الاثنين ٢٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٦

سامي العامري، في بعضِ شذراته الساحرة الممتعة(4).

هـاتف بشبـوش

كتبتُ الكثير عن سامي ومازال في وريقاتيَ الأكثر إدخرته لقادمات الأيام، أنه الشاعر الذي أستنأنس وأنا أقرأ له، لاأعرف مالذي يشدني اليه، هل هو السحر في فن الكتابة، هل هو المعنى، أم التشكيلة الرائعة لسطوره، أم البنية، أم الموسيقى التي تنداح أثناء قراءة نصوصه، أم الحب الذي ينبعث وكأنه السيل الجارف الذي لانستطيع مقاومته، أم الهدفية الصافية لدى شخصه وشعره على السواء، إنه يختلف عن الشعراء الآخرين الذين لانعرف ماهي وجهتهم، هل هم علمانيون، هل هم متدينون، الكثير من الشعراء يسوقون أنفسهم على أنهم علمانيون أو يساريون، لكنني لم أجد مايشير الى ذلك في تصرفاتهم وأشعارهم. إنهم أصحاب أقنعة متنوعة لاتستطيع أن تؤسس لشعر هدفي خالص كما أيام زمان والشعراء الرموز الذين بقوا في الذاكرة أمثال مظفر النواب، وسعدي يوسف، وأدونيس الذي أعلنها قبل أيام أمام الملأ وقال (إني لستُ متديناً). الشاعر سامي أراه محبا شديدا، يتفحص أسرار المحبوب، يتداعى مرة أو مراراً وسط اللهيب القاتل من شدة الحب، إنها الحياة حينما تلعبُ بنا على الحبلين، وما حيلةٌ للقلب الشاعر سوى أن يقوم بالتفريغ للشحنة القاسية التي تصدأُ في الشريان الأبهر، والاّ فإنها سوف تكون قاتلة لامحال، لنقف عند هذه مع الشاعر:

لم يعرف سرَّ قلبها
ومع ذلك ابتسمتْ له
ولم تبسمْ لذلك
العارفِ بما وراء أسرارِها
قال وهو يعود
ضارباً كفاً بكفٍّ:
بسمةٌ ضِيزى!

في يوم من أيام السماوة والصبا النزق، كان لي صديق مدرساً، أجبره القلبُ الرهيف على أن يهوى واحدة من حسناوات السماوة، وفي يوم كان صديقي هذا قد تبع هذه الحسناء، في شارعٍ من أحياء الغربي في السماوة، وعلى طول الطريق بينما هو سائرُّ خلفها، هي تلتفت إليهِ وتبتسم، فقال صديقي لنفسه إنها تحبني حقاً. مرة أو مرتين وأكثر على هذه الحالة وهي تلتفت وتبتسم، تلتفت وتبتسم، وفي النهاية وصلت للبيت ونظرت اليه النظرة الأخيرة وأطبقت الباب بشدة ودخلت بيتها. فذهب صديقي المدرس هذا الى صديقٍ آخرٍ شقيٍ معروفٍ في الفكاهة ِ والنكتة السريعة، وقص له ماجرى عن الحسناء، وهو يقول له لقد إلتفتت لي أكثر من مرة، بينما أنا كنت سائراً خلفها، فهل هذا يعني أنها تحبني فعلاً، فقال له صديقه الشقي ساخراً: هذه كانت تلتفت في كل مرةٍ ياصديقي، ليس حباً بك، بل كانت تريد أن تعرفَ هل ذهب هذا الحمار إبن الحمار أم هل مازال خلفها. فعاد صديقي المدرس، ضاربا كفاً بكف من البسمةِ الضيزى. لكنّ هذه البسمة الضيزى أيها القارئ، أثمرت في يومها الحقيقي وصارت بسمة واحدة بين زوجين حبيبين، حتى هذه اللحظات التي أدوّنها وحياة صديقي المدرس مع المعلّمة الرائعة التي كان يلهث وراءها حباً ولوعةً، يعيش معها في حياةٍ أشبه بالرومانس رغم قتامة العراق وقساوته.

في أغلب الأحيان المحب يجد نفسه في غربة الروح، أو في منتصف صحرائها، نتيجة عدم الوصال، والفرقة القسرية التي تفرضها الظروف البيئيةِ أو تفاصيل تأتي على حين غرة، فلا عزاء للمحب سوى النوح مع النفس الصادية، لنر ماذا قال الشاعر بصدد ذلك:

مقفرٌ طريقُ قلبي
فلا بلبلٌ أجادلهُ
ولا زهرة أتبادل معها
وجهات الشم!

لأذهب بعيدا كي أعطي الثيمة معنى آخر.. في فيلم بديع للمثل الرائع توم هانكس الذي مثل رائعة الروائي الأمريكي (دان براون ) وهي شفرة دافنشي وملائكة وشياطين. في الفيلم يظهر توم هانكس مع أبيه الكبير في السن والوحيد جالسين على المسطبة في حديقة عامة، الأب يسأل الإبن: لماذا هذا العصفور واقف هناك على السلك، يقول الإبن هو ربما متعب، ثم يسأل الأب لماذا طار إذن ؟ كي يأخذ حريته، يقول الإبن ربما هو إستراح فطار، وأسئلة اخرى من هذا النوع لم تتجاوز بضعة اسئلة، بعدها لم يطق الإبن صبراً على الأب وقال له أما تسكت وتغلق فمك من هذه الأسئلة التي لامعنى لها. يتألم الأب كثيرا على إنزعاج إبنه وعدم تحمله لأبيه في هذا العمر، يعودان الى البيت، وفي البيت يعرض الأب فيلما قديما كان قد سجله لابنه حينما كان طفلا بعمر الثالثة أو الرابعة. في الفيلم الإبن يسأل أبيه أكثر من مائة سؤال والأب يجيبه دون كلل أو ملل وبدون أيما انزعاج، فينظر الأبن الى أبيه الباكي الذي طفق يقول لابنه: هكذا كنت معك، والآن بعد إن جفّت سماء قلبي مما حولي ورمتني الحياة وحيدا منعزلاً تتعامل معي هكذا. ثم يفتح الأب نافذة البيت وينظر الى الشارع فيرى الحسناوات، فيبلعُ حسرة كبيرة تجبره أن يغلق النافذة مرة أخرى. ورغم كل ذلك الشاعر لايستسلم، نراه متحدياً قوياً تصميمياً كما في أدناه:

حتى هذه الأحجارُ
كالأعنابِ أعصرُها لتسقيني

ماهذا التلاعب الرهيب في رسم الصور غير المعقولة في رسم التحدي، الغيرُ معقولةِ الغوص في المتضادات، كيف لنا أن نطحنُ الحصى بأضراسنا بأعتبارها تيناً لينا يثير شهيتنا بأسوده وأحمره، كيف لنا أن نصيّر ثدياً رخامياً باعتباره نهداً كعوباً طرياً بلحمه المعافى ونستطيع أن نمتص رحيقنا منه حد الشبع الشبقي، ما هذا الفرق بين القساوة المطلقة (الأحجار) والحب أو الترافة المطلقة(الأعناب)، وكيف لك ان تجعل الحجر مطواعا لينا، بل يسقيك من ماء كرومه عصيراً عنبيا صافيا، او لربما نبيذا أسكتلندياً أو تشيلياً، أرى الشاعر سامي هنا نبي الكلمة، أو على خطى النبي الذي طاوع الله له الحديد. هذه هي عصارة القلب الشفاف التي يسكبها هنا الشاعر سامي كي نستأنس بها، قبل أن نعصر كرومه، فنجدها ألذ مما نشتهي ونذوق.

مع هذا الأصرار والتحدي يستمر الشاعر في تحمله كذات إنسانية، وعلى طول عمرها القادم من الأزل وهي تتحمل شتى أنواع العذابات، وسط هذا العالم وهذه الحياة التي لاتثمر ولاتنتج غير الموت، ولذلك نرى في الأنطولوجيات الأدبية يقولون على الإنسان بالمعذب، وفي الأنطولوجيات الدينية يُطلق عليه بالمبتلى. لنكن شاهدين على مايقوله المبدع سامي:
بمناسبة يوم الأرض

يقول العلم: ( لو استطعنا ضغط الكرة الأرضية إلى أقصاها

لاستطاعَ أيُّ فردٍ حملها على ظهره.
فكم من الكُرات الأرضية
حملتُ على ظهري في حياتي الماضية ؟
وأُولى الكُرات هَمُّ الوطن
ثم هَمُّ الحُبّ.
وأسألُ ثانيةً:
كم من الكُراتِ حملتُ
وكم من الحيتان والتماسيح
سَبَحتْ على ظهري
وكم من الغابات والحقول أينعتْ ثم ذبلتْ
وكم من الحروب جرتْ
وكم من الزلازل والبراكين حصلتْ
وكم من الحضارات نشأتْ ثم تلاشتْ
وكم من البشر ولِدوا وأحبوا
وتزوجوا وأنجبوا وافترقوا ثم ماتوا
وكم من الحيوانات والطيور والحشرات
فعلتْ الأمرَ نفسَهُ ؟
كلُّ ذلك قد تَمَّ، قد تَمَّ....
على ظهري

يعني أنا وسامي والشاعر والأديب والمبدعون الآخرون حمالو أوجه، يفسرنا الطرف الآخر بمايريده لنفسه، وأحيانا يلقي علينا اللوم لكوننا نكتب بمالايليق والذوق العام، فيتوجب علينا أن نتحمل كل الرشقات التي تأتي صوبنا. الوطن بكل مايحتويه من طغاة وجلاوزة، يتحتم فيه على كل شاعر أن يحمل همومه وينشد التغيير. كما وأن الإنسان بشكل عام له من القابلية على تحمل المآسي بشكلٍ عجيب، يقابلُ الموت بشتى صنوفه، الموت الذي يأتي عن طريق الحروب، أو الأوبئة، المجاعة، الزلازل،أو عن طريق أخيه الإنسان نفسه حينما يتخلى عن الضمير الإنساني، وبالنتيجة مهما فعل الإنسان من تزاوج وتناسل، في النهاية فأن مارد الموت يقضي عليه. كل هذه تحصل على ظهر الإنسان. لكن هناك حالة فلسفية عميقة وحزينة يتأملها رائد الحزن والتراجيديا أبو العلاء المعري، حيث يقول: هناك من يحملنا على ظهره حينما نقف على طريق الصراط المستقيم، النساء الملائكيات في يوم القيامة يَحمِلننا على ظهورهن، كي نعبر هذا الطريق الذي ما أن سقطنا منه تلقفنا النار الأكول، هذا ماقاله ساخرا ابو العلاء، في اللزوميات، فهل ياترى نحن من الناجين لأننا فوق ظهورهن، دون أن يمسنا شئ من الشبق ونحن متلاصقون جسدا بجسد أثناء حملهن لنا، وماهو الحكمُ علينا ونحن في نهاية مطافنا مع الصرط المستقيم نتيجة هذا الشبق الحاصل لامحال، هذه هي جدلية ابي العلاء في اللزوميات.
بالنتيجةِ نحن زائلون، لكن سامي الشاعر يريد أن يقول أنّ سراج الشعر يظل عاليا مرفرفا لاينطفئ أبدا، لنر ماذا يقول بشأن ذلك:

لستُ بحاجة إلى رؤية العالم
لأعرفَ أنني زائل
ولكنني بحاجة إلى رؤيتك
لأعرف أنني باق!
*-*
فتحتُ نافذتين
واحدةً تطل عليك لتلتهم نسائمك
وأخرى تعيدها إليك ملونةً بأشواقي!

كلا الفلقتين أعلاه تؤديان الى نفس المصب، في المعنى على وجه التقريب، حيث إنّ كل شطر يتعلّق بالثاني، ولايمكن لنا ن نجتزىء جزءاً ونترك الآخر، الشطران مترابطان معا لايمكن لهما الأنفكاك عن بعض، كل يتنفس من الآخر، كل تجري في عروقه دماء الآخر، كما الجنس البشري، الذكر والأنثى، الشاعر وملهمته، الفارس والعظيمة التي تقف وراءه، حينما يكون المرء في منتصف هذا العالم وحيدا في عزفه ومامن أنفاس تحيّي وتصفق له، أو على ألأقل يدُّ ناعمة تسقطُ فوق جبينه إذا ماأصابته الحمى من ضوضاء هذا العالم الملئ بالإفرازات التي لاتعجبنا في الأحايين الكثيرة. المرء وحده عقيم، ومعه ( الجنس اللطيف) هو العالم بأجمعه، هو التناسل اللامحدود، هو الإخصاب، وهي ربة الشفاء العامرية، هي جيني زوجة ماركس العظيم في رحلته الى الفردوس، هي كليوباترة في رحلتها مع أنطونيوس الى عالم الخلاص والأبدية، هي كل مايتعلق بالرؤيا الناصعة التي تجعلني أحس بكل كياني أنني هاتف بشبوش ولازلت على قيد الحياة، رغماً عن كل ما يكون من شأنه أن يرمي بي الى عالم الزوال. نصّان رائعان كالتوأم السيامي، توأمان في الشكل وفي النغمة الموسيقية والإيقاع اللذين صنعهما رأس الشاعر الكبير سامي. ثم يستمر الشاعر في رسم هذه الجدلية وكيفية رؤيتنا للآخرين كي تشعرنا بأننا باقين، وخصوصا تطرأ هذه الحالة حينما يحتضر الإنسان وهو يرى عوّدهُ يملؤون البيت، وهنا يدخل الشاعر في صلب ماهية البحث عن الإنسان، ومكنوناته، كما في الثيمة أدناه التي يناغي بها أسلوب الفلاسفة:

أن لا يفهمني الناسُ
خيرٌ من أن يُسيئوا فهمي!

ليس المهم أنك كذبتَ علي ولكن الأهم أنني ماعدتُ أصدقك، كما وأنّ الفيلسوف الصيني العظيم كونفوسيوش قال (لا يهمني قط أنّ الناس لا يعرفونني؛ ولكنني أعمل على أن أكون خليقاً بأنْ يعرفني الناس).

يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــع في الجــزء الثانـــــــــــــــــي

هـاتف بشبـوش

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى