجياً أن يكمل وهما مازالا واقفين في عرض الطريق الجبلي:

رفع الطفل العجوز رأسه نحو السماء مهموماً وقال: ماذا أقول؟ لقد كان لثورنا رغبات وهوايات موسوسة، فتارة يطلب قتل الكلاب كما قلت، وأخرى يحرم الغناء وقت العصاري، وفي مرة صرح: أنا أعرف قدري من بقايا قهوتي ومن باطن يدي، سأعيش إلى الأبد، ولا توجد قوة في العالم تمنعني من ممارسة حقي الطبيعي في الحكم والحياة، وهو يزعق ناهقاً كصيحة قرصان أعور وهو يقصد العراقيون:

سأرجعكم كما وضعتكم أمهاتكم عراة يا أبناء الحضارة الأولى!! لقد أتى على كل شيء كسرب الجراد والإعصار، وفي مرة حلم فيها في قيلولة الظهر وقام من نومه مرعوباً وخطب فينا صاخباً كصخب المتزوج في حالة نزوة وبصوت يشبه صوت الماء الخارج من مجرى محشور: لا تلبسوا في احتفالاتي المئوية غير ثياب الجثث البالية!! ويعقب على كلامه قائلاً: لأنكم هكذا تجعلونني أموت من الضحك وهذا أمر يسليني كثيراً ويجعل لعابي يفرز أكثر وهو أمر صحي جداً!! ولكن في إحدى خطاباته الطويلة نسى نفسه فيها وأمر برعونة ساحقة كعاداته المزمنة وفي لحظة طيش وما أكثر سنوات طيشه بقلع عقارب ساعات العراق كلها- العاملة والعاطله- فضاع علينا الحس بالوقت وصعب على العراقيين من حساب الزمن وبعد فترة- الشيطان لا يعلم مدتها- شعر الكايزر الضرورة ومبرر وجودنا في الحياة- كما يدعي - وهو منبطح على بطنه يضرط وبحضور خمس من عشيقاته السريات الاتي كن يجلسن على بدنه الممدود كما تجلس الحروف الأربعة في البوصلة والخامسة بعجيزتها العارية على ظهره كنوع من أنواع التدليك التايلندي... قلت شعر ابن الزانية الذي لا يريد أن يصدق على أنه ابن زانية بأن الساعات هكذا وهن عاريات دون عقارب تتحرك مملة!! فأمر بقطع رأس كل من نفذ قراره الخائب وأعطى إيعازه بتعليق وترجيع عقارب الثواني فقط إلى الساعات مجدداً كي تبدو الأخيرات أجمل وللتاريخ والحقيقة لله كان هذا أول وآخر أمر رئاسي يصدره الكايزر ثم يتراجع فيه متابعاً ناهقاً وهو على بطنه منبطحاً وعشيقته الخامسة عارية بعجيزتها الكبيرة تتحرك لاستكمال مراسيم التدليك وهو في حالة سكر شديد في شبه غيبوبة: على شرط أن تجعلوا عقارب الثواني تسير إلى الوراء كالساعات البفارية وأن لا تتقدم لأنني الوحيد على أرض الوطن من يحق له التقدم!! فغرق العراق منذ لحظتها بفراغ زمني مروع هائل مخيف مغلق ومتوتر وكأننا نعيش بلا جاذنبية على الأرض ولم نعد نعرف كم استمر القيصر في حكمه... فنهب زمن العراق وأصبح مثل حفرة كبيرة كجبل في الظلام، لصعوبة تحديد أو حساب الزمن... فلم يعد يعرف زمن حكم القيصر وهل هي فترة واقعة بين ولادته الثانية أو العاشرة أو إلى جحيم الآبدين؟! ولأنه كذلك قال يوماً متبجحاً مختالاً كالطواوس في لحظات تجليه وغطرسته كافراً:

أنا رب والرب لا يموت!! ثم انحدرت من محجري الصبي دمعة كبيرة طالما رآها جامدة في مكانها لا تريد أن تنزلق أو تعبر عن نفسها، لكنها سقطت فشربها وهي ملتهبة كقطرة بول حارة... وفي هذه اللحظة سمعا صوتا من بعيد ينادي على الصبي ويقول بنبرة مهزوزة كمن يشعر بالحمى:

أين أنت يابني؟ وماذا تفعل عندك؟! ها... ومن هذا الذي يقف بجانبك؟
 فسأله عبد لخالق مندهشاً: ومن يكون هذا؟
 إنه أبي!!
 ماذا؟ أبوك!!
 نعم.
 لكنه يبدو أصغر منك، وسنه لا يتعدى الخامسة!!
 عليك أن تصدقني، القيصر لا يريد أي مخلوق أكبر منه، فجعل الرجال صغاراً، وأبي أحد هؤلاء الضحايا... وهو يشير له بأصبعه الغليضة اللعينة التي تشبه النقانق المشوية، انظر إليه، إنه تجاوز التسعين وهو على هذا الحال!!
وما أن غادره الصبي ملبياً نداء ورجاء أبيه حتى أخذ معه قلب عبد الخالق دون أن يجعله يعلم بعدها تردد على مسامعه صوت مدوى في آفاق الجبل مرتداً كصدى زئير الأسود الغاضبة:

لقد تناسى الكايزر الرهيب: إذا كان زمن حياته على الأرض لن يكفيه، فإن الخلود لن يكفيه أيضاً؛ شوى الله عظامه على القار... وانتهى الصدى مردداً: متى تهنأ حياتنا التعسة؟! متى...؟!

أطرق عبد الخالق مفكراً خافضاً رأسه على صدره مثل المشنوق، بكى بصمت مهموماً مثل الشموع وهي تذوب محترقة... وهذا كان آخر عهد لقائه بالطفل العراقي العجوز؛ حيث ما أن اختفى الصبي وراء الجبل كالضباب والسراب، وما أن سمع الصدى المدوي سرح طويلاً ولم ينطق بشيء وشعر برغبة جامحة تدفعه دون إرادة للذهاب خلفه، وعلى أقل تقدير لاسترداد قلبه الذي تركه عنده، ثم بلا شعور مشى وعلى غير هدى سار وكان على يقين أن مسيره كان صائباً ويد خفية تدفعه للتقدم والبحث خلف الجبل حيث الفراع الموحش الذي أشار له الطفل من قبل... وأثناء سيره شعر بضيق تنفسه، جاءته النوبه الصدرية، ارتجف مثل شبح بلباس أسود، أزرق وجهه، اختنق، ترنح، سقط، قام، مشى، تراجع، تقدم، واصل، وصل، مات، عاش، مات ولم يعرف له فيما بعد من أثر ولم يسمع عنه خبر... وكل الذي قيل عنه: انتحر، وقيل أن أخرين شاهدوه يلتقي بعائلة الصبي خلف الجبل، لكن أكثر من هذا لا أحد يعرف أو يجزم بقول أو قسم ولا حتى كاتب القصة... وبات العراقي يعيش على الوقار والكبرياء كالميت في مجاهل ومتاهات الغربة حول العالم، وعلى حلم يشبه معالم الخلود الذي لا يمكن الوصول إليه إلا بالمرور عبر طريق الموت أولاً!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى