الأربعاء ٣٠ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٥

لقاء بالقاص الناظوري ميمون حــرش

عبد الملك أقلعي

ميمون حِــرْش كاتب وقاص من مدينة الناظور المغربية، عضو اتحاد كتاب المغرب / فرع الناظور،كاتب عام جمعية "جسور للبحث في الثقافة والفنون ".. كُرم في ملتقيات أدبية كثيرة،ونال عدة جوائز أدبية مهمة ، منها جائزة النور للإبداع العراقية عام 2014..( الجائزة الثالثة في القصة القصيرة)..صدر له :

" ريف الحسناء" في القصة القصيرة سنة 2012- (الطبعة الاولى)، والطبعة الثانية منها سنة 2015 عن منشورات الموكب الأدبي / وجدة.
و"نَجِــيُّ لَيْلَتي" في القصة القصيرة جداً سنة 2013-
و" النظير" في القصة القصيرة 2015 مطبعة -
و" ندوب" في القصة القصيرة جداً 2015- مطبعة
هذا فضلا عن المشاركة مع ثلة من المبدعين العرب في مُؤلفات :
" عطر الفجر" في القصة القصيرة جداً..
"إشراقات" كِتاب رقمي في القصة القصيرة جداً..
" جُسور" في القصة القصيرة جداً ..

التقيته - أنا الصحفي عبد الملك أقلعي - وكان لي معه الحوار التالي:

لا يمكن القول بأن مجال الإبداع مفروش بالورد فلابد أن تعترض الكاتب مشاكل وعراقيل. فما هي المشاكل والعراقيل التي واجهها ميمون حرش في بداية مساره..؟

محاولاتي الأولى كانت في سنوات الثمانين، ومع ذلك لا زلتُ في البداية أحبو، ولا أدعي ما لا أرضاه لنفسي .. ولم أحقق بعد، كتابةً، كلَّ ما أريد.. هذا أولاً.. وثانياً أعتبر الكتابة في حد ذاتها أهم مُعرقل.. فليس سهلا أبداً أن تحمل القلم، وتحضن هموم الآخرين بحيث تكتب، ترسم، وتبدع.. وكما قال همنجواي تعذبني الورقة البيضاء على مكتبي.. والإبداع كما لذة الشراء عند أحمد أمين.. تفرح لأنك تكتب ، وتحزن إذا لم تكتب..الكتابة لا بد من أن تمر من عدة محطات تبتدئ بالموهبة أولا ، و الجهد المتمثل في التجربة الحياتية،غبر مخالطة الناس، و تكثيف القراءة ثانياً،ثم وصولا لبعض المعرفة كزوادة ، أو كدولاب المحفوظات الأدبية كما يسميها تشيكوف..

ولن أتحدث عن عراقيلَ أخرى مثل النشر، والتوزيع، والطبع وما يتلو ذلك من وجع الرأس، وصرير الأسنان حين تلقى من لا يقدر المبدعين، ولا ينصر الثقافة في الوقت الذي يستسمنون فيه ذوي أورام من سماسرة الخردة..

تشرفت بالحصول على مجموعة من الجوائز كما لديك العديد من المشاركات . حدثنا عن ذلك؟

أعتبر باكورة أعمالي "ريف الحسناء" بعد صدورها فألا حسنا عليّ .. تلقّفها الأصدقاء، والقراء من تلامذتي، وتركت أصداء جميلة في نفوس الجميع .. لقد خصّها نقاد كثيرون لهم وزنهم في الناظور وخارجه بقراءاتٍ جميلة، ودراسات في المستوى .. أذكر منهم: الدكتور فريد أمعضشو- الباحث عبد الله حرش - الدكتور جميل حمداوي - الدكتور امحمد أمحور- الدكتور ميمون مسلك – القاص عبد الرحيم التدلاوي- القاص محمد كركاس، الدكتور محمد يوب - الدكتور محمد باقي محمد من سوريا- الباحث حسين أقليد، الكاتب والناقد الخضر الورياشي(هو أول من توقع لها انتشارا محموداً)، والروائي اليمني محمد الغربي عمران من اليمن، والقاص سامي الشاطبي .. والقاص والمذيع علي أزحاف..

و أعتبر يوم دعاني القاص الكبير عبد الحميد الغرباوي لحفل توقيع " ريف الحسناء" في معرض الكتاب بالدار البيضاء عام 2012، بمثابة عيد، عزفت فيه على كمان القلب طرباً.. هذه جائزة لها طعمها، تتالت بعد ذلك حفلات توقيع "ريف الحسناء" في مناسبات عدة.. و" نجي ليلتي" كذلك ستحظى بحفل توقيع باذخ بالمقهى الأدبي بدعوة من جمعية ملتقى الفن والإبداع شارك فيه الدكتور جميل حمداوي، والدكتور نور االدين الفيلالي، والناقد الخضر الورياشي ..

والحق أني كنتُ في حاجة ماسّة لمن يقول لي: "استمرّ أنت كاتب".. هذه الثقة منحها لي الأصدقاء والنقاد بعد إصداري "ريف الحسناء" .. وفي السنة نفسِها، ستنال قصةٌ لي بعنوان "النظير أو الفنان هج" الجائزة الثالثة في المسابقة التي تُشْرف عليها مجلة "العربي" الكويتية الشهيرة، بمشاركة مع إذاعة بي بي سي (BBC) العربية. كما سيفوز مقالي: "لعنة حرف الكاف" بالجائزة الأولى في موقع "مجازين" بمناسبة اليوم العالمي لعيد المُدرس... أما جائزة النور للإبداع(2014) -دورة الشاعر العراقي الكبير يحيى سماوي فسأطير لها فرحاً.. حين حاز نصي " نجمة البحر " الجائزة الثالثة في جنس القصة القصيرة... وللتذكير فإن جائزة النور للإبداع سنوية، يشارك فيها كتاب عرب من كل الأقطار..يتبارون في كل الأجناس الأدبية( قصة قصيرة- قصة قصيرة جداً- مسرح- رواية- شعر-المقال-الحوارات- الدراسات والبحوث-النقد الأدبي- أدب الطفل-الأعمال المترجمة-شعر التفعيلة-قصيدة النثر-الشعر الشعبي..)

أما تكريمي في المهرجان العربي الثاني للقصة القصيرة جدا الذي نظمته جمعية "جسور للبحث في الثقافة والفنون" بالناظور سنة 2013، فسيمدّني بكثير من الطاقة، ويملأني أملا وحماساً، ويشعرني بسعادة عارمة .. وفوق ذلك، وهذا هو الأهم، سيلقي على عاتقي الكثير من المسؤولية لأكون عند حسن ظن السرد الجميل...

ما هي ظروف كتابة " نجي ليلتي" :الدوافع والحوافز والمعوقات ؟..

الكتابة تستثيرني في كل وقت، الليل خاصة؛لمّا تحضر الفكرة، وتنكتُ في رأسي.. أجدني أنضج في أتون الكتابة دون أن أشعر ومعظم نصوص " نجي ليلتي"، على اختلافها، فرضت علي نفسها بشكل مستفز.. ثم هي قصص قصيرة تجر معها عربة" جداً"..والكتابة في هذا الجنس أملته ظروف خاصة، لعل منها المؤثرات الإعلامية، والإقبال على كل ما هو سريع في زمن باتت الساعة فيه لا تأخذ نفَسها.. وهذا لا يعني استهانة بهذا الجنس ، بقدر ما أعني أن كتابتي في القصة القصيرة جدا لم تتأتَ لي إلاّ بعد أن تيقنتُ بأنها تضع قدميها على أرض صلبة رغم كل ما يقال عنها..

ثم إن الكتابة لا تعلن عن نفسها، ولا تعقد معك صفقة، أو لقاءً مسبقاً.. هي مثل حبيبة مشاغبة، إذا تجملتْ وانتظرتك، ثم تأخرتَ عن الموعد، أدارت لك الظهر معاتبة، ومحتفظة بابتسامة ماكرة، لكن لذيذة، لأنها تعرف في قرارة نفسها أنك عائد، وستطلب ودها من جديد، رغماً عنك، مرة ومرات..

و"نجي ليلتي" حبيبتي غارت من "ريف الحسناء" كثيراً..استعجلت الظهور، متملصة من جلباب القصة القصيرة..لذلك فهي مختلفة عن المجموعة الأولى باعتبارها في جنس القصة القصيرة جدا؛ تزامن صدورها مع إحيائنا في الناظور للمهرجان العربي الثاني للقصة القصيرة جداً عام 2013..ونالت توزيعأ عادلا إلى حد ما ، وبعد صدورها خفتُ كثيرا من آراء القراء حولها، والحق لم أكن أريد أن يعكر علي أحد طعم " الإقبال" الذي حظيت به " ريف الحسناء".. لكن رأي الكاتب الخضر الو رياشي المعروف عنه حرصه على انتقاء الأجود سيكتب حولها ورقة فتحت كوة في داخلي ، من نور.. أما الناقد الكبير الدكتور ميمون مسلك فسيكتب عنها في كتابه " غواية السرد القصير" مقالا عنونه " مجموعة " نجي ليلتي" ومؤشرات اللامعقول " تناول فيه أهم ميزة بالمجموعة.. بل ويذهب مسلك إلى أن كتاباتي في القصة القصيرة جدا لها طعم خاص بالمقارنة مع القصة القصيرة، كما سيفرد لها الدكتور جميل حمداوي مقالا خصه بالحديث عن الخاتمة / القفلة في قصص المجموعة، وكذلك سيفعل القاص محمد كركاس متناولا، في مقال جميل، نص " نجي ليلتي"، و سيكتب عنها كذلك القاص الأنيق نور الدين كرماط، وكذلك الكاتبان اليمنيان محمد الغربي عمران، وسامي الشاطبي..

هذه المتابعة تمنحني طاقة أنا في حاجة إليها كما قلت آنفاً..

هل تحس أن هذا العمل أضاف إليك شيئا ؟ شخصيا نفسيًا وماديًا واجتماعياً؟

بعد " ريف الحسناء" أستطيع أن أقول بتواضع بأن " نجي ليلتي" وضعت قدميْها بوثوق على الأرض.. هي عروس خطبها عرسان كثيرون، وباطمئنان أسجل أن رجع الصدى حولها، بعد قراءتها من طرف الأصدقاء، والكتابة عنها من طرف النقاد، منحني ظلالا داخلية..وبكلمة أنا سعيد بها..

يكفي أنها عرفتني بقامات سامقة في كتابة القصة القصيرة جدا داخل المغرب و خارجه..

أما عن الربح المادي، فلا أحد يكتب كي يربح أو يخسر..هذا كلام لا يستقيم في الأدب والإبداع عموما..
الأدب يُكتب، وقيمة هذا الأدب هي التي تحدد الربح والخسارة بالنظر إلى الأصالة فيه، وعمق الطرح الصحيح للأشياء، وترويج الفكر الأصيل عبر رسائل تُكتسب عبر طرح أسئلة بعد القراءة..

الإنسان صنيعة الماضي .. إلى أي مدى ساهم الماضي في تشكيلك الإبداعي ؟..

لست ماضوي التفكير، ولكن الماضي يفرض نفسه عندي كما عند غيري، وباعتباري قاصاً لا أنطلق منه دائما في بناء قصصي القصيرة، إنما من اللحظة الآنية المأزومة مستثمراً لقطات دالة ، وموحية منها ، ومع ذلك ظلال الماضي تترك أثرها عبر ومضات الاسترجاع شرط أن يحمل الماضي في قصصي إضافته للمستقبل...ثم إن القصة القصيرة غير الرواية، هذه حياة بأكملها، أما القصة القصيرة فهي تتناول اللحظة المأزومة كما قلتُ آنفاً ،و المفروض في القاص أن يكون مهندساً يضع في الحسبان أنه يبني بيتاً لا عمارة ...الماضي يُستعاد،ولا يعاد، ليكون شاهداً على ما يقع اليوم..
قصة "ريف الحسناء" – ص43 من المجموعة مثلا فرضتها لحظة غرق الناظور في فيضانات سنة2009 ؛ هذه اللحظة الآنية، المأزومة لم تكن لتمر دون التقاطها، والتعبير عنها ؛ وفي هذه القصة ، المستمدة من لحظة رهيبة عشتُها كما عاشها أهل الناظور، إشارات عبر إيماءات بأن ماضي الناظور كان أسوأ..وهكذا تجر الحظة المأزومة معها تلابيب ماضٍ انقضىى لكن له صلة لا بما يقع الآن ، بل بما سيقع غداً..

يحضر الليل والبيئة الريفية في إبداعاتك بشكل لافت. بالمناسبة ماذا يعني ذلك ؟

في " ريف الحسناء" تحضر الناظور بشكل لافت، والكتابة عن البيئة الريفية تروق لي ، أولا لأني ريفي، وثانياً لأن من حق مدينة عشتُ فيها ، أن أكتب عنها.. ولقد صدق الناقد الخضر الو رياشي حين قال عني بمناسبة حفل توقيع نجي ليلتي" :" هو (ميمون حرش) .. أبـوهُ : (الريف) ، وأُمُّـهُ : (الناظور )،إنه عاشق مدينة الناظور، المُخْلِصُ ؛ أرضاً وسماءً ، يابسةً وبحراً ، تراثاً وحداثةً ، ويتعلق بأحيائها وأمواتها على السواء ، ويذكر الجميع بما يستحقُّونَ ؛ فيقول للمحسنين أحسنتم ، وللمسيئين أسأتم. ولا تُحرِّكُ لسانَه بالقول ، وقلمَهُ بالكتابة ، إلاَّ مودة ، ورحمة ، وغيرة .. ولعلَّ الغيرةَ هي أشدُّ ما يُحرِّكُ لسانَه ، وقلمَه ، وقدميه أيضاً . ويكاد لسانُ حاله يقول : لوْ لمْ أكن ناظوريّاً لودِدْتُ أن أكون ناظوريّاً !!"..

قصة " ريف الحسناء" أصور فيها مدينة الناظور بألق ، أضفيتُ عليها مسحة أسطورية، أغدقتُ عليها أوصافاً جميلة بحيث كتبتُ بأنها حسناء، و رُودٌ جميلة يخطب ودها عرسان كثر( أقصد هنا رؤساء المجلس البلدي) ، وفيها أتناول معاناة الناظور في فيضانات 2009 ،و هول الدراما التي عاشتها إثر هذه الكارثة جعلتها تتبرم من أزواجها الذين نهبوا كنز الربيع لديها، ثم تخلوا عنها جحودا، وحين سألها أحد أبنائها عن سر هذه الخيانة واتتها النكتة، و حكت مدام " ريف" حكايتها، حكاية امرأة قيل لها: " من لم تتزوج أكثر من زوج واحد لم تتذوق حلاوة الحياة"، وكذلك كان، "ريف" تزوجت بمن تحب، وبمن لم تحب، والغريب أنها جزمت بأن أحسن أزواجها من ستزف إليها غداً..

مدينتي الناظور غنية جداً ، ( لكن ما أكثر الفقراء فيها!..) ، تحتل المرتبة الثانية في النظام البنكي المغربي بعد الدار البيضاء، رغم أن تعداد سكانها لا يتجاوز 180 ألف نسمة مقارنة مع البيضاء التي يصل سكانها إلى حوالي3 ملايين نسمة، ورغم هذه الثروة فهي لا تتوفر على أية بنية اقتصادية، وتصنيف المدينة في الرتبة الثانية بعد العاصمة الاقتصادية للمملكة له أكثر من معنى، ولن يستغلق فهمه حتى على الولدان، هي رتبة تخول لها على الأقل أن توصف كغيرها: " مدينة" علما أنها لم يحصل لها هذا الشرف إلا مؤخراً، وبفضل حزم صاحب الجلالة محمد السادس ،وهي صراحة ما كانت لتستحق هذه الصفة لولا جلالته،أما حين نعرف أن بالناظور توجد أكثر من 95 وكالة بنكية فأول سؤال يفرض نفسه هو: هذا العدد الهائل من الوكالات، وسط المدينة، وفي ضواحيها، لو لم تجد مصادرَ تضخ بها شرايينها، هل كانت ستتناسل بهذا الشكل الأخطبوطي؟ ثم أليس العدد مضحكاً في مدينة كانت إلى عهد قريب مثل أطلال لا يعيش أهلها إلا على التهريب، في الوقت الذي يفتح لصوص الإدارات أفواههم ليمتصوا عرق جبين هؤلاء لا لشيء سوى أنهم في موقع سلطة؟. هذه الثروة، من استفاد منها غير القائمين على أمورنا بفضل مشاريع تدر عليهم الزرع والضرع، يستثمرون بها أموالهم لا داخل الناظور، بل في مدن أخرى، والناظور- بالنسبة لهم- مجرد بقرة حلوب، ضرعها كشجرة، جذعها هنا، أما أغصانها، وفروعها فهي ضاربة في فاس،أو الدار البيضاء، وسواهما كثير، و نصيبها، تالياً، بعضٌ من زوادة "حنين"، كما في المثل،مجرد خفين..

الناظور مدينة عانت الكثير، قلبها قُد من رأس المأساة في زمن الرصاص ، أهملها أهلها، وباعوها بثمن بخس، بل وصلت بهم الوقاحة بأن زجوا بها داخل غرفة من تحرش بها، فاسترقوا السمع على صرخاتها أثناء اغتصابها .. كانوا بذلك يوقعون على " موافقة" صك تشويه سمعتها..

ولولا حزم صاحب الجلالة محمد السادس نصره الله، في تصالح العرش مع الريف في أبهى صوره لكانت الناظور مجرد مدينة كسيحة، يتكالب عاليها الخونة من أجل أن تظل جاثية حتى لا تقوم لها قائمة، ألا ساء ما يفعلون.
وبعد،
ألا تستحق الناظور من أهلها حبا قيسياً؟
ألا تستحق هذه المسكينة أن نكتب عنها؟!
مدينتي!
"أضاعوك، وأي ناظور أضاعوا
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر"

مدينتي ، أه يا مدينتي،أضاعوك مرتين: الأولى حين أهملوك بعد أن نهبوا كنز الربيع لديك،والثانية حين باعوك بثمن بخس لعرسان أنذال خذلوك ونهـَبوا ما لديك وغَنموا ومرحوا ثم راحوا .نعم راحوا بعد أن قصوا جناحيك حتى إذا فرع ريشهما من جديد يهيئ أوغاد جدد، كفنيق تماماً،محرقتك، لا يفكرون سوى في شوائك.. لكن من رمادها ستبعثين صبية جميلة، أما هم فلن يتذكرهم أحد، ولن يكون مصيرهم سوى مزبلة التاريخ، وهل إلا لمثلهم وجدت أصلا.

أنت في عيوننا، فلا دَرَّ دَرُّ من يخذلك.

جراحك حتما ستندمل غدا،جراحك مثل "عود لقماري" لا يزيده الاحتراق إلاّ طيباَ وعَرفاً،كذلك جراحك ستتعرش في قلوب الأمناء ورودا ورياحين، وفي صدور الخونة سرطانات خبيثة حتى لا ينعموا بما نهبوا طويلا.

ستأتي أيام ، ويصبح أهلك رحماء بك، عشاقك كثر والله،
أنت في عيونهم مشاعل،
وفي صدورهم ضفاف جداول،
وفي أيديهم قرنفلات ومعاول،
القرنفل لكل من يهبك كنز الربيع ، والمعول لكل الرعاع من خفافيش الظلام.
" نجي ليلتي" من أي مشتل ينبع هذا العنوان ؟..

يقول الدكتور ميمون مسلك في كتابه الرائع "غواية السرد القصير" ص 121: " العنوان ليس تسمية فقط، بل هو عمل من عوامل البناء الإبداعي، لأنه يساعد، ويكمل، ويحيل، ويدعو للتأمل...وهذه وظائف، وليست وظيفة، ومن هنا كانت خطورة العنوان"..

للعنوان عندي،من هذا المنطلق، حظوة خاصة في ما أكتب.. يعذبني اختياره،أقترح العشرات منه،وإذا حسمت أمري مع واحد تراني أبتعد في آخر لحظة.. وهذا ما حصل معي في "نجي ليلتي".. عذبني قبل أن يستقر رأيي النهائي عليه..
ومشتل عنوان " نجي ليلتي" هو من عالم الليل، يغريني سحر الليل مذ كنتُ حَدثاً ، وأنا منتمٍ لليليين إن صح تعبيري .
قديما كان إنسان الصحراء- والدنيا كانت كلها صحراء- يمتطي دابته، ولا يكاد ينزل، ينتقل، كقطع الشطرنج، من مكان لآخر،له من الألفة مع الأمكنة ما يجعله منسجما مع واقع صعب لكن محتمل.. الفضاء، الليل، النجوم، السحر، الندى، الطيور.. أشياء حية يعانقها حبا وهياما، يعيشها، يتلمسها،تملأ كيانه، وتمده بطاقة هو في حاجة إليه،أكثر من ذلك كان الليل ، لوحده، عالما جميلا ينثال المرء فيه كما الأرنب انثيالا، يهتدي بنجمه، ويسهر ليله، هو السكن مها طال أو قصر..واليوم الزمن غير الزمن، كل شيء فيه مقلوب، الليل مثلا ما عاد أحد يتمتع بجماله، وحضوره، ببساطة لأننا، بالكهرباء، أقصيناه، فلم نعد نعرف سوى النهار..و لعل هذا كله ساهم في اختيار " نجي ليلتي" كعتبة موازية لمجموعتي القصصية؛ والنجي من التناجي.. إذا الناس تناجوا أي تساروا، ومنها النجوى، وهم اسم من المناجاة أي السر ، وهو وصف بالمصدر يستوي فيه المفرد والجمع..ويرى الدكتور ميمون مسلك في كتابه " غواية السرد القصير" متحدثاً عن هذا العنوان أن مؤشرات اللامعقول في المجموعة تبدأ من عنوان " نجي ليلتي"..وهذا أسعدني كثيراً لأني كنتُ أراهن في اختياره على تميز ٍما..

ولا شيء يؤرقني ، كاختيار العنوان المناسب لنصوصي ،وكلما كان العنوان شاعرياً، أنيقاً، وقابلا للتأويل ، وكان أجملَ استسغته مع جرعة من الإيحاء، أحرص أن تكون مادته دسمة طمعاً في تحفيز القارئ على القراءة ، وهذا بالضبط ما أبغيه..

يتضح من خلال "نجي ليلتي" أنك تتكئ على مجموعة من التقنيات الأسلوبية الفنية وأهمها التناص الديني و التراثي . حدثنا عن ذلك ..

هذا سؤال يتكرر كثيراً في جملة من الحوارات، والمقابلات التي أجريتْ معي؛الدكتوران فريد أمعضشو، والدكتور ميمون مسلك ، و نقاد آخرون لهم وزنهم رصدوا هذه الظاهرة في كتاباتهم عن مجموعاتي القصصية، وأنا أرى أن النص إذا لم يراهن على أمرين هما : المتعة والمعرفة فجدير بكاتبه أن نمد له ألسنتنا..

ولجوئي للرمز، والتراث، والشعر العربي... سببه توفير أرضية لهذيْن الشرطين، هذه واحدة، الثانية أرى أن النص السهل الذي يهب نفسه دون أن يجهد القارئ بحيث يخزه كما الإبر هو نص سرعان ما تتقيأه النفس العاشقة، هذا فضلا عن أن التناص المفروض أن يترك المجال مفتوحاً حتى تتعدد القراءات .. كل ذلك من أجل استحضار ثقافة القارئ ووضع نصب عيْنيه مجموعة من الإشارات المرجعية الدالة على كثير من الإحالات المُعِينة على تفكيك النص، والكاتب الذي يضع نصوصه على منضدة التشريح، يحرمها من حيث لا يشعر العمرَ الطويل بحيث تعيش مع قراء كثيرين، كل واحد يقرأها بمقاس مختلف..هم سيقرؤون النص ذاته، لكنهم سيختلفون حوله لأن كوات كثيرة تكون قد فُتحت أمامهم ...
دراسة رصينة، ودقيقة عنونها الدكتور فريد أمعضشو ب " اللغة والأسلوب في مجموعة" ريف الحسناء" :تعدد وتنوع في خدمة رهانات النص" نشرها في جريدة "أقلام الغد" - عدد 31- 2013.. من بين ما جاء فيها قوله: " ولعل أبرز ما يسم مجموعة ميمون حرش كثرة تناصاتها وانفتاحها على نصوص عدة دينية، عربية، وأجنبية، قديمة وحديثة، واستفادتها من أغانٍ وأفلام، واستحضارها شخصيات في جملة من الأسيقة، ولا شك في أن حضور النصوص الغائبة والإستشهادات وغيرها من الاقتباس الصريح، أو الضمني يقوم دليلا على غنى المخزون الثقافي للمبدع ، المؤسس على إطلاع واسع على الموروث الأدبي العربي ... والحق أن هذه النقطة الأسلوبية تصلح لأن تشكل وحدها موضوع دراسة نقدية مستقلة توجه محاورها ، أساساً، لتتبع شتى التناصات في قصص المجموعة، وكذا دلالتها وأبعادها المختلفة.."

وهذا بالضبط ما قام به الطالب الباحث عبد الواحد أبجطيط حين كتب مقالا أنيقاً عنونه ب " جمالية التناص، وأنماطه في "نجي ليلتي "، ونشره في مجموعة من المنابر.. وهو مقال دال حقيقة على بحث رصين من مُثقف ملم، ومطلع..

كيف تعاملت مع المرأة في تجربتك القصصية ؟ وماهي مساحة حضورها في " نجي ليلتي"؟

المرأة في "ريف الحسناء"، و" نجي ليلتي" حاضرة ببهاء.. تحدثت عن المرأة الحبيبة، الموظفة، المعلمة، ربة بيت، الجدة، العاملة.. الحبيبة، المُغتصبة... ويكفي أن أشير إلى أن قصة " الدرس الأول" ص20 إشارة إلى أن المرأة، بما أوتيت من عفة، وكرامة، وغيرة ،قمين أن تقدس.. نحمل على ظهرها كل أثقالنا، وعلى صدرها نرتاح في النهاية.. ثم ما نكون دون امرأة؟.. إنها ملح الوجود..

ومساحة حضورها في " ريف الحسناء" كبيرة..بجد كبيرة..

هل يكتب ميمون حرش لنفسه أم للمتلقي ؟.

حين أخلو لنفسي ، وجها لوجه مع الورقة البيضاء ، أو تلك الأفعى البيضاء كما يطلق عليها حنا مينة ،اُعانق بياضها الناصع بألق العشاق ، وأعتق نفسي قبلها بنص معين.. ..

وجهاً لوجه مع الورقة أكتب لنفسي، أعيش ظروف بعض الأبطال، أنفخ في نطفة وجودهم عبر حدث يمر بتشويق أحرص على تطعيمه كما التصعيد الدرامي في السينما.. ومن خلال الأحداث أبني عوالمهم على صخر لا على رمل ..وإذا استوى البناء ، وكنت راضياً، وغالباً ما لا أرضى ، نشرت نصوصي، وأشركتُ معي قرائي مؤمنا بأن الكاتب دون قاريء هو أعرج، أو هو ،للدقة ، كطفل يضيع في الزحام..

ثم ما نفع كاتب دون قارئ ؟..

دائما يرتبط الكاتب بعلاقة قوية مع المقهى . فما مدى ارتباطك بالمقهى.. ؟

في فترات خلتْ اختُزلت مدينة الناظور في مقهى واحدة، هي باسم "مقهى الدار البيضاء" .. وللنكتة أخبرك أننا في الناظور، سنوات السبعينات، والثمانينات، لم تكن تعني سوى هذه المقهى.. وليس ناظورياً من لم يجلس فيها أو يمر بمحاذاتها على الأقل..

لقد كتبتُ عدة مقالات منشورة في صحف محلية ووطنية عن مقاهي مدينتي.. وفي " ريف الحسناء" تحدثت عن هذا الأمر؛ في نص " ولنا في المقهى مكان" ص71 مثلا أفردت الكلام عن مقهى قديمة ، وأخرى جديدة، في مقارنة مقصودة مبرزاً كيف تتوالد المقاهي في الناظور كما الطحالب في غياب تام وصارخ لبنية تحتية، ومن خلال المقهى تحدثت عن معاناة الندل هنا، وهنالك...

لستُ من النوع الذي يربط علاقة عشق مع المقاهي.. أنا أخلص للأمكنة، تماما كما أخلص للأشخاص، لكني إذا لم أجلس في مقهايَ يوماً ما فلن أزيلها من حساب عمري بلغة أم كلثوم في إحدى روائعها مع تغيير في الموضوع طبعاً..وبالمقابل أردد مع مطرب العرب محمد عبده:" الأماكن كلها مشتاقة لك"..

اليوم ، مدينتي في الناظور تتناسل فيها مقاهٍ من نوع آخر، أقصد المقاهي الأدبية، يسهر على الترويج لها فريق يعشق الأدب، والفن،..وهذه مرحلة جديدة تشهدها مدينتي..

وارتباط الكاتب والإنسان عموما بالمكان الذي يرتاح له دليل إخلاص باذخ ما لم يصل الأمر به إلى حد الوسوسة.

لا زال الجدل محتمداً حول القصة القصيرة جدا. ما تصورك لمستقبلها؟ وهل تلقت الاهتمام النقدي الذي يليق بها؟

القصة القصيرة جدا تشق طريقها بثبات، والنقاد يولون اهتماماً خاصا بها.. وقد لا تفي المواكبة بكل ما يُكتب في هذا الجنس نقداً ، وتنظيراً.. ، وسيستمر الجدل حول القصة القصيرة جدا طويلاً؛ والناس حولها فريقان:

- فريق يعتبرها مجرد حمار القصاصين، يركبه من لا موهبة لهم في الكتابة، وهؤلاء يرون أن القصة القصيرة جدا، سيكون لعمرها نصيب من اسمها (عمر قصير جدا)...

- وفريق مدافع يتوقع لها النبات، والثبات.. وهؤلاء كثر، وفي تفاؤلهم، يرون أنها تضع قدميْها بوثوق فوق الأرض..
لكن ما أخشاه من هذا التراكم اللافت في مجال كتابة القصة القصيرة جداً هو هذا الإسهال الذي لا يراعي الجودة.. القصة القصيرة جداً ليست كلاماً قليلاً فارغاً من الداخل كقصبة: لا فن، لا إبداع، لا معرفة، ولا موهبة..إنما هي اشتغال، وتعب، وجهد، ومعرفة وموهبة.

و الإبداع في القصة القصيرة جدا في تصاعد مستمر ،.. وستشتي سماء القصة القصيرة جداً مطراً غزيراً.. وعلى كتاب الأنطلوجيات مواكبة هذه الكتابات، وعلى النقاد ، كما عهدناهم، دراسة أعمال القصاصين، ولفتهم إلى أمور كثيرة..

انتشرت مؤخراً بين بعض المبدعين ظاهرة تسويق أسمائهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي. ما هو رأيك في هذه الظاهرة ؟..

تقول " بعض المبدعين "!

كلمة (بعض) دالة على القلة، ثم هم مبدعون حسب سؤالك، فما المانع أن يعرفوا بأنفسهم عبر مواقع التواصل؟.
إذا كنتَ تلمح إلى أن ما يكتبه ،في النت ،بعضُ المبدعين وغيرهم كحبات الرمل ، فاعلم، يحفظك الله،بأن القراء قضاة، يحاكموننا، و المفروض ألا نستهين بعقولهم..

قالها الجاحظ قديماً المعاني مطروحة في الطريق.. ، لكن الغث بين، والسمين بين.

ما هو السؤال الذي انتظرت أن أطرحه و لم أفعل ؟

ركزتَ في حوارك الشائق على مجموعتي " نجي ليلتي" ،وهي في جنس القصة القصيرة جداً، وكنتُ أود لو سألتني عن جمعيتنا " جسور في البحث في الثقافة والفنون" وعن مهرجان الناظور العربي للقصة القصيرة جداً في نسخته الثالثة- 2014

أنت شاركتَ معنا، وتعرفت على بعض ضيوف الناظور من الوفود العربية، وكيف أنهم باتوا يطلقون على مدينتنا عاصمة القصة القصيرة جدا..

كلمة أخيرة .
شكري لك لا يوصف، وهذا الاهتمام منك التفاتة ستتعرش في قلبي أيكة وارفة الظلال، سأسقيها بماء العرفان ما حييت..

عبد الملك أقلعي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى